كامل الشيرازي من الجزائر: دعا الأكاديمي الجزائري البارز quot;سعيد بن زرقةquot; إلى استثمار المشروع العقلاني الذي أنتجه العلاّمة الجزائري الظاهرة quot;محمد ابن أبي شنبquot; (1869م- 1929م)، ورأى بن زرقة أنّ ما خلّفه ابن ابي شنب الذي صنّفه باحثون كـquot;ظاهرة علمية نادرة الوجودquot;، جدير بإثارة أسئلة عميقة واستقراء سيرته بشكل يتناسب مع التحولات التي يعيشها العالم، واستثمار عقلانية أول دكتور جزائري في تغيير الذهنيات.

وركّز بن زرقة في مداخلة له أنّه لا ينبغي الاكتفاء باستحضار (عقل) هذه الشخصية العالمية، بل التفكير بجدّ في كيفية استثمار الروح العلمية التي كان يتحلى بها ابن أبي شنب، ولماذا أجهض مشروعه العقلاني، وكيف يمكن ابتعاث هذا المشروع مجددا، مبرزا بأنّ أسئلة كهذه من شأنها رسم معالم المستقبل، خصوصا وأنّ الرجل شهد بعظمته رينيه باصيه، مارتينو، البشير الإبراهيمي، سعيد الزاهري، أحمد توفيق المدني وعمر راسم وغيرهم، كما جالس ابن أبي شنب وجادل وناقش عمالقة أمثال طه حسين وأحمد أمين والمستشرق الكبير مارجيليوث ومحمد عبده.

ولاحظ الباحث الجزائري المعروف أنّ ابن أبي شنب راهن على العقل كخيار وكمخرج للمأزق الذي كانت تعيشه الجزائر، وارتضى أول جزائري يتحصل على الدكتوراه في الآداب، ذلك على حساب خيار العرفان (التصوّف) وخيار السياسة، طالما أنّ الدخول إلى المعترك السياسي لا يتّم إلاّ بعد النضج العقلاني.

ويتصور بن زرقة أنّه كان بوسع الجزائر أن تحقق نهضتها لو لم يكن ابن شنب قد سبق عصره، مشيرا إلى أنّ العلاّمة الجزائري كان شبيها إلى حد بعيد في رؤيته بابن رشد، حيث كان يتواصل بعمق ووعي مع المشرق كجذور ومع الغرب كرجل حوار، وقدّم ابن شنب نفسه كأحسن صورة للرجل العربي المسلم الجزائري الذي يتعاطى مع الآخر دون عقدة.

وبحسب بن زرقة فإنّ ابن شنب أجاد في توظيف لعبة الترويض الفرنسية لصالح الجزائر والعروبة والإسلام، بعدما راهنت الحكومة الفرنسية أيم احتلالها النمزمن للجزائر على انتقاء بعض الشخصيات الجزائرية وتفتح لهم بعض أبوابها، لتفرض لاحقا التبعية، لكن ابن شنب استطاع قلب السحر على الساحر، ودليل ذلك تلك الشهادات الكثيرة التي تشهد للرجل بالنظافة في المواقف ومحافظته على دينه ولغته وهويته.

من جهته، أثار الدكتور بلقاسم سعد الله في كتابه التاريخي النفيس quot;تاريخ الجزائر الثقافيquot; (الجزء الثامن) ضرورة قراءة فكر ابن شنب وفق السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي لتلك المرحلة، معتبرا أنّ الكثير من القراءات (العاجية) أخرجت العلاّمة ابن شنب من هذه السياقات، في حين أنّ ابن شنب كان يصنع وبوعي مشاهد مستقبلية جزائرية، وكان يكرّس كل وقته في تشكيل الثقافة - العالمة، في وقت كانت جحافل أخرى تزرع ثقافة - الإعاقة، وثقافة العفاريت والجن، على حد تعبيره.

ولا تزال عديد كتابات ومخطوطات ابن شنب غير معروفة، بعدما أقدم المستشرق الغربي quot;هنري بيريزquot; على شراء أكثرها قبل مغادرته للجزائر، وتُبذل حاليا مساع حثيثة لاسترجاعها، بغرض تثمين مآثر بن أبي شنب وإسهاماته الغزيرة في تاريخ الجزائر الثقافي الحديث، حيث جمعت هذه الشخصية الفذة ومتعددة الجوانب بين الأصالة والحداثة، وبين التراث والمعاصرة مظهرا وسلوكا وعلما، علما أنّ ابن شنب خلّف ورائه ما يزيد عن الخمسين كتابا في سائر العلوم باللغتين العربية و الفرنسية منها: تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب، رسالة في المنطق، quot;أمثال العوام في أرض الجزائر والمغربquot;، quot;رحلة الورتيلانيquot;، quot;أبو دلامة، حياته و شعرهquot;، وشرح quot;مثلثات قطربquot; سنة 1907، كما له العديد التحقيقات والتنقيحات، والترجمات والفهارس لكثير من نفائس الكتب، وحينما عزم علماء الاستشراق على وضع دائرة المعارف الإسلامية سنة 1899م، كان quot;بن شنبquot; العربي المسلم الوحيد بين خمسين من المستشرقين.

واشتهر العلاّمة quot;محمد بن أبي شنبquot; ببراعته في اكتساب العلوم والمعارف وأجاد اللغات الاسبانية، الألمانية، اللاتينية، الفارسية والتركية، ناهيك عن العبرانية، وجرى انتخابه العام 1920 عضوا ضمن المجمع العلمي العربي بدمشق، قبل أن يكون أول جزائري يتحصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة ممتاز سنة 1922م، كما كان شاعرا مفلقا، وشارك في عديد المؤتمرات العلمية في الرباط وأكسفورد وباريس، كما تقلد ابن أبي شنب رتبا سامية في مجال التعليم العالي وفي الهيئات العلمية العربية والأجنبية.

ويقول باحثون أنّ ابن أبي شنب تسلح بثقافة عربية رصينة، وبثقافة متنوعة أكسبته سمعة دولية واسعة تشهد على ذلك حواراته ومراسلاته لعلماء كبار في الشرق والغرب، ومما زاده احتراما وتبجيلا تمسكه بأصالته ودفاعه عنها وقوة حجته أمام خصومه إذ استطاع في مناسبات عديدة فرض رأيه وقناعاته.