لم تفهم طروحات كريك التي نشرها في كتابه(في الفن المسرحي 1905) بشكلها الصحيح، كونه قائد ثورة بصرية ضد فوتغرافية الواقع واستنساخها ونقلها الى المسرح، والتي نادى بها المذهب الواقعي وابنه الغير شرعي المذهب الطبيعي،كانت ثورته (كريك) لتخليص فن المسرح لكل ماهو يقوض

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الخيال والمخيلة، وتخليص المسرح من الاستنساخ الحرفي للواقع ونقله الى خشبة المسرح، بل سعى بكل قوة لاطلاق العنان لاستخدام الرمز والرمزية وتحفيز مخيلة المتلقي لاشراكه بالتفكير بما يقدم على الخشبة، سعى من اجل ادهاش المتفرج بصريا برسومات ومعالاجات لم يعتد عليها، اراده ان لا يكون مجرد متلقي يملي عليه صور الواقع المقيته التي تسعى لاجهاظ بؤره الفكرية، جاهد من اجل تغير وظيفة الديكور من الايهام الى الايحاء(ففي ردة فعل على الواقعية والطبيعية، ساهم التيار الرمزي في تحويل وظيفة الديكور من وظيفة إيهامية تصويرية إلى وظيفة إيحائية، وبالتالي استُبدلت اللوحة الخلفية والديكور المُشيد والأغراض بشاشات وستائر سوداء وأدراج وبراتيكابلات تُبرز الاداء وتوحي ببئية العمل، وهذا ما ينجلي في المسرحيات التي اخرجها الانكليزي كوردن كريك).

كان يبحث عن ماهو اعمق من الصورة الحياتية، أي ماوراء الصورة وليس فوتغرافيتها وخطابها الساذج، الذي يصادر المخيلة والخيال، لم يروقه ما تقدمه المسارح في انكلترا وامريكا من عروض مسرحية، لهذا قاد ثورته لاصلاح فن المسرح بكل عناصره، هذه الثورة كان هدفها المسرح بكل اوربا وليس بانكلترا فقط، عرف بعناده واصراراه الكبير لتحقيق وتجسيد طروحاته التي سعى اليها في التأليف والاخراج والتمثيل وتصميم المناظر والاضاءة المسرحية، والملابس وصناعة الديكور، بل يريد ان يغير حتى من الخدم انفسهم، كانه يرد ان يلغي اجيال مسرحية بكاملها، ويعيد تربية اجيال جديدة، هذه الاجيال الجديدة التي تحمل طروحاته وتصوراته لفن المستقبل، اجيال لم تشوهها الواقيعة والطبيعية(لم يكن يروقه فيها الممثلون ولا الاخراج ولا المخرجون... حتى العمال انفسهم، بل المتفرجون ايضا... إولئك الذين قضى على اذواقهم المسرح الانكليزي، بل مسارح اوربا كلها تقريبا، وافسدوا عليهم حاستهم الفنية.. تلك الجوهره التي هي اثمن ما وهبنا الله في هذه الدنيا).
اثارت طروحاته سخرية الكثير من رجالات المسرح الانكليزي انذاك، التي طالب فيها بتهديم كل المسارح في انكلترا واوربا وإحالة كل العاملين فيها الى التقاعد والجلوس في بيوتهم، كانت هذه الطروحات والتي نشرها في انكلترا بعد توقفه عن التمثيل وتفرغه التام لمشروعه الاصلاحي في فن المسرح، رفض فيها كل ما تقدمه المسارح في انكلترا واوربا، رفض فردانية الممثل ونرجسيته، بتحويل انظار المتفرجين اليه على الخشبة، طالب الممثل (ان يكون نغمة مؤتلفه مع جميع النغمات المسرحية الاخرى، من ممثلين وممثلات، وادوات واضواء ومناظر وحركات وخطوط والوان).
لهذا رفض الممثل وتمنى ان يحل محله الدمية والعرائس او الماريونيت، من خلالها يستطيع ان يغير شكل المسرح في العالم برمته، لانه ساعتها سيخضع الممثل لشروطه البصرية والجمالية كوحدة مؤتلفه.
المسرح بتخصصاته الكثيرة مصممو المناظر، والملابس والمدراء الفنيين،كانوا مصدر ضجر كبير بالنسبة له، لانه يرى بان المسرح لايحتاج الي جيش من هكذا قبيل، لان كل هؤلاء ساهموا بتحنيط المسرح، وافساد الذائقة الفنية، ولهذا كانت طروحاته ورؤيته لمسرح المستقبل برفض كل هؤلاء.
لكننا نتسائل، هل كان كريك صائبا بطروحاته تلك، وخاصة والساحة المسرحية فيها الكثير من رجالات المسرح العظام في انحاء متفرقة من العالم؟ ستنسلافسكي ودانشكو، وتايروف، وايضا الدوق سايس ممنكن، المذهل مايرخولد وبسكاتور وهذا غير رجالات المسرح الانكليزي، والشي المهم كان اندريه انطوان والذي يعتبر اول مخرج باوربا ـ، وهو اول شخص اشار الى وظيفة المخرج وتحديدها.
من المؤكد بان ثورته ليست على الاسماء بقدر ماهي على الاشتغالات، وخاصة اشتغالات المسرح الانكلزي والذي ينتمي اليه، استفزته الطريقة التي يتعاطى معها المسرح الانكليزي، مصمم المناظر الذي يفاجأ المخرج بتصميماته قبل يوم العرض، وكذلك المخرج الذي لم يشاهد ممثليه بالازياء والمكياج في التمارين وقبل العرض، وكذلك الطريقة التجارية التي تتعاطى معها كل المسارح تقريبا بانكلترا، التي تقف ضد التجديد والتطور، ايضا ارشادات مؤلف النص الذي يكتبها داخل المتن السردي للنص ويطالب المخرج بالانصياع لها، والتي يراها كريك بانه تدخل مباشر بعمل المخرج ورؤيته للمسرحية، كل هذا ساهم بنفور رجالات المسرح من طروحات كريك في المسارح الانكليزية، بل انها اثارت سخرية الكثير، لكن الاهتمام الكبير لطروحاته جاء من خارج انكلترا، وكتابه حقق حظور كبير في المانيا وجعل من ماكس راينهارت ان يلتهم كل طروحات كريك، مما ادى به لتحويل كل مشروعه المسرحي من الواقعية الفوتغرافية وسذاجتها الى الرمزية، الى العالم الروحي، والفراديس المختبئة باعماق العوالم الداخلية.
كان كريك متعدد المواهب، فهو ممثلا كبيرا، ومصصم مناظر، وملابس، وديكور، كل هذا اثار انتباه الكثير من الفنانين خلال زيارته لالمانيا، تعدده مواهبه وذكائه وحرفته أذهلت عاهل المسرح الالماني، الذي تحدث عنه بانبهار كبيربقوله (ماهذا الرجل؟ إنه كتله من المواهب والنشاط،إنه حفار لايباري، ومصور لامثيل له، وناقد مسرحي غريب الاراء، وطباع وصحفي واديب، وموسيقار، ومصمم مناظر مسرحية لم يسبقه اليها احد في بساطتها المتناهية، وقوة سحرها وآسرها وبعدها من البهرج، ولاعب بالاضواء ياتي من المعجزات مالم يسبقه اليها سحراء فرعون .... إنه يتحكم في جميع هذه الفنون ببساطة وعبقرية... واصابع حاذقه وبديهة نفاذه).
لم يكن يهتم بكل ما وجده من جفاء من المسرح الانكليزي ونفورهم وسخريتهم من مشروعه الجمالي البصري، والذي هو بالتأكيد ضد ما يعملون عليه وكل جديد حتما يكون له اضداد، ولهذا سار بمشروعه الاصلاحي الذي يريد له ان يبدا من كل شيء، من خدم المسرح وعماله، الى المدير الفني، بل حتى الجمهور، وهنا نستشهد بما وجهه للجمهور(.... هذا كله يتوقف على الدافع لمجيئك الى المسرح، وهل هو المسرحية-التي تمثل- او الادب-الذي يُقرا ويسمع؟-فإذا كان مجيئك من اجل المسرحية- فلتعش بكل جوارحك في المسرح- ولا تقصر متعتك على ذهنك فحسب، بل اشرك في ذلك عينيك واذنيك كذلك،اما اذا كان حضورك من اجل الاستمتاع بالمسرحية من ناحية بنائها الادبي، فخير لك ان تعود الى بيتك على الفور، ثم تعترف بانك قد ارتكبت خطا كبيرا بذهابك الى المسرح).
ولعل هذا جوهر ما يذهب اليه الرمزيون، بتحريك الجمود الذي اصاب المخيلة، بعد طروحات الواقعيين والطبيعيين ارادوا استفزاز المشاهد، وادهاشه بما هو بصري، وان لا تاتي به الحدوته الادبية الى المسرح، لان الفن ليس هو محاكاة ـ ولكنه إحساس، هذا الإحساس هو الذي يرفض تقليد الطبيعة ونقلها الى الخشبة،لان الفن المسرحي (حين يكون تقليداً خالصاً للحياة لايكون شيئاً.إلا أستعراضات تظهر فيها عظمة الحياة وضآلة الفن المسرحي).

كُن فناناً مسرحياً

اعطى كريك للممثل اولى اهتماماته، باعتباره العنصر الاكثر اهمية في العملية المسرحية، بل العنصر الذي من الصعب التخلي عنه في العرض المسرحي، نظر كريك، نظرة مغايرة تماما لصورة الممثل الذي يطمح اليه في المسرح الذي ينشده، ممثلا لا يرتبط بكلائشيات الحياة وماهو يومي، ممثلا خلاقا، يهتم بكل تفاصيل اللعبة المسرحية، ليس مجرد ممثل يهتم بما هو منطوق او مكتوب في النص الادبي، الرغبة في ان تكون ممثلا تيمننا بوالديك ليست كافية، هذه لن تصنع منك ممثلا حقيقيا، ولابهرجة الشهرة والاضواء هي التي تشدك من اجل ان تصبح ممثلا، بل الممثل يجب ان يكون له هدفه الحقيقي من اجل ان يكون فنانا مسرحيا.
هذا الفنان المسرحي الذي يحاول اصطياد كل مافي الحياة ويخزنها بذاكرته، ومن ثم يعيدها على الخشبة ليس بصيغة فوتغرافية، وانما بعد دخولها في معامل المخيلة الخلاقة التي يجب ان يتحلى بها الفنان المسرحي، القراءة المستمرة وتثقيف العين، من خلالها يستطيع الممثل من الوصول الى هدفه الحقيقي في ان يصبح ممثلا مسرحيا، وهنا القراءة لاتعني بالضرورة كل ما يتعلق بالشخصية، بل القراءة بمفهومها الشامل،ولهذا اطلق عليه كريك بـ (الممثل النموذجي)، الممثل الذي لاتدفعه كلمات الغيرة التي كتبها شكسبير لعطيل عندما يريد ان يمثل دور عطيل، بل الاسباب والتداعيات، دراسة كل ذلك، ولايقدم لنا كل توترات وانفعالات عطيل التي كتبها شكسبير (بل يطلب الى ذهنه ان يسير غور اعماق باحثاً ومنقباً عن كل ما هو مستقر هناك، ثم يتجه بعد هذا الى عالم اخر ... عالم التصور، حين يكُون رموزاً ذهنية خاصة يستطيع أن يظهر بها عواطفه بجلاء، وإن لم يعرض علينا الانفعالات العارية). 11
كذلك قدرة الممثل من خلال السيطرة على وجهه، وإلباس الممثل قناعاً، هذا القناع الذي يحاول ان يشكله من خلال مهارته بالتلاعب بعضلات الوجه، تعبيراته النفسية، وذلك بالبحث في دواخل الشخصية، هذه الدواخل هي التي تنتقل الى وجهه، ومن ثم يحصل على القناع من خلال السيطرة على تعبيرات وجهه.
دعا كريك للتخلص من الممثل، لان الخلاص منه معناه تحرر الفن من الواقعية والطبيعية، لان الممثل هو الذي يحيلنا كمتفرجين دائما الى الواقع، من خلال الواقعية في الالقاء، والواقعية في الحركة،بقوله (فلنتخلص اولا من الممثل لنتخلص بعد ذلك من الوسائل التي تقوم عليها تلك الواقعية المسرحية الوضيعة التي تزدهر في ظلها: ونحن اذا تخلصنا من الممثل فلن يكون ثمة مخلوق حي يوقعنا في مشكلة الربط بين الواقع والفن، لن نرى فوق المسرح هذا المخلوق الحي الذي تتراءى فيه اختلاجات اللحم وامارات ضعفه).
لهذا طالب بان يحل محل الممثل-التمثال الذي لا روح فيه- الممثل الدمية، ساخرا بذلك من الممثل الواقعي الذي يفسد الذائقة بنقله للصور الحياتية بدون روح، الممثل الكسول الذي لم يتعب نفسه بالبحث في عوالم الشخصية الداخلية ولا عن الارواح التي تسكنها،يعزو كريك السبب في كل ذلك الى المذهب الواقعي والطبيعي، الذي افسد الفن والذائقة، وساهم بموت الممثل.

التجانس

التجانس او فكرة التجانس التي طرحها كريك في تصميم المناظر، والتي يستمدها المصمم من روح النص الادبي، هي خلق كل ذلك داخل الفضاء وتوزيعه بنسب جمالية، دون الاسراف في بهرجة الالوان وضخامته وتكاليف الديكور، وانما استخدام لونين وتدرجاتهما من اجل الوصول الى حالة التجانس التي ينشدها في شخصية واسلوب مصمم المناظر، عليه ان يعرف كيف ان يوزع جموع الممثلين على الخشبة، وان لاتحدث عملية حجب لأحدهم الأخر بالنسبة للنظارة، وان كان ليس بالضرورة ان يظهر جسد الممثل كاملا، او واضحا للمتفرج، لكن على الاقل ان يظهر جزا من جسده، كل هذا يتحقق عن طريق التجانس، وعن طريق ذلك يستطيع المخرج ان يستفز الممثل لابراز العواطف التي يكتنزها في داخله، من خلال التجانس نبتعد عن تفاصيل الواقع التي يرى كريك بانها غير مجدية.
اذا هي محاولة للتمرد على الاوهام (الايهام) الي جُبل عليها الاخراج المسرحي بشكل خاص والفن المسرحي بشكل عام، محاولة لتحرر الذهن والمخيلة للارتقاء بالفن المسرحي والذوق الفني لفراديس قتلتها ودجنتها الواقعية والطبيعية.
كان ينظر بعين مغايرة للنص الادبي والمنظر المسرحي، بهذا يحاول ان يفجر بواطن النص، ويحوله الى رموز تستفز النظارة وقبلهما الممثلين، لهذا نجده لم يتحدد بما يفرضه النص الادبي من مناظر او اطار محدد وصفه الكاتب لنصه، بل ينطلق من الفكرة الشاسعة التي يثيرها النص او خيال نصوص اخرى للكاتب نفسه، يريد ان يخلق بذلك عوالمه التي حفرها من بواطن النص، ولم يكترث لارشادات الكاتب، نستنتج من هذا، بانه كان يهدف الى ضرورة الانفلات من محدودية النص وارشادات المؤلف، الى افق اكثر رحابة واوسع تصورا، إنها محاولة لتحليق المخيلة الى عوالم مغايرة ومناظر مغايرة، يكون مصدرها وملهمها الاول الفكرة اوالافكار داخل النص، وبالتالي تصميم مناظر وفق هذه القراءة الاخرى للافكار.
طلب كريك من الفنان بان لا يعتمد على المدير الفني، او مصمم المناظر والموسيقى وكذلك الازياء، بل طالب بإلغاء كل تلك الوظائف، وان يجعل من الفنان هو من يقوم بتلك المبادرة، لان تلك الوظائف او الشخصيات هي التي ساهمت بافساد الفن والذائقة كما يذكر ذلك كريك، زاعما بعدم توفرهم على روح الاحترافية ولا روح المغامرة بكسر السائد من اجل إصلاح الفن المسرحي، مما افسده ذلك السائد من العروض التي تقدمها المسارح والذي يرى بان ذلك يتحمله المدراء الفنيين لأنهم يقودون المسارح، لهذا يذهب باقتراحه نحو الفنان مهما كان دوره، لان الفنان الحقيقي هو الشخص القادر على عمل الشيء الذي يريده بكل مهارة بدون الاستعانه بكل ماهو طارئ (إن الفنان هو الشخص الذي يقدر ويفعل، اما الهاوي فهو الشخص الذي لايقدر ان يفعل. فتاكد من كونك فنانا مسرحيا وذلك بقدرتك على ان تقوم بنفسك بعمل تصميم المناظر لمسرحياتك، وتنظيم رقصاتها، ومواقف الشجار فيها، وتوزيع أضوائها، وإرشاد ممثليها،فإذا دعوت آخرين ليقوموا لك بهذا كله، لم تكن إلا هاوياً من من الطراز الاول).
نستنبط من طلبه هذا من الفنان المسرحي، بان المدير الفني لايستنطق روح النص وروح الفكرة، وانما يقوم بنقل حرفي لكل ملاحظات المؤلف وارشادته في النص المسرحي، من تصوره للمناظر، او يتركها،لانه سيركز كل اهتمامه على الالوان والحركات وضبط ايقاع العمل، هذا يوضح لنا ما يريد كريك الذهاب اليه بتداخل عناصر الفن المسرحي، تداخل الاختصاصات، اراد ان يتخلص من الصفة المهنية للفنان المسرحي، اراده ان يكون عقلا مفكرا، خلاقا في سبيل سموا ورقي المسرح والفن المسرحي، الذي ظهر عليه الترهل انذاك، والسقوط بالتكرار الواقعي السائد، من غير الانتباه ان كل ذلك يقتل المسرح والفن المسرحي بشكل عام، وايضا يقوض الابداع ويساهم بظمور المخيلة.
لان مهمة المدير الفني هي ليست نقل تعليمات وارشادات المؤلف التي ظمنها نصه، بل وظيفته هي ابعد من ذلك، ان يقرا ما وراء سطور الحوار الذي كتبه المؤلف، يترجم المنظر والصور التي يحتويها المنطوق اللفظي، لان المتن السردي داخل النص يحتوي على صور تجعل المخيلة في حالات عمل مستمرة، هذه القراءات المعمقة للنص الادبي، هي التي تؤدي الى فتح مغاليق تلك المناظر والصور، وبالتالي ينقلها مصمم المناظر او المدير الفني الى الخشبة، بشكل سحري ومدهش للناظرة، لغرض ابهار المتلقي، الذي يبحث عن الجديد، وقبل ذلك، الفن المسرحي، وهو الباحث الاول عن الجديد، من اجل عدم الخضوع الى السكينة، هذه الطريقة هي التي من خلالها نساهم بعدم إخضاع المسرح والفنان المسرحي لسلطة الهواة الذين يتحكمون بالفن المسرحي.
لهذا يطلب كريك من المؤلف المسرحي بعدم تظمين نصه الملاحظات والارشادات والتعليمات، بل يكتفي بالحوار المسرحي لوحده وبناء الحكاية بشكل محكم، لان كل هذه الارشادات والتعليمات فيها تعدي صارخ على حقوق رجال المسرح، لانه فيها تجاوز لواجباتهم، لان هذا الشيء يحجم من التفكير ويقلل من روح الابداع وتعطيل المخيلة في محاولتها لايجاد مناظر بديلة واقتراحات مغايرة، من خلال قراءتهم للنص، هذه التعليمات ستقوض كل ما هو جديد يطمح اليه الفنان المسرحي.
رفع المصابيح الارضية من على الخشبة، هي احدى اهم اصلاحات كريك ورؤيته لمسرح المستقبل، كونها تثير اشمئزاز المتفرجين، بالاضافة لذلك فهي مسلطة بوجوههم، رغم إنها وضعت من اجل الكشف عن وجوه الممثلين، يعزو طلبه هذا بان الممثلين وهم على الخشبة، اما يبالغون بتعبيراتهم، او هي تعبيرات بسيطة، ورفع تلك المصابيح الارضية فائدة من هذه الانفعالات المقيتة، يرى بان ذلك خلل فني ويجب اصلاحه، قد يكون السبب في وجود تلك المصابيح هو شباك التذاكر، كون شباك التذاكر لايهتم بالذوق الفني، بقدر تفكيره بالعائد المادي، وهي طريقة لجأت إليها المسارح الصغيرة، بدلا من وضع النجفات المستديرة والتي توضع عادة فوق وسط الخشبة.

خطوط كوردن كريك

سعى جاهداً لايجاد خصوصيته الخاصة، وبصمته لكل ما يقدمه من اعمال على الخشبة، على مستوى الاخراج، الكتابة، تصميم المناظر، الملابس، الاضاءة، كان دائم البحث عن شكل جديد للمسرح، شكل يعوم في فراديس الرمزية،واتساع افق المخيلة، سعى لهذه الرمزية حتى على مستوى الخطوط، من خلال تصميمه للمناظر المسرحية، كانت خطوطه تتشكل على شكل مربعات وخطوط مستقيمة، والخطوط المنحية هي كانت اخر اهتماماته، و اذا استخدمها فهي حتما لضرورات فنية بحته، لجا الى تغطية الخشبة بمربع من القماش ويقسمه وفق خطوط عمودية، كانت رؤاه تستند الى عنصر الارتفاع الشاهق، ولعل ما يميزها هو تلك المربعات التي يتحدث عنها ارثر سايمونز ويقول(... كما تستند الى المربعات النموذجية، والى البناء (المسرحي) وبذلك يستطيع تشكيل مربعاته على نحو غير منتظم، بغية ان تتحرك هذه المربعات في خطوط مستقيمة مماثلة لذراعي البوصلة، فضلا عن إضفاء نماذج مربعة الشكل على الالبسة، بعد ان تكون الذراعات قد اكتسيتا بشرائط معلقه تصل الارض).
استخدام اللون مع الخطوط لاعطاء صبغة الغموض والرمزية، بقصد استفزاز مخيلة الممثل والمتفرج معا، الممثل الحى يحاول الولوج لدواخل الشخصية، الى الروح التي تسكن في اعماقها، وليس مجرد حوار ينطقه على الخشبة، والمتفرج من خلال اثارة الاسئلة بداخله، والتي يطرحها العرض المسرحي بكل عناصره المسرحية، ومن ثم وهو الاهم هو التخلص من الايهام، وتحوله الى الايحاء على الخشبة، من خلال الدهشة البصرية الجمالية، التي ينتجها العرض المسرحي.
كذلك الاحساس بالارتفاع والفضاء، الضلال البارزة الماكرة، السطوح العارية، تناسق اللون مع الفكرة التي تطرحها المسرحية، ام بمعنى اخر الجو العام الذي يطرحه النص الادبي، كل هذه المعالجات ساهمت بخلق شخصيات ومسرحيات تثير انتباه المسرحيين، وان كانت رفضت من قبل المسرح الانكليزي، لكنها اثارت لغط كبير ومهم في المانيا وايطاليا وحتى في روسيا، خلق مناظرا لم يعتد عليها المسرحيين والنظارة، مناظر لمشاهد كانت فريدة أنذالك، بل خطوات واسعة على مستوى المدرك الجمالي للمنظومة البصرية في حينها، رفضه للواقعية وكل ما يمت للواقعية والطبيعية بصلة، هو المحرك والحافز الاساسي لهذه الثورة الجمالية البصرية، التي احدثها كريك،وجملته الشهيرة بأن (الجمال هو الحق، والحق هو الجمال) تفسر لنا بجلاء شديد، تمسكه بإصلاحاته للخطاب الجمالي البصري (الرمزي) الذي ينشده، رغم كل الجفاء والنقد الذي واجهه، جراء طروحاته الجريئة في تخليص المسرح من سكونيته، و وضاعة الواقعية التي يطرحها، ورغم النقد اللاذع الذي تلقاه من برنادشو في حينه، لكنه بقى وفيا لمشروعه الاصلاحي، واثقا من الهدف السامي لهذه الثورة لمسرح المستقبل التي قادها، ولمنهجه الذي حدد فيه مفهومه للمسرح (مكاناً يمكن ان ينكشف فيه جمال الحياة باسره، وليس فقط الجمال الخارجي للعالم، بل الجمال الباطني للحياة ومعناها).
وايضا يذكرفي مكان اخر(فن المسرح ليس هو التمثيل ولا المسرحية، ليس هو المشهد ولا الرقص، انه يتألف من كل هذه الامور مجتمعه، الفعل هو روح التمثيل، الكلمات هي جسم المسرحية، الخط واللون هما قلب المشهد، الايقاع هو جوهر الرقص).
[email protected]