عبدالجبار العتابي من بغداد: هو الاديب والكاتب والباحث والشاعر والشطرنجي زهير احمد القيسي، الذي نعرفه جميعا، والذي يعتقد ان بلغ من العمر عتيا، لانه لايعرف بالضبط السنة التي ولد فيها، مميز بلحيته الكثة التي تركها تنطلق في رحاب وفضاءات ذقنه منذ سنوات طويلة، بالاضافة الى شعر رأسه، لكنه ما عاد يمتلك تلك القوة، واصبحت يده تلازم العكاز، فقد وهن جسده ولم يعد يقوى على رجم حجارة استغاثة، وان كانت ذاكرته تتقد ولسانه الفصيح ينفث الكلمات، كان يستغيث وهو يتحدث عن الصعوبات التي يواجهها في حياته، يؤكد انه ما زال يقرأ حتى وان كان ممدا على الفراش اغلب ساعات اليوم، وان لم يكن يشعر بالراحة او ان كان لا يتغذى جيدا، وانه لم يعد يغادر البيت الا نادرا.
كان المكان الذي ألتقيته فيه هو المسرح الوطني ببغداد، وحضوره كان من اجل تكريمه ضمن حفل افتتاح فعاليات مهرجان بغداد المسرحي، كان اللقاء بعد التكريم الذي كان عبارة عن درع زجاجي، كان ينظر الى الدرع نظرات حائرة، تنم عن معان كثيرة، فأخذت بيده وأقعدته في محطة استراحة صغيرة من اجل ان احاوره.
حين اردت ان احادثه عن احواله وغياباته تمسك بعصاه وتفقد نظاراته، ثم ابتدأ حديثه بالقول: (انا رجل مقعد، اتفهمون معنى هذه الكلمة، انني عاجز عن الحركة، سواء تفهمونها حركة عضوية او حركة عقلية) وبعد صمت قليل وتأمل راح يردد هذه الكلمات: (احين صارت ترابا، لقد اتيتم عجابا) وبعد ان اشاح بوجهه واطلق حسرة قال: (زهر المجد لا يفتح للشاعر الا على ضفاف القبور)، ثم رفع صوته الواهن معاتبا: (أتنتظرون.. ان ألقى حتفي لكي تحتفون بي؟).
بدأت اطرح عليه الاسئلة، وكنت اجده ساهما وانا اتحدث معه، قلت له: (ما الذي تفعله من تفاصيل في حياتك اليومية؟ قال بعد التفت اليّ بشكل كامل: اقرأ ما لم ينشر، وأكتب ما لم ينشر، ولا اتناول طعاما ما بين الوجبات وأتنفس المرض وأرتعد خوفا من المجهول).
عاد.. ليطوق نفسه بالصمت، كان كمن يشعر بالندم على ما مضى، ثم قال بصوت حاد: (ما الذي تنتظره الامة من بنيها المزعوم انهم مثقفون؟، وما الذي تنتظره الامة لكي تفي بحاجاتهم المادية الحقيرة ولا تقول طموحاتهم الفكرية الجليلة، دار الشؤون الثافية تلعن المبدعين وتبصق في وجوههم وتحيل نتاجاتهم الفكرية الى من لا يستحث حمل مسوداتها، فالى متى يدوم هذا الحال، ألكي ينال المرء جزء من حقه على السلطة وأولياء الامر ان ينحر وريده الوديجي لكي يقال له احسنت؟ أما يجدر بهم ان يلتفتوا الى الاحياء قبل ان يديروا وجوههم للاموات؟
حاولت ان اجعله هادئا، طلبت له شايا، امتد اليه يده المرتجفة وارتشف منه رشفة، وحين وجدت لديه بعض الاسترخاء، سألته عن الكتب التي لديه ولم تزل على شكل مخطوطات، قال: (لديّ (58) كتابا غير مطبوع، هي خلاصة فكري واعتقادي بالمعلوم والمجهول على مدى (65) عاما من ممارسة الثقافة وخوض ابحر المعرفة، ولكن اي جدوى من ذلك؟، لو خيّر المرء بين قرص خبز وأرقى (اوبرا فاغنر)، أتراه يختار فاغنر وهو جائع؟).
ألقى التساؤل وظل ينتظر مني الاجابة، وحين لم اجبه، قال: (لما قالوا قديما عني: انك اخر الدينا صورات، لم يكونوا مخطئين، فأنا ادخل الى المعرفة من سبعة ابوبها، لا أدع بابا دون باب، وأخرج منها جميعا بخفي حنين، كتبي غير المطبوعة تتراوح بين الشعر العمودي خيمتي الثقافية الاولى وبين الشطرنج فلسفة تتراوح بين الاختيار والاجبار، وبين الرواية التي تند بمجموعها عن ألف القائون من جميل القول ومهذبه، خرجت فيها عن جادة الناس ودست رملا ما عليه طريق).
تركته يكمل ارتشاف ما تبقى في الكأس من شاي لأسأله سؤالي الاخير عن رأيه بالشعر الذي ينشر حاليا فقال بهدوء: كل كلام يقال جدير بالسمع، وكل ما خالفك او وافقك حري بالقراءة والاهتمام، فكيف استنكر كلاما قاله جيل تفصل بيني وبينه انصاف القرون، ففيه ما يستحق الاحترام وفيه ما يحق لك ان تشيح عنه كشحا !!.
التعليقات