الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

المسرح العربي بين الاستعارة والتقليد (3/5)
انطلق يوسف ادريس بمشروعه المسرحي (السامر) من الاشكال التي تقدم في الارياف، وما السامر إلا شكل من هذه الاشكال، منطلق ادريس من فكرة المسرح التي وجدت من التجمعات، هذه التجمعات التي تتشكل باي شكل من الاشكال ومنها المقاهي، والحانات وكذلك الاعراس والموالد، والتي تتمتع برقص (الغوازي- الراقصات) في اماكن عديدة.
سعى إدريس الى إضفاء الخصوصية المصرية للعرض المسرحي، هذه الخصوصية لا تنبع من التراث واستخدامه فقط، بل استخدام الموروث الذي يتواجد بكثرة كظواهر اجتماعية داخل المجتمع المصري، رافضا بذلك كل اشكال التقليد والاقتباس التي رسخت في المسرح المصري بشكل خاص والمسرح العربي بشكل عام مفهوم اللاخصوصية، راجعا رفضه هذا، بان كل الكتاب العالمين كتبوا اعمالهم لشعوبهم وليس لشعوب اخرى، وهذا الشيء نفسه ينطبق على اللغة، كونها لغة خاصة بالنص ذاته، وليس هناك لغة عالمية ولغة محلية، بل هناك لغات واسعة الانتشار وهناك لغات محدودة الانتشار، والفن بالنسبة له كاللغة (لان فن أي شعب كلغة أي شعب لايمكن ان يقارن بفن شعب اخر او لغته او يميز عليهما) .
وبالتالي فان الأشكال المسرحية في كل العالم ينطبق عليها التفسير ذاته، كون ليس هناك فنون عالمية وأخرى محلية وإنما فنون واسعة الانتشار وأخرى محدودة الانتشار، باعتبار إن كل الاتجاهات المسرحية و التي نقلت للمسرح العربي إما عن طريق الاقتباس او عن طريق التجربة، كانت قد وجدت أصلا في تلك الشعوب ومجتمعاتها، بل إنها وجدت أصلا من المظاهر الاجتماعية داخل تلك الشعوب، مثل مسرح النو والكابوكي الياباني وغيرها، كان يوسف ادريس يبحث عن المسرح البديل..الاخر.. الذي لاينتمي الى ما يطرحه المسرح الاوربي، بديله هو تلك الاشكال الفنية الموجودة داخل بنية المجتمع المصري ndash; العربي- المورث هو الذي يشكل الارضية الصلبة التي يبنى عليها الشكل المسرحي، رافضا كل الاعمال المسرحية التي تسعى للانجرار وراء المفاهيم الاوربية وكل ما هو اوربي، لهذا وجه كتاباته الى المسرحيين، بأن (المسرح الذي نقدمه يعتمد الصيغة الغربية المستوردة للمسرح، الصيغة اليونانية، وهذه تجربة غريبة علينا وعلى جماهيرنا بصفة خاصة، ومن الواجب ان نبحث عن شكل عربي للمسرح، عرفته جماهيرنا بالفعل، واستجابت اليه. ذلك هو مسرح السامر الريفي) .
هذه الآراء الجريئة التي أطلقها يوسف إدريس، في كتاباته (نحو مسرح مصري) أثارت الكثير من الجدل، بل اتهمه البعض بأنها (شوفينية ثقافية)، يحاول ان يقطع بها تواصل المسرح المصري مع المسرح العالمي وبالتالي توقفه وموته، لهذا عارضه الكثير.
لكن يوسف إدريس لم يصمت بل واصل مقالاته، وطلب بنسيان المفهومات الأوربية، لأنها تقوض خصوصية المسرح المصري، من اجل تعزيز الأشكال الفنية والتي هي موجودة بالأصل داخل المجتمع المصري(فقط علينا ان ننسى كل مفهوماتنا الأوربية التي تعلمناها عن ارسطو وشكسبير ومولير ونقاد المسرح الكبار. وبعين كاشفة وبأفق مفتوح نبحث عن الأشكال المسرحية في حياتنا اذ تلك هي البذور او اللبنات الأولى او مادتنا الخام التي منها سنصوغ الجنين ونضع
الأساس).
اذا المادة الخام والتي يقصد بها المظاهر الاجتماعية، هي المادة الاساس التي يبني عليها يوسف ادريس مشروعه المسرحي، لتأسيس خصوصية مسرحية مصرية، وبعد رسوخها، يجد من الضروري ان تعمم على البلدان العربية، بحيث يكون البحث ايضا وفق آلية البحث عن الاشكال الفنية القديمة داخل المجتمعات، وهذا ما نلمسه بعد تقديمه لمسرحية فرافير، بتغير خطاب ادريس من (نحو مسرح مصري) الى (نحو مسرح عربي)، والسامر هو جوهر تلك الخصوصية التي سعى اليه ادريس، والسامر هو(حفل مسرحي يقام في المناسبات الخاصة سواء أكانت افراحا ام موالد، ولكن الملاحظ ان عدد المحترفين فيه قليل جدا لايتعدى فرقة الموسيقى وراقصة الفرقة والمغني، اما الممثلون فهم في العادة اشباه محترفين، اذ هم اصحاب حرف يمضون نهارهم في علمهم اليومي المعتاد حتى اذا جاءت الليلة وجاءت السهرة انقلب هؤلاء الى فنانين باستطاعتهم امتاع الالوف واضحاكها).
نفهم من تعريف السامر، بان ادريس سعى ان يكون الشكل الذي يبتغيه (مسرحيا) هو الشكل الذي يقترب كثيرا من احتفال الموالد بالثقافة المصرية، والتي فيها نرى السحرة، والالعاب البهلوانية وايضا هناك مغني وراقصة، والباعة، ولعب خاصة للاطفال، وهناك ايضا المهرج والقرقوز والحكواتي، بمعنى انه احتفال متكامل.
وجد ادريس في شخصية فرفور او مجموعة فرافير، هي النموذج لتجسيد تلك الخصوصية في السامر، كونه يمتلك من خفة الظل، والقدرة على الاضحاك، واشعاع المتعة بين المتفرجين، واحيانا ياخذ دور الحكيم باعطاء النصائح والاهم فان الفرافير هي احدى الظواهر الاجتماعية داخل المجتمع المصري في كل زمان ومكان، القدرة العالية بتغير الجو العام للجموع من الإضحاك الى الإصغاء، احدى مميزاته كي يكون الشخصية المحورية لهذا الشكل المسرحي (السامر)، ولماذا شخصية فرفور وليس الاراجوز مثلا، لانه يجده شخصية مصرية وهذا ما يميزها على الاراجوز، وهو الذي (لم تخترعه او تبتكره العقلية المصرية ومن المحتمل جدا ان يكون قد انتقل لمصر اثناء فترة التفاعل الكبرى بين ارجاء الامبراطورية الاسلامية في عصرها الذهبي) ، وبالاضافة لكل ذلك، فأن هناك ما يدعم راي ادريس، في السامر والذي هو (الشكل الاكثر أكتمالا، فهو نوع من العرض المفتوح يساهم فيه ابناء القرية بعد انتهائهم من يوم عمل، وخاصة في امسيات الصيف بعد الحصاد) .
الفرافير
اعلن يوسف ادريس عن مشروعه (السامر) من خلال مسرحيته (فرافير)، والتي أخرجها كرم مطاوع عام 1963، والفرافير كانت تضم الأشكال الفنية في المجتمع المصري، والتي جسدها إدريس كشكل مسرحي مغاير، انطلق من الموروث المصري، من اجل خصوصية مسرحية مصرية، و (الفرافير، بالتحديد تجسد تطبيقيا لدعوة يوسف ادريس الحارة للبحث عن المسرح الأخر.. المغاير.... البديل.... الذي يستفيد من الموروثات الشعبية من الاراجوز.... وخيال الظل... والسامر الشعبي.. وأجواء السيرك... ونمر البهلوانات... وألعاب الهواء.. ومن تراث الكوميديا الشعبية وعروض فرق المحيظين ألجواله...... وأيضا من حالة التمسرح ndash; بإعادة مسرحة الحياة بمشاركة وتوحد الممثلين والمتفرجين دون إيهام مسرحي... ولا حائط رابع... ولا ستار يفصلهم... ولا بناء درامي تقليدي يلتزم بالقواعد الارسطية... مع حرص على الاستفادة من توظيف الميل الغريزي للإنسان الى اللعب) .
هذه فحوى مشروع ادريس (السامر)، ولكن كل ذلك شيء نظري، لايعدو كونه حلم نحو مسرح اخر، كاتب فكر او حلم بمسرح مغاير، ونؤكد على كاتب، لم يكن ادريس مخرجا مسرحيا او حتى ممثلا، كي ينطلق من تجربته العملية من الخشبة، بل انطلق من الورق والتنظير، والمسرح يعترف بالتجربة العملية، الاشتغالات على الخشبة هي المحك الحقيقي لإعطاء التجربة مصداقية الكتابات التنظيرية، لهذا لم يقتنع ادريس بما قدمه المخرج كرم مطاوع لفرافيره، وذكر بان ذلك لم يكن الشكل الفني الذي اقترحه لمسرح السامر ولا ما تذهب اليه مسرحية الفرافير كنص ادبي، بطرح شكل مسرحي اخر، او بالاحرى مسرح بديل، اراد للفرافير ان تكون جزا من اللعبة المسرحية وليست منفصلة عن الجمهور، بل الجمهور جزأ وجزا مهم، لا ان يستعين بكورس كي يمثل دور الجمهور، كما فعل كرم مطاوع، بل (ان يكون المسرح مثل حلقة الذكر حيث لايوجد متفرجون، وانما يوجد فريق ينشد ويصفق- وفريق اخر يرقص رقصا جماعيا- بمعنى انك تذهب للمسرح لا لكي تتفرج على مسرحية ما... بل لكي تشترك في عرض مسرحي) ، العرض بمجمله كما نفهم قوض، مشروع يوسف ادريس باكمله،لانه قدم وقتها كعرض تقليدي، وعلى اثر ذلك ذكر ادريس بان (لا تزال نظرية التمسرح باقية جديدة غير مطروقة في انتظار مخرج اخر يدركها ويحسها ويقدمها) .
لكننا نسال، هل كان المتفرج المصري مؤهلا للدخول بهذه اللعبة؟؟ كون نظرية او مشروع مسرح السامر يعتمد بالدرجة الاولى على المتفرج، ومدى استجابته للدخول بتلك اللعبة، لان في السامر كما يذكر ادريس، ليس هناك جمهور وممثلون، بل الكل يشترك في هذا الشكل الفني، ويبقى دور الممثلين هو المحرك والمسير لتراتبية شكل السامر.
الملاحظ في تلك التجربة، انها لم تحسب بان الاشكال التي اقترحها السامر والتي كانت موجودة داخل المظاهر الاجتماعية داخل المجتمع، هي كانت عفوية، لانها تقدم اكثر شيء في الموالد، والمناسبات الدينية وايضا، في جلسات السمر الليلية، بمعنى انها لم تكن حالة المشاركة باللعب قصدية، وانما احتفالية لفترة من الزمن، وعندما تنتقل الى المسرح، ستفتقد لتلك التلقائية، باعتبار ان كل شيء فيها مرتب، والمتفرج الذي جاء من اجل مشاهدة مسرحية، حتى لو كانت تلك المسرحية بالهواء الطلق، هو متحفز كي ياخذ دور المتفرج، وهناك معوقات كثيرة بعدم مشاركته الفرافير.
من المؤكد ان تجربة ادريس، تجربة واعية، ولكن في جانب الانطلاق من الاشكال الفنية داخل المجتمع، والبحث عنها في الموروث، ومن ثم توظيفها مسرحيا، لكن كل ما طرحه ادريس داخل السامر هو ينتمي الى الموالد الاحتفالية، وبالتالي من الصعب نقلها حرفيا على الخشبة، وتبقى بكونها مجرد موالد تكون اكثر جمالية.
لهذا بان تجربة يوسف ادريس تجربة نظرية، لاتمتلك مقومات بقائها، كونها لاتنطلق من داخل مختبر مسرحي، وبالتالي عندما ينضج المشروع داخل المختبر، يخرج لنا على الخشبة.