محمد الحمامصي: لا يزال الكاتب الروسي العبقري أنطون تشيخوف (1904-1860) بالنسبة للكثيرين من المهتمين بالأدب في كل أنحاء العالم هو أعظم كُتاب القصة القصيرة ورائدها الأهم. كما لا يقل أهمية عن ذلك ككاتب مسرحي وروائي استطاع عبر أعماله العديدة أن يحفر اسمه في ذاكرة الإنسانية، وأن يرسخ قيمًا فنية تحولت إلى مدارس ومذاهب في الكتابة، مازالت فاعلة ومؤثرة حتى الآن..

وقد صدرت أعماله الكاملة المختارة عن دار الشروق بالقاهرة بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم في أربع مجلدات، ترجمة المترجم وأستاذ الأدب الروسي د. أبو بكر يوسف، ضم المجلد الأول القصص القصيرة لتشيخوف والتي وضعته على قائمة الكتب الأكثر مبيعا منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، والثــاني ضـم الـروايـــات القــصــيرة ومنها الراهب الأسود، الفلاحون، القبلة، الرجل المعلب، السيدة صاحبة الكلب، والثالث ضم روايات تشيخوف الخالدة حكاية مملة، عنبر رقم 6، رواية رجل مجهول، المبارزة، والرابع ضم المسرحيات الخالدة لتشيخوف وهى حول مضار التبغ، الدب، النورس، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث، بستان الكرز.

وقد بدأ المترجم د. د. أبو بكر يوسف قائلا : حين طلب من تشيخوف كتابة سيرة ذاتية لنشرها في دليل عن خريجي كلية الطب بجامعة موسكو خلال الفترة من 1884 إلي 1894 رد الكاتب بأنه quot;مصاب بداء الخوف من السير الذاتيةquot; وأضافquot; إنه لعذاب حقيقي أن أقرأ أي تفاصيل عني.. فضلا عن كتابتها بنفسي للنشرquot;، وأرفق بهذه الرسالة سيرة ذاتية قصيرة للغاية عرض فيها رأيه حول العلاقة بين الأديب والعلم، أكثر مما كتب عن تفاصيل حياته الشخصية أو إبداعه.

ويضيف د. أبو بكر يوسف : لقد راودني نفس الإحساس المعذب عند كتابة هذه المقدمة عن تشيخوف بمناسبة صدور هذه المجموعة من أعماله، فكيف تكتب عن مبدع كبير معروف على نطاق العالم كله منذ بزوغه في سماء الأدب الروسي في ثمانينات وتسعينيات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى هذه الأيام؟ وكيف تقدمه للقراء العرب ومنهم من يعرف عن أدبه وحياته الكثير من التفاصيل؟ ما العمل من أجل ألا تخرج هذه المقدمة في صورة تقريرية تتناول حياته وأدبه بنبرة البحث العلمي الجافة، أو أن تجنح إلي الاعترافات العاطفية بالحب لهذا الفنان المدهش وأدبه الأكثر إدهاشا، وأخيرا قررت أنه ليس هناك ما هو أفضل من الدرب المعهود والطرق المطروقة، وهو الحديث عن تشيخوف الفنان وتشيخوف الإنسان، الأمر الذي يتيح لنا أن نجمع بين الموضوعية والذاتية في سبيكة واحدة.

يقول د.أبو بكر: كان تشيخوف يتوخى البساطة والدخول مباشرة في الموضوع ويكره البناء المعقد للعمل الأدبي، وكان شعاره quot;كلما كان الموضوع أبسط كان ذلك أفضلquot; ولكن ذلك لم يكن على حساب عمق التحليل والتعبيرية السيكولوجية وبروز ملامح الشخصيات والأماكن، حتى شاع تعبير quot;الشخصية التشيخوفيةquot; عندما تصادف في الحياة شخصية تكاد تكون نسخة حية من شخصيات روايات تشيخوف وقصصه، وكأنما أصبح المرجع فن تشيخوف لا واقع الحياة.

في أعمال تشيخوف الروائية والقصصية والدرامية تحس رغم تحفظ الكاتب وحياديته بتعاطفه العميق مع شخصياته المعذبة وأبطاله المهانين الذين سحقتهم الحياة بابتذالها وكآبتها، وبعطفه عليهم حتى وهو يدين ضعفهم ورذائلهم، ولم يقتصر تشيخوف في إبداعه على تصوير المثقفين الأقرب إليه روحيا واجتماعيا بل هبط إلي القاع، فقد نماذج بشرية من الفلاحين والتجار والعمال والحرفيين والأطفال، ولم يقسم أبطاله إلي أشرار وأخيار، فتحت تأثير الصراع النفسي الداخلي والهزات الأخلاقية تتبدل النفوس فتسمو أو تنهار أو تتبادل المواقع (رواية المبارزة)، وفي هذا التعاطف العميق مع البشر يكمن سحر تشيخوف الخاص الذي يجعل منه معاصرا بعد رحيله ومحببا إلي كل القلوب.