عبد الجبار العتابي: تلك هي قصيدة خزعل الماجدي الابوية الرثائية الناحبة الناعية المنكسرة المهتزة من رأسها حتى اخمصها، فهو لايجد كلماته في قاموسه الذي نعرفه عنه، بل يحاول ان يستعيض عنه بالغبار الكثيف الذي يكلل نفسه الذي كلما نفضه تنهمر اوجاعا يحاول ان يجعل منها مقاطع من قصائد، اسماها ( احزان السنة العراقية/ شباط.. خُطِف النسيم.. الذي اسمه مروان)، يعصر ذاكرته فيتسرب منها شجن مريع، يبدأ بالعزف عليه، يمسكه بيديه مثل ناي حزين في ليل طويل هاديء لا يسمع فيه سوى صخب نفسه، يبكي ولده البكر الشاب (مروان) الذي اختطف ذات صباح في حي اليرموك (الاربعة شوارع)، وهذه قصيدته الاخيرة عنه، يؤرخها بـ (شباط)، فهو يبدأ من الضوء، لكنه يرسمه بالظلمة، ومن ثم (بغداد) التي اضاعت ولده، ومن ثم يجد نفسه كمن اصابه العمى، وليس لديه سوى يداه تتلمسان الطريق الضائع الملامح، ولكن اذنيه تشتعلان سمعا للنواح، ثمة خضة في روحه تجعل كل مشاعره تتبدى، او تفور، ويتحول كل ما حوله، الفضاء، الهواء، النواح البرد الى قميص من دم، يشم فيه رائحة الموت، هكذا تحدثه نفسه، لكنه يصده بتساؤلات مثيرة يرتجف لها قلبه، لا يبحث فيها عن اجوبة لانه لا يريدها، فالمخبوب بفقد الابن لا تتراءى له سوى الاسئلة التي تنز من صميمها البكاءات:
(شباط
لا الشمس تضيء الأرضَ ولا القمر
لا بغداد واضحة المعالم.. ولا الطريق الذي أمامي
ماذا جرى؟
هل انطفأت عيوني؟
إذن أين عصاي أتوكأُ عليها؟
وأهشُّ بها طيور الظلام التي تهاجمني
ولماذا؟
لماذا تغني الحماماتُ نشيداً حزيناً
لماذا تنوحُ؟
ومن ذا على الأفقِ أنطرهُ
ولدي!!
أم قميص مدمى!
أم البرقُ يطرقُ كوم الشتاء الطويل؟
فمن ذا؟
شبحٌ في دثارِ الهزيع الأخير من الليل
تحدَّث إليَّ وقل يا حبيبي
إلى أين قادوك؟
أيّ ظلامٍ زُرعتَ به وأي خراب؟
لماذا تغني البلادُ نشيداً حزيناً؟
لماذا تجفُّ؟
رمادٌ على هجره في يدي
رمادٌ على معطفي ولساني
رماد على كتبي.
أصيحُ على قاطعات الأيادي
ألم يك مروان يوسفكنّ الجميل؟
إذن أين ضاعَ؟
وأيّ الذئاب سبتهُ؟
أصيحُ على الجُب
كيف احتويتَ رصيعاً من الماسِ؟
كيف لثمتَ مفاتنهُ؟
أيداه مقيدتان!
هل يتقيدُ نبعٌ؟
وهل سنابلهُ انفرطت قبل حين؟
وهل من دفوف العذاب تكور في صيحةٍ: آه..
إذن أين صرختهُ؟
كي أحنّي يدي
أين قامته كي أردّ إلى العين نوراً؟
أينَ ورد يديه.. أين السماء؟)
هذه التساؤلات لا تشعل في ذاته سوى حرائق، ولا تفتح سوى ابواق الصراخ، الذي يتمنى ان يقابله صراخ يتفجر من ولده، فلا يسعه بعد غيبوبة الا ان يرسم تصوراته، يغمض عينيه المغرورقتين بالنشيج، كأنه يرى صورا لم يرها غيره، يتدحرج فوق الفيافي ويرتطم بالانين، يتمسك بالصباح، وينتعش بالرذاذ، يغتسل بالبكاء، ويفرح بالاحلام، يغمى عليه ساعة، واخرى يركض كالمخبول في غياهب المرايا، مرايا نفسه التي لايعرف لونها وشكلها، يتحسس مساماتها بوحي من شجن تنتفض به احضانه، وفي اللحظة يصطخب بعويل السؤال، الذي ليس له اي صدى، لا يرد ان يسمع الصدى، لا يريد ان يشد حنينه الى فراغ، لا يريد ان يمد يده الى سراب، بل يجد نفسه يتحسس احضانه، يمس جسدا يملأه ورائحة شذاها يقطع الطريق بين قلبين، وتراه لا يحادث سوى الفرات، كأنه يعي ان الطريق الذي سلكه الضائع كان على ضفاف الفرات، شماله او جنوبه، سيان، لذا..، يجثو خزعل الماجدي على ركبتيه صريعا لنداءات تخرج من جراحه:
(وجههُ ذابلٌ
طرفُ الأرضِ يهوي وحرير من الدمعِ يفرشهُ شجر
داخَ من بلدٍ يتلاطمُ بالموتِ، أنتَ قصصتَ الوداعَ
ولم أنتبه، ولم استطع رفع سبّابةٍ أو يدٍ، انتفض
في رهينكَ، توظَأْ، وقل للصباح بأنكَ أجمل منهُ
وقل للطيورِ بأنكَ حرٌّ، قل للبساتين قومي لأجلي
ونامي على مرفقي.
يا دموعَ الفراتِ اغسليه
وردّي الغبار الذي ناثروه عليه
وقصّي عليه حكايا العراق المعذَّبِ منذ الأزل
يا دموعَ الفرات امنحيه الندى
واجعليه طليقاً من الحزنِ
اجعليه نقياً كما ذهبٍ
يا دموعَ الفرات اجعليه يصلّي
واجعليه ينامُ ويحلم
كبا ورده في السواقي
وفي غفوةٍ.. في مرايا النعاس
كبا ولدي قابَ قوسين من حضني
كنتُ أحبو إليه
ولكنّ غولاً تلقّفه في الشباك.
طير من النورِ أو قبس من اله
ومروان مثل الندى لا يفزِّزُ ورداً
ويتبعه، أينما طافَ، سربُ الفراشاتِ
مروان كحلُ العيونِ ومرهمها
وحبيب الحنايا
ومروان رفرفة الفجرِ
مروان سبطُ النهارِ
ومروان لون الضحك
وقافلة الضوء
مروان عشُّ الشذى
ومروان هذا النسيم الذي خطفوه
إذن أين أنتَ؟
وكيف ينام الفراتان دونكَ؟
أين السماء؟
أعيدي إليّ عمودي
أعيدي إليّ عيوني
ومروان نبض من الماءِ
خمر من الغيمِ
وردُ شبابي
وتلويحة في مرايا السماوات
ومروان أهلي وقلبي الذي علَّم الحبَّ للطير)
الماجدي / خزعل.. يقتات من ذبالات التذكر، يتراءى له شبح مروان، ومثل من ليس في يده حيلة، يتصايح في الجهات، فتراه يلتفت هنا وهناك، يحادثه عن اشيائه، عما حدث من جراء ضياعه، الماجدي يرسم معادلة جديدة، فحين تموت الام، يجد الرجل نفسه يخاطبها بالابناء، ولكن هنا الماجدي يخاطب ولده بأمه المشرئبة احزانها، لكنه لا يجد بدا من العودة الى التساؤلات فهي كل ما لديه، ليس بيده غيرها، يرميها في الفضاءات والانهار والفيافي وفي حقول الملح، وينثرها على الغيوم والظلام، ثم يرتجف، حين يشعر بخلجات نفسه تتصاعد الى الافق السابع من خوفه، وتتراءى له صورة ولده الخائف، ليس لدى الاب غير كلمة (لا تخف) تأتي محشورة بين الكلمات كأنها يقولها بدون ان يدركها، لكنه يطأطأ رأسا اسفا، ويحاوره بالدمع لا بالكلام كأنه يهز مهده من اجل ان يمنحه نوما هانئا:
(ذابت الشموعُ وذابت معها عيونُ أمِّك، لا حزن سوى حزنها يحفر في القلوب، علّقت قمصانك وبناطيلك وظلّت تشمّها، تدخل إلى غرفتك كأنها تدخل إلى مسجدٍ، أنتَ هنا في مسامات الجدران والمرايا وهذا سريرك خالٍ وحاسوبك حزين. هبطت نجومٌ تقطرُ دماً في بيتنا. تدفعُ بيديكَ الناحلتين مراكب البخور إلينا فتثير رائحتها فينا ذهبَ الزمان، أين أنتَ الآن؟ الذئاب يحيطونكَ وأنت تمسكُ بالفانوس لا تغفل ولا تنام، قد يقفزون عليك في أية لحظةٍ.. عودكَ طريٌّ يا حبيبي فكيف تحتملُ ما يجري؟
وأبصره في الهلال
وفي الغيم، في نسمةِ الصبحِ
في موجةِ النهرِ
أبصره في الظلامِ وفي خفقة النورِ
أبصره في عظامي
وفي جوهري
في عيوني
وفي كلِّ شاب يمر
وفي كلِّ أغنيةٍ
وفي كلِّ نبضٍ
ولدي حبيبي لا تخف
ولدي يفوحُ شذاك
كم تعبَ الزمان؟
حتى تكوَّن فيكَ، حتى كنتَ
كم تعبت أياديه الندية كي تصوغكَ
ولدي الذي شبكَ الكرومَ بجذعهِ
شجر من الضوء المنضَّد
قبة وحمامة تسري وتعرجُ للجمال)
وفي حالة تشبه استعادة الوعي، ينتفض الماجدي كالملسوع، يعلن استنفار لجوارحه الغاصة بالغضب من انه ولده سرق، وسجن وقطف، وفي ليله الحالك ينادي من بعيد عل ولده يسمع الدمع وهو يتلاطم بين جفونه، ويسكب عصارة همه على المشهد، يخاطبه بثورة، يحاكيه بصراخ مكتوم، نداءات غير متشابه، نداءات متشابكة، تهطل من اجزاء جسمه، يهطل قلبه، تسيل اشتهاءات روحه، ولا يجد الا ان يهبط واجفا على مرأى من صورة قاتمة، لايرى منها سوى الجب الذي غاص مروان في اعماقه.

(سرقوك!!
كيف يسرقون نهراً؟ كيف يسجنون لحناً من الهواء؟ كيف يقطفون غصناً من شجرةِ السدرِ؟
سرقوكَ!!
وهل يُسرقُ الضوءُ؟ هل يُسرقُ بستان الندى؟
سأغني لعينين غائرتين من الحزن قلادةَ الكلمات التي خبأتها في ضلوعي، سأغني لخمركَ يسكرني ويبكيني كل ساعةٍ، سأغني لمراكبكَ تغزو ضفافي كلّ حين، سأنفخُ في الناي وأقول:
ولدي حبيبي شمني
ولدي ارح عينيك من الم ونم
ولدي أرحْ قدميك من سفرٍ ونمْ
إغفُ على كتفي
سأحذف أسود الأيام منك
ولدي تعال
وخذ طيوبك
خذ غناءك
خذ دثارك
خذ عيوني
كي لا ارى قمرا سواك
كي لاارى قدري على طبق
وانت في جب هناك ).