منذ صباه، وهو حريص على أن يجلسَ على ضفة شط العربِ، وبالتحديد على المسنات , أو ما نسميه بلغتنا الدارجة (المسنّايه) وهي من الصخوِر أو الاسمنت لتحمي الجرف من الأمواج، حتى بات معروفاَ، لكل الصيادين، الذين يمرون عليه، كان القريب يسلم (السلام عليكم) والبعيد (آو ياخـ.......إل). كان يمازحهم.. ويقفون أحياناً ويشاركونه بعض مما يأكلهُ ويشربهُ، حتى بات مضرباً للمثلِِ بالكرمِ والمرحِ ِ، فحبه للنهر وعشقه للياليه المقمرة.كانت سلواه وآمالهُ التي غادرته منذ زمن وآماله القادمة... تأخذُه النشوة عندما تحرك الثمالة رأسه، يحدثه احد الصيادين وهو ماراً بالقرب من الضفة قائلا:ــ
ــ ها يا خال... السنة، على غير عادتها، الصبورة غاليه، فمنذ الصباح والى الآن صيدنا يُعَدُ على الأصابع!!.
يهزُ رأسه وهو يتابع ضربات المجداف على الماء بالاتجاه المعاكس وهو يعبث بصورة القمر، يكسرها إلى أجزاء وبعد فترة ترجع لتلتئم وتتموج وهي تتعقب زورق الصيادين المتعبين.
تنساب من صدره تنهدات كالعاشق، ينظر بعيدا حيث يبسط القمر ضوءه على وجه الشط، وتلقي أشجار النخيل بظلالها على ضفتيه. انسجمت مع حركة الأمواج الصغيرة المتلألئة، التي داعبتها نسمات الليل الهادئة، شكلت خطاً فضياً يتراقص بهدوء... سحب خيط الصيد، ليبدل الطعم في السنارة، يحدث نفسه:ـ
ــ حتى السمك تطور، و عرف الطعم أو عرف خيط الصيد. سأبدل الطعم هذه المرة من التمر إلى العجين المخلوط بالجبن، عسى هذه المرة أحظى بشيء يهبه لي الشط، هيه..هيه.. لايدري الصيادون، إن حالي مثل حالهم، ويحدث الشط:ــ
ــ أنا أعرف إن ماءك قد تغير، ازدادت ملوحته، وأصبحت أكثر سواداً، ألا تدري يا صديقي إن الإنسان قاسياً؟ لكن حالك كحال الآخرين، الذين تغيروا، وأُكدُ لكَ انكَ ستبقى، لأنك ابن هذه الأرض المعطاء، وهم يرحلون.
ـــ أتنظر معي إلى القمر، أنه ينشر ضوءه على ضفتيك ويزيدك هيبة وجمالاً!! أرجوك أن تتكرم عليً(بحمًريه) صغيرة لأغير رائحة معدتي؟
نظر إلى زجاجته، رفعها قليلا.. زَمً شفتيه حتى أنتِ طالك الجفاف، أسترسل في كلامه.. منذ كنت شاباً وأنا أحرص على الحضور في هذه الليالي، ، لما لها من جمال خلاب وهيبة في التأمل. وخاصة في الربيع، عندما يكون مدًكَ قد بلغَ مستواه ولون ماءك داكناً
، مائل الى الحمرة، ويحمل معه كميات من الطين الأحمر، نسميه (الدهله) يقول أجدادنا إنه يحمل الخير، ويزيد الأرض خصوبة.. والآن أيها النهر هجرك أهلك، حتى السمك لملم نفسه وهاجر حيث لا ادري، وأظن إن الحرب قد بدأت..!
أنهى حديثه، وهو يسحب خيط الصيد، ويطويه ويدندن، بأغنية شعبيه (يا حريمه يا حريمه) همً بالنهوض لأن الليل أنهى نصفه الأول.
ــ ناداه صوت من بعيد... هيه.. هيه يا خال، متى نراك؟
ــ أومأ بيده قائلا ً:ــ
ــ احسب حتى تأتي مثل هذه الليلي؟
ــ ألم يحالفك الحظ هذه المرة؟
ــ رفض الشط أن يهبني ولو(حمريه)صغيره، لأنه زعلان!!
ــ أليس من حقه أن يزعل يا خــــــــال؟
ــ نعم من حقه لأن أهله لم يعطوه حقه!.
خطى خطوات إلى الوراء وانحنى إجلالاً كأنه في حضرة أحد الكبار، ليعبر قنطرة صغيرة من جذع النخيل، توقف قائلا:ــ
ــ عندما جئتُ في أول الليل كانت قصيرة طولها خطوتان، والآن أظنها أكثر من ثلاث.. عجيب غريب.
إيه..هو كلشي تغير، حتى جذع النخيل، رفع رأسه إلى السماء، حدق بالقمر أشر بإصبعه..
ــ موعدي معك، في مثل هذه الليالي، إذا الشط سالماً وفي مكانه.!
حالفه الحظ وخطا عدة خطوات.. ليعبر القنطرة، وهو يحمل هموم الشط وما فيه!!.

[email protected]