(جزء من رواية ستصدر بعد شهور قليلة)


قضت إدارة السجن أن يكون المساجين مختلطين في الزنازين، دون اعتبار لطبيعة التهم التي حكم عليهم بسببها. ووجد نفسه يشغل غرفة مع مجموعة من المحبوسين من مختلف الأعمار ومن مختلف البلدات؛ فكان هناك القاتل واللص وتاجر المخدرات.. أما الأحكام فكانت متباينة، فكنت تجد المحكوم عليه بالإعدام والمحكوم بشهر واحد... شاء القدر أن تضمهم هذه الغرفة الصغيرة الضيقة، وفرض عليهم أن يعيشوا معا. العربي محكوم بالإعدام لأنه اغتصب تسعة أطفال وقتلهم، كان يبدو هادئا عاديا ويعترف بجرائمه، ويبكي أحيانا ويتمنى أن يغفر له الله جرائمه وأهالي الأطفال الضحايا، ويقول أمله الوحيد قبل أن يموت هو أن يسمح له بطلب الصفح من أولياء المغدورين، أما الله فهو يعلم أنه بريء. كانت تباغته حالات من الهستيريا والقلق، ثم يغيب ولا يعود كما كان، وكأن روحا أخرى حلت بجسده، يسقط على الأرض ويفركل ويهرنن ويصرخ، وتبيض عيناه، يسارع البعض إلى تلاوة القرآن ووضع المفاتيح - التي تستلف من الحراس - في يده، ويرش آخرون وجهه بالماء، ثم يصحو من غيبته شخصا آخر، لا يكاد يميز شيئا، فاقدا للذاكرة.
في إحدى الليالي، حكى على مسمع منه ومسجونين آخرين فقال: quot; عندما كنت أرى طفلا، يذكرني بالسن الذي اغتصبت فيه على يد بوهراوة الطراح، كان الهدير والصداع يقض رأسي، فأجدني متوجها إلى الطفل، أغريه بكل الوسائل إلى أن يرافقني إلى الكوخ، كنت أتحول إلى شخص آخر، ولا أعود إلى حالتي إلا بعد أن أنهي انتشائي الكبير مع الرعشة القصوى بخنقه. عندما أصحو من غيبتي أجده جثة هامدة، كنت أندم وأبكي في المرات الأولى، لكن بعدها لم يعد موقفي يتعدى الأسف، لأنني في الواقع لست مسؤولا عن تصرفاتي. أنا مذنب فقط كمتواطئ مع الشيطان الذي يحل بي، إذ كان علي أن أبلغ السلطات عما حصل.لكن الشجاعة كانت تخونني، والخوف كان يعميني، فلن أكون أنا في رأي القانون والمجتمع إلا سفاحا قتال أطفال كما أنا في نظر الجميع الآن. في الواقع أنا أؤدي ثمن جرائم لم أرتكبها، أعترف أنني شاركت فيها، لكن فقط بدافع الجبن، وربما الأنانية..
***
حل موعد الزيارة، وذهب يلقي نظرة على الزائرين، ربما يكون أحد ما قد أخبر أهله باعتقاله، قد يكون مراد؛ فهو لا يعلم لحد الآن إن كان قد اعتقل صبيحة يوم الغضب أم لا. سأل عنه في الكوميسارية وفي المحكمة، لكن لم يعلم عنه خبرا. وقف وراء الشبابيك ينظر الى الزائرين: كان الصخب عاليا، يقف المساجين ملصقين أكفهم وأوجههم بالشبابيك السلكية التي تشكل جدارا مستطيلا موازيا لجدار شباكي مثله يتكدس عليه الزائرون. شاهد أحمد الغريسي كيف وقف العديد من النساء ملتصقات بالشبابيك، وكيف كان يلتصق بعض الرجال بمؤخراتهن لاقتناص لذات مسروقة! تنبه أحد الملتحين المساجين إلى المشهد، فأخذ يصيح في زوجته التي تضع الخمار: quot; ابتعدي عودي إلى الدار، لا تزوريني مرة أخرى! quot;، ثم موجها كلامه إلى الرجل الذي كان ملتصقا بزوجته: quot; وأنت أيها الزنديق، سأبحث عنك في كل مكان حينما أخرج من هنا، تعتدي على عرضي أمام عيني؟! quot;.تراجعت المرأة إلى الوراء، واختفى الشاب. شاهد أحمد الرجل الملتحي وقد أخذته نوبة بكاء. عاد إلى الحشد يتفحص الوجوه لعل عينيه تقع على وجه يعرفه، ثم رن الجرس، وجاء الحراس فحجبوا الرؤية بين الحشدين بالستار الأسود.
***
عندما كان يحل وقت النوم، كان الحراس يطفئون الأنوار، ويأمرون المساجين بالنوم، كان كل واحد ينكمش في مساحته الضيقة. لم يتمكن احمد الغريسي من التواصل مع أي من المساجين، وحرص أشد الحرص على حراسة نفسه ليلا، ولم يكن ينام إلا اختلاسا. من يضمن له ألا تعاود الحالة مغتصب الأطفال فينضاف هو إلى المغتصبين المغدورين؟ وكيف يأمن مع ذلك الذي يحتفظ في جيبه بصورة بورنوغرافية بالألوان مقتطعة من مجلة، لامرأة جميلة تفرج عن الغارين الملطخين بالكريم والرجل على استعداد لإرسال عصاه الطويلة إلى الأعماق؟ كان أمام الجميع ينشر الصورة بركن الغرفة ويشرع في الاستمناء، لما يصل الذروة، يمسح بالكلينكس ويقول للشاهدين: quot; عذرا، ما العمل، لا وسيلة أخرى، فأنا محكوم علي ب 15 سنة، لن ألاقي فيها امرأة quot; ويقهقه. وكيف يأمن أيضا اللوطيين الذين يتبادلان الأدوار، فيرتفع عند ذروة اللذة لهاث صاخب طالما أثار تقززه إلى درجة القيء. وزاد خوفه لما أصبح quot; الضمبا quot; تاجر المخدرات يبالغ في ملاطفته، ودعوته لمشاركته في الغداء الذي يأتيه من الخارج: دجاج ولحم وفواكه. أما هو فلم يكن يأتيه أي شيء من الخارج، كان يقنع بأكل السجن، وبما يعرضه عليه بعضهم بإلحاح. والواقع أن المشكلة لم تكن في الطعام، بل كانت في قلة السجائر، فقد تفتحت شهيته بشكل جنوني للتدخين لدرجة كان يخاف أن يضعف أمام إلحاح شهيته، ويسلم نفسه لأحدهم مقابل سيجارة. أولم يقولوا في الآثار: quot; لا حرج على المضطر quot;!
قاص وكاتب من المغرب