منير العبيدي: quot;اكتب على يد عادل السليمquot; هو قسم من رواية تحت عنوان quot;طفولتي غزال ينط فوق قوس قزحquot;. كاتب الرواية هو الكاتب الكوردي كاروان عمر كاكه سوور، كتبت الرواية أصلا باللغة الكردية، اما الجزء الذي بين يدي القارئ فقد ترجم إلى العربية و عنوانه يحمل اسم الراحل عادل سليم الشخصية اليسارية الكردية البارزة الذي يرد اسمه أيضا في متن النص في أكثر من مكان. بالرغم من يقيني بأن اسلوب الكاتب التلقائي و البسيط يسم جميع أعماله، الا ان هذه البساطة و التلقائية هنا بشكل خاص تتوافق مع تلقائية بطل قصته هذه، فعادل سليم كان شخصا صادقا و مباشرا في علاقاته مع الآخرين و قد عرف في عدة مناسبات انه يقول الحقيقة بكل هدوء و ثقة و بلغة صافية تصدر من اعماق نفسه و قد التقيت الراحل عادل سليم في أكثر من مناسبة أحدها ضمن وفد إلى بلغاريا في سبعينات القرن الماضي.
و لد الكاتب كاروان عمر كاكه سوور في مدينة أربيل في عام 1964 و يعيش حاليا في الدنمارك، حاصل على بكالوريوس في الآداب جامعة الموصل قسم التاريخ. أصدر حتى الآن 6 مجاميع قصصية وله مجاميع قصصية أخرى تحت الطبع. يكتب و ينشر في الصحف و المجلات التي تصدر في إقليم كردستان في مواضيع أخرى متنوعة: فلسفية، فكرية و نقدية و قد أصبح بفضل كتاباته من الأسماء المعروفة في الأدب الكوردي المعاصر.
قد تكون المراجعة اللغوية عملية مملة و مرهقة، لكني ما أن قرأت قسما يغطي أقل من صفحة واحدة حتى و جدت نفسي أمام نص ممتاز بمعنى الكلمة و أن بامكاني أن أقرأه مرات، كما تقتضي المراجعة، دون أن أشعر بملل او ضيق و إنما على العكس تماما شعرت بمتعة كاملة.
يبدأ الكاتب بضمير المتكلم متحدثا عن علاقة طفل بطائرة ورقية، و لكنه مسترسلا في ذلك لا يخجل من الاعتراف بولعه بالنساء رغم صغر سنه، ثم يربط بين هذين الولعين الذين امتلكا قلبه: النساء و الطائرات الورقية، بل انه يجد بينهما تشابها قائما و إلا فإن عليه أن يحور طائرته الورقية لتبدو و ظلها على الأرض مثل أجساد النساء.
هيمنة quot; القضية quot;
أول انطباع ترسخ لدي هو أن الكاتب، و هو كاتب كوردي، لم يكن خاضعا لهيمنة قضية شعبه بالمعنى المباشر للكلمة. فكما في الكثير من أشكال الإبداع التي مارسها أبناء شعوب مظلومة، كالفلسطينيين مثلا، فإن هاجس الواجب قد اسقط الكثير من الأعمال الإبداعية في المباشرة و الإفتعال او التسييس. إن نصا إبداعيا تلقائيا، حقيقيا و صادقا بوسعه أن يقدم خدمة لقضية شعبٍ ما أكثر بكثير من نص مسييس أو حتى نص يسعى الى تصوير حياة مناضلين في سبيل القضية. ما فعله كاروان انه عرفنا بثقافة شعبه بأن قدم لنا دون افتعال مقطعا دافئا مليئا بالحياة يمثل لقطات حية لحياة يومية يمارسها عامة الناس، بهذا، كما أرى، قدم خدمة لشعبه دون أن يضع ذلك على جدول أعماله كهاجس مهيمن، قدم لنا ببساطة أدبا حقيقيا يود أن يقول اننا نعيش كما يعيش الآخرون و كما يعيش الناس الطبيعيون في كل مكان، فلنا احلامنا كأطفال و كراشدين و نتمتع بالطائرات الورقية و ربما نتمتع برفقة النساء حتى قبل أن نكون مؤهلين تماما لذلك، نحن لا نعرف فقط ان نقاتل و أن نموت في سبيل القضية كما تحاول ان تصورنا الثقافة وحيدة الجانب بل نعرف ايضا كيف نعيش و نتمتع بالحياة. يكفي ان ننظر الى وصف الكاتب من خلال عيني و ذهن طفل يحكي لنا تغزله بالفصول و رؤيته للغيوم و صورها و رائحة الارض عند أول المطر و جمال السماء بل و حتى جمال اللون الاسود اللامع لجاموسة منعة الخوف من لمسها.
لم يكتب كاروان موليا ظهرة للكتابة المباشرة المهتمة بالقضية فقط و لم يتناول حياة طبيعية لناس طبيعيين فسحب بل قدم لنا ادبا رفيعا يمتاز بأسلوب طليعي من خلال تلقائية و انثيال للأفكار غير المرتبة و غير المنقحة تماما كما قرأنا في الأدب المعاصر الذي قدمه لنا تيار الوعي في الرواية الحديثة و ما يصار فيها من تسجيل تقاطعات الافكار و تداخلها، فكان نصه مزاوجة بين البساطة و التلقائية من جهة و بين حداثة و اصالة ريادية.
طفولة مستعادة
الجوهري في اسلوب كاروان هو المحافظة على التلقائية و الاستطرادات الواردة في ذهن طفل، و قد جرب تيار الوعي ان يكون واقعيا تماما، أكثر واقعية من الأدب الواقعي نفسه ( الذي سبق تيار الوعي ممثلا في جارلس ديكنز أو المتأخر أميل زولا الذي وصف بأنه quot;طبيعي quot; ) بأن عكس الأفكار كما هي بدون إعادة تنظيم و بدون اضفاء منطق عليها، فالأفكار تتقاطع مع بعضها البعض و تبدو احيانا في حالة من الفوضي، فيها تتزاوج اللحظة القائمة مع خزين الذاكرة. الكتابة وفق هذا المعنى تشبه لوحات دالي التي تتمثل في عناصر من الذاكرة الصورية منفذة بعناية و تبدو طبيعية طالما أخذت منفردة و لكنها ذات علاقات غير منطقية أو غير مألوفة مع بعضها البعض كما في أحلامنا و كوابيسنا بل وحتى في أفكارنا اليومية التي نمارسها في كل لحظة.
أنا أجلس الآن امام الحاسوب و أكتب و لكنني في الوقت نفسه أفكر في أن أعد لنفسي شايا و أتذمر من الطقس الممطر و أفكر أن احلق ذقني و تشغلني مهمات عديدة تنتظرني، كل ذلك يجري في وقت واحد رغم إني مستمر في الكتابة. لماذا لا يعكس الأدب أو الفن هذا كله و يلجأ بدلا من ذلك إلىquot; تنقية quot; الأفكار من quot; الشوائب quot; رغم أن الأفكار هي بطبيعتها متداخلة و متنوعة؟
كنا جميعا أطفالا و لكن القليل منا يستطيع أن يتذكر ذلك و الأصعب أن يتقمص طفولته و طريقة تفكيره أو أن يستعيد طرق التعبير التي كان يمارسها بتلقائية. العبقرية في بعض تجلياتها هي طفولة مستعادة. شارلي شابلن وجد أن المهمة الصعبة هي كيفية إنتاج عمل يرضي الصغار واعتبر إن موقف الصغار من عمله هو معيار مهم، بيكاسو قال إنه كان بحاجة الى ممارسة الرسم لعشرات السنين لكي يستطيع بعدها أن يرسم مثل طفل، قبلها كان فنانون متمرسون قد راقبوا أعمال هنري روسو الطفولية باندهاش لأنه رسم دون أن يفتعل طفولته ذلك لأنه لم يغادرها أصلا، و أشاد تشيخوف بقدرة الطفل على التعبير و كيف إنه يذهب الى الهدف مباشرة دون لف ودوران، و لكننا حين نتقدم في العمر نلف و ندور وربما نتحذلق لكي نصل إلى النقطة التي نريد التعبير عنها.
و لكن أليس الغموض جميلا ايضا؟ إلا تبدوا الاشياء غير المكتشفة واعدة بشيء يفوق الاكتشاف؟ و هل يفسد الفهم الحرفي جمال الغموض؟
الفهم يفسد أحيانا جمال الغموض!
الغموض هو ليس نقيض الوضوح و انما هو انك تقف امام باب غير مفتوح بعد سُمح لك بأن تتجول في البيت و تلج كل غرفه و مسالكه دون باب واحده لم تفتح، فتجد نفسك في حل من الواقع و الحقائق الملموسة ما يثير خيالك فترى خلف هذا الباب سلم يؤدي بك ربما الى عالم آخر لا يشبه ما رأيت و ما فكرت به، و لكنك ما أن تفتح الباب حتى تبطل سحر الخيال فتجد نفسك امام عالم واقعي تماما و ان الباب قد ادى بك الى ما تراه كل يوم و لحظة فجردك من خيالك.
ربما سيجد القارئ العربي تعبيرات غير مألوفة في لغة الكاتب، و في المراجعة آثرت أن ابقي على الكثير منها دون تغيير لانها كما أرى تمثل ثقافة شعب آخر فسيجد القارئ مثلا أن طفلا يصيح تعليقا على وفاة درويش quot; عظام الدنانير مزقت أمعاءه quot; مما أثار استياء رجل مسن فصار الى رمي الطفل بالحجارة شاتما إياه مكررا العبارة نفسها.. وجدت هذا التعبير غامضا و جميلا او ربما غير مألوف على الاقل.
يخطر ببالي إطراء ادوار سعيد لمقطوعة موسيقية فيقول عنها: ستبقى بشكل مشرف غير مفهومة! هذا عنى لي:
أولا: ستبقى غير مفهومة بمعنى ستفهم في يوم من الايام حتما و لكنها حتى الآن ممتنعة، إنها لا تعطي نفسها بسهولة بسبب من انها حتى اللحظة ارقى من مستوى معدل الفهم البشري و لكنها غير ممتنعة عن ذهن ثاقب مثل ذاك الذي لديه. ان فنا و ادبا يعطيان نفسيهما بسهولة، يُستنفذان بسرعة و بنفس السهولة.
ثانيا ـ بمعنى أن الفهم هو تهويم الفهم و الشعور بالشيء بطريقة غامضة ربما لا تفسرها الكلمات.
و قد وجدت في هذه الصياغة مثلا صورة فيها غموض أو ابتعاد عن المألوف. كما سوف يرد في النص العديد من الصياغات و طرق الحوار و الوصف ما يشكل من وجهة نظري اضافة مهمة لطرق التعبير لدى ثقافات أخرى يلجأ المعرب أو المراجع الى تعديلها بما يتناسب مع المألوف المكرر في اللغة المترجَم اليها.
أليس ثمة بعض التناقض فيما ورد؟
لا اجد ذلك. الغموض هو ليس الصعوبة، انهما شيئان مختلفان تماما فالصعوبة التي قصدتها هي تلك التي يسعى لها كتاب كهدف مقصود في كامل النص تغطي احيانا على عجز ابداعي، اما الغموض فهو من ظواهر الحياة الطبيعية، و هو عدا ذلك يثير خيالا خلاقا طالما لم تتوفر القدرة على تفسير علمي أو تبرير منطقي له.
ثمن الصعوبة اللغوية ليست الثرثرة اللغوية و انما فكر وفلسفة و صور جديدة تبلغ حدا من العمق لا يجاريه المألوف من الكلام مما يستحق دفع الثمن صبرا و تأنيا ثم مكافأة ترتقي بالذات إلى مستوى لغوي و رؤيوي جديد حان اوانه و اوجبه نص او صورة استفزازية تفوق المألوف تحفز و تشحذ القدرات الكامنة.
ذاكرة القدرة التصويرية للكاتب، قدرته على توظيف الأحلام مع استعادته للغة طفل تشي بذاكرة وقادة.
وظف الكاتب الصورة بشكل طاغ فقد شكلت الكثير من فقرات النص تتابعا للصور كما في حلمه حين كان تلميذا فرأى رؤوس الناس و قد تحولت إلى سبورات. و حين يسمع أن أبا عادل قد بُترت ساقه و دفنت و انه حين يموت سوف يدفن إلى جانبها يتملكه نوع لم يألفه من الخوف، و هو ينظر مساء من النافذة الى quot; الكونكريت البنفسجي quot; لباحة المنزل كما يكتب quot; كنت اتخيل ان الساق التي دفنت قد تظهر خلف شيءٍ ما وتمشي في باحتنا.. تصعد من خلال الأدراج و تصل الى سطح المنزل.. ثم تهوي بنفسها من فوق سياج الدار، ثم تقوم و تخطو وسط الحديقة فيعلق بها طينها.. تسحق في الليل، شيئاً فشيئاً، الضفادع التي تجد الفرصة فقط في خيالي المشوه الفوضوي quot;
و أخيرا هذا النص هو نص انساني مهمتة القاء الضوء على براءة الانسان في جوهره، بكلمة أخرى في طفولته، اللغة موظفة هنا لهذا الغرض، الدفئ البشري المفتقد في المغرقات اللغوية من النصوص تم تجاوزه الى البساطة الممتنعة.

نقدم هنا مقاطع من نص الكاتب كاروان عمر كاكه سوور
اكتب على يد عادل السليم
quot;يرتخى الخيط شيئاً فشيئاً.. الطائرة الورقية تطير و تطير كامرأة فارعة الطول تستلقي بغنج على عشب طري ناعم. لطالما رأيت مثل هذا المنظر في الأحلام.. نعم، الطائرة الورقية تمتد برقة وتتمايل في السماء... و تنخفض.. يخال اليك بأنها مقطوعة، غير أنها فجأة، و قبل أن تصل الى الأرض، تشّد يديك فتسحبها اليك و ترخي، تسحبها إليك و ترخي، حركة فيها نوع من الغرابة... حالة مختلفة... تقوم بفعل شيء و تقصد شيئاً آخر كحاقد يستغيضك عن بعد، صوتك لا يصل اليه، فتومئ اليها ملوحاً بيدك: quot; انا أعلم ما سأفعل بكquot;، الحركات و إن تشابهت، فان الغايات مختلفة تماماً. في غضون ذلك، تعلو الطائرة و تعلو، هنا يبرز إحساس آخر.. إحساس يخبرك بأنك ذو سلطة.. كنتُ قد لففت الخيط على علبة معدنية، والعلبة هنا ليست كقطعة خشب أو بكرة، إذ يمكنك أن ترخي الخيط أو أن تلفه بسرعة كبيرة، مذاقها أجمل.. و أحياناً تدق بأناملك أسفل العلبة كالطبل و تغني.. الى أن ترتفع طائرتك أكثر. هذا الإحساس يكبر كلما علت الطائرة لولا أن خيطي قصير... سرقته من درج ماكنة خياطة أمي.. أوصالٌ عقدتها.. و أنا أصنع الطائرة الورقية سراً و أطيّرها خلسة.. و ربما يكون ((طفل يطير طائرة ورقية خلسة)) عنواناً عجيباً لقصة، لكن ماذا عساي أن أفعل، هذا أنا.quot;
quot; لديّ حلم...... أن أصنع طائرتي الورقية على هيئة امرأة ترقص، تشبه الراقصات اللواتي شاهدتهن في التلفاز و اطلت التحديق فيهن، (تحية كاريوكا)، (سامية جمال)، (هالة فؤاد)، (سهير زكي)، و أخريات كثيرات. أحفظ علامات أجسادهن شبه العارية بالتفصيل أكثر مما أحفظ نشيد المدرسة. و أود أن أزين طائرتي لتصبح مثل أجسادهن شرائط براقة، تول أبيض شفاف، و خرز ذات فصوص، و أعطيها طقاقتين quot;طق طق طقquot; تضربهما ببعض في الهواء. عندها أدق العلبة كالطبل، و لكن دون و عي مني، أغني لهن أغنية تليق بهن: (يا فرحتك... تر..رن... يا فرحتك.. تر..رن.. تر..رن.. يا فرحتك يا هناكي.. يا هناكي.. ترنن نننن ننن). مثل العديد من أطفال المحلة أحفظ هذه الأغنية المصرية و غيرها، دون أن أفهم تماماً معاني كلماتها. خمس راقصات ناعمات يرقصن معاً مع هذه الأغنية التي شاهدتها في فيلم لـ (نجيب الريحاني). مع أن هذا اللحن أو هذه الأغنية، كما تتجلى في كلماتها، تحكي عن الفرح، لكنها عندي تمطر الهموم أضعاف ما تمنح من السرور،لأنني، هكذا، أتلذذ بأغاني الحزن، لشيء واحد فقط، إنها تذكرني بالماضي.quot;
****
لا يستطيع هذا المطر السحري أن يغيّر شيئاً من الوجه الحزين لتلك المرأة، التي عرفتُ قبل لحظات تحت مطر الخريف هذا أن اسمها (ﮔﻭلبه هار).. و علمت حين اطلقت على الدم خوون(1) بانها من مدينة كويه(2) لأني تعلمت هذه الكلمة من بيت جيراننا (عادل).. عندما أرادت أمه أن تنشر الغسيل على الحبل، غضبت منا و قالت:
-الآن توقفوا عن هذا كله.. خوون أو خين سواء.......؟!
يقول لي عادل:
-نحن نسمي دمائنا خوون.. و أنتم سموا دمائكم خين.. إتفقنا..؟!
أنا لا أجيب خوفاً من أمه، لكن أشعر إن الكلمات التي تنطقها تقطر منها الدماء.. تملكتني رغبة بالبكاء، أود أن أقول له: quot;من الآن فصاعداً، سوف أسمي دمائنا و دمائكم و دماء جميع الأربيليين خوون.. أنت لا تعلم إنك، دون قصد منك، كيف بهذه العبارة البسيطة ملأت قلبي بالـquot; خوونquot;.. أفكر في تلك المرة التي أخبرني فيها أنهم دفنوا ساق والده في قبر.. و حين يموت، يدفن هناك مع ساقه.. في تلك الليلة انتابني الخوف كثيراً.. لم أجرؤ على الذهاب حتى الى الرواق بمفردي.. و بهذا الخوف كنت أنظر من النافذة الى الباحة.. و كجميع الليالي السابقة، كان الكونكريت البنفسجي لباحتنا يشبه البركة التي كانت خلف منزلنا القديم، لكن خوفي منها كان هذه المرة أكثر.. كنت اتخيل ان الساق التي دفنت قد تظهر خلف شيءٍ ما وتمشي في باحتنا.. تصعد من خلال الأدراج و تصل الى سطح المنزل.. ثم تهوي بنفسها من فوق سياج الدار، ثم تقوم و تخطو وسط الحديقة فيعلق بها طينها.. تسحق في الليل، شيئاً فشيئاً، الضفادع التي تجد الفرصة فقط في خيالي المشوه الفوضوي، الضفادع التي تأتي من البُرك القريبة من منزلنا الى داخل الباحة و الحديقة.. فجأة تتسلل الساق من نافذة غرفتنا و تسقط على مدفأة من نوع علاء الدين.. تنقلب المدفأة فتضرم النار في الفراش... يهرع الناس من كل فج عميق لاغاثتنا محاولين اطفاء النار.. لكن ما أن يرشوا الماء على النار حتى تتحول الى دماء تفور نحو السماء...
****
(أمير) حفيد (الحاج رمضان الريحاني) كان يعرف جيداً لو أن جده طرد بيت (عادل) من داره، خوفاً من أن تهدمها الأرانب، فإنه و عماته كانوا سيُحرمون من مشاهدة التلفاز و عليه أن يذهب شأنه شأن معظم أطفال المحلة الى كازينو (فاطمة الخبازة) و يتفرج هناك بخمسة فلوس.. عندها كان يأتي جده و يعود به الى المنزل بعكازه.. بعد أن يكسو شاشة التلفاز بالبصاق.. لكن (أمير) أخبرنا أكثر من مرة أنه ما إن يموت جده، حتى يشتروا تلفازاً في الحال.. الى الآن لم أرَ أحداً مهووساً مثله بالتلفاز.. يعرف أسماء جميع الممثلين السينمائيين.. يقلد معظمهم.. و بصوته يؤدي الأغاني بطريقة تثير الإعجاب.. كان يؤكد دائماً على أن (نجيب الريحاني) هو ابن عم جده.. كنّا نعلم بأن الممثل الذي يُعد مؤسس السينما المصرية هو كوردي و قد هاجر أبوه التاجر من (كوردستان) الى (مصر)، حتى إذا دققت النظر فيه تدرك أنه يشبه رجال (محلة سيداوة) فهو مثلهم، ترى السعادة تخيّم على وجهه في قمة الحزن و في قمة السعادة ترى الحزن يكسو محيّاه، رغم ذلك لم يكن من السهل أن نصّدق أنه إبن عم جدّه.. حتى و إن كان لديهما اللقب ذاته.. أين هذا من ذاك..!!... يوماً بعد يوم يزداد أمير بغضاً لجده.. كان يقول فيما عدا (الريحاني) الذي يصلح كلقب لممثل قدير، و الاّ فان زرق الديك الرومي أفضل منه.. و كثيرا ما كان يلقي باللائمة على جارنا (العم جبار).. يقول هو الذي أخبره ما إن يحل الظلام، حتى يعرض هذا التلفاز نساء عاريات.. في الشتاء كان جده يجلس عدة ليالٍ على سطح منزلهم ينظر الى هوائي التلفاز منتظرا أن يرى أولئك النسوة تحط عراة في الليل عليه كما تحط الطيور عليه في النهار، بعدها يصاب بمرض فتاك و لكنه ينجو من الموت، لكن (العم جبار) ما لبث أن أفهمه أن الأمر في الداخل.. لم نعلم هل هذه حقيقة أم أن (أمير) قد ألفّ ذلك من تلقاء نفسه، فذلك كان متوقعا منه على أية حال، على أن ما كان جلياً لنا هو أن (الحاج رمضان الريحاني) يعادي هذا الجهاز للغاية.. و كان (أمير) يحلم باستمرار باللحظة التي تفارق فيها الروح جسده في فراشه البالي، أو أن تنزلق قدماه أمام باب الدار و يقع على ظهره على الأرض الصلبة، لكن خطواته النشطة لم تبّين أن حلم حفيده من الممكن أن يتحقق بسهولة، فما كان يمسك بعكازه إلا من أجل أن يكون مخيفاً ليس الا. حين كان يذهب الى بيت (عادل) و يضرب به الباب و الجدران بقوة.. أو كان يرمي به بكل ما أوتي من قوة نحو الأرانب.. أنا سمعت مثل كثير من أطفال المحلة بأن (أمير) ينوي أن يخنق جده و هو نائم في إحدى الليالي أو أن يضع له سم الجرذان في الطعام.. هذا البغض الذي يكنه لجده، كان هو الذي يساعده على تقليده بأفضل ما يمكن.. و هذا كان بحد ذاته تمريناً، حين يصبح ممثلاً في المستقبل، أن يلعب دور عجوز عنيد عدواني... إذ إنه كان يخطط دائماً كيف ينّمي نفسه من الآن لكي يرحل بعد عدة سنوات، حيث في البداية يذهب الى (مصر) كي ينال الشهرة، ثم من هناك يسلك الطريق الى (أميركا) و يعود بفضل أفلامه المتتالية إلى وطنه بعد تحقيق ما يطمح اليه من شهرة.. كان يركض على سياج باحة مدرسة (القاضي محمد) رافعا يديه الى السماء.. و كثيراً ما كان يطلب من الآخرين أن يوثقوهما له خلف ظهره ليذهب متعرجاً من هذه النهاية الى تلك.. سقط عدة مرات، فأصيبت ساقه، أو انكسر واحد أو أثنين من أضلاعه، و لطالما تخدشت جبهته، لكنه اعتاد الأمر في النهاية.. كان يتسلق سلالم خزان الماء العالي في (سيداوة) و يبدو بحجم حمامة.. يتكلم من هناك بصوته المدوّي كممثل قدير.. كانت حياته في خطر مستمر.. لم يكن أحد يعلم كيف سيتخلص منه.. و في احدى المرات ألقى بنفسه تحت عجلة سيارة مسرعة، أراد أن يمثل أنها صدمته، أوشكت تلك (الدوج) أن تسويه مع الارض.. إصفّر وجه السائق.. كان شاباً نحيلاً.. يرتدي قميصاً أبيضاً و بنطالاً أسودا، نزل من سيارته وسأله:
-لماذ فعلت ذلك يا إبن....؟!
أجاب أحد أصدقائه:
-هذه تمثيلية.. بعد سنوات سيذهب الى مصر و يصبح ممثلاً.
اشتد غضب السائق أكثر:
-اليس من الأفضل أن يرسل أمه أولاً لعلها، قبل أن يصل هو، تجد له مكاناً جيداً في الملاهي هناك..؟!
أجابه ابن خالته (مازن أحمد) و الذي كان أكثر شخص يشجعه ليكون ممثلاً:
-أنت الآن تسخر، لكن سترى في يوم من الايام كيف سيقّبّل الفتيات الجميلات مثل نجيب الريحاني، إبن عم جده،.. ستحدق بعينيك و تشاهده في التلفاز.
-لتذهب الآن أمه لتكون مثل هند رستم بنت خالتها، و هدى سلطان، بنت خالها، و تكون في حضن رشدي أباظة في أحد الأفلام و يلاعبها عماد حمدي في فيلم آخر، ثم عندها.....
قال (مازن أحمد):
-عندها ترفع خالتي رأسنا و رأس محلتنا أيضاً.
-
*****
أليس ما كتبه كاروان ممتعا حقا؟

هوامش:
1 ) كلمة خوين تعني (الدم) في الكوردية الفصحى، لكن في بعض اللهجات العامية يطلق عليها (خين)، باستثناء لهجة قضاء (كويه) التي تكون فيها (خوون). (المترجم).
2) كويه هي قضاء تقع شرقي مدينة اربيل بـ 70 كيلومتر (المترجم).