الكاتبة الروائية سها م بيومي
روايتي الأولى شهادة احتجاج علي محاولة طمس تاريخ القاهرة
محمد الحمامصي من القاهرة: في روايتيها (خرائط للموج) و(أيام القبوطي) تسعي الكاتبة سهام بيومي إلي فضح ممارسات الواقع عبر التاريخ، ففي روايتها الأولي تتناول ما آلت إليه عمارة القاهرة بما تحمله من تاريخ عريق يمتد إلي آلاف السنين من فوضي وعشوائية كانت سبباً في ظهور بؤر تفرخ الإرهاب، وفي الثانية تفضح التاريخي الرسمي الذي تجاهل ما عاناه المصريون في حفر قناة السويس، هؤلاء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لحفر القناة وأيضا من قبضوا الثمن، وللكاتبة دراسات ميدانية عن بعض أحياء القاهرة منها دراسة عن شارع قصر النيل تحولت إلي فيلم تسجيلي، ودراسة عن مدينة بورسعيد، ولها مجموعة قصصية بعنوان الخيل والليل، وتكتب قصصاً للأطفال، وهي تعمل صحفية بجريد الجمهورية منذ منتصف السبعينيات، وقد ترجمت بعض قصصها إلي اللغتين الإنجليزية والألمانية، كما ترجمت فصول من رواياتها إلي الفرنسية، وفي هذا الحوار معها نتعرف إلي عالمها الروائي خاصة في روايتيها خرائط للموج وأيام القبوطي اللتين صدرتا عن روايات الهلال ..
بحر القاهرة في خرائط للموج
لماذا فرض البحر نفسه عليّ وأنا أكتب عن القاهرة رواية خرائط للموج؟ ولماذا كنت أرى طوال الوقت الموج وهو يتخلل طرقاتها ويضرب في جدرانها، وأتسمع وشيش الموج يسري في فضائها في حركة لا تتوقف؟ هكذا كنت أرى القاهرة وأنا أكتب عنها وهكذا كانت تربكني الرؤية وأنا أحاول أن أمسك بخيوطها فتنفلت مني، وعندما أعيد المحاولة أجد أنها قد أعيد تشكيلها في موجة أخرى، تدفعني الأمواج إلي عرض البحر أو تجذبني إلي الأعماق أو تلقي بي علي شواطئه، كنت أحاول أن أراوغ الرؤية فأذهب إلي بورسعيد لأعيد إليها بحرها الذي اصطحبني إلي القاهرة، لكن بمجرد عودتي إلي أجد نفسي وسط البحر، أقف لحظات وأنا أحاول أن أجمع شتات فكري، أقول لنفسي: لا ليس هو بحر بورسعيد، فهو مختلف عن البحر هناك، هو بحر القاهرة، لكن لماذا يفرض البحر نفسه؟ هكذا ظللت أتساءل حتى قلت لنفسي لتكن القاهرة بحراً مادمت أراها هكذا، ماذا يضير في ذلك؟ كان البحر يكشف لي مساحات من الرؤى تضيق وتتسع تباعاً مع حركة الموج، وتسفر في كل مرة عن منظومة جديدة للرؤى تتجلى فيها وجوه القاهرة كل مرة من منظور مختلف، وأنا أحاول أن أبحث عن نقطة أبدأ منها رسم الخارطة، فكان يصعب عليّ أن أرسم أمواجا في حالة حركة مستمرة، لكن اللعبة كانت تستهويني فأترك نفسي لها، وأمارس لعبة تفكيك الذات، وهكذا كانت فصول الرواية تكتبني كما أكتبها، وتعيد صياغتها مع كل مرة أعيد كتابتها فيها، وأعود كل مرة محملة بالأسئلة، حتى أنه لم يعد يعنيني أن أجد إجابة شافية، قدر ما يعنيني أن أعيش اللحظة بكل ما تثيره من مشاعر، وبكل ما ينبثق عنها من رؤى، لأجد القصة القصيرة التي كتبتها في حوالي عشرين صفحة قد بلغت نحو ثلثمائة صفحة وأنا ألهث وراء المشاهد والأحداث لأرسم خرائط الموت ..
إن الرواية شاهدة عن القاهرة نفسها، القاهرة التي يجتاحها الطوفان، ويطمس معالمها وتاريخها وذكرياتها، وقدمت هي شواهدها علي مدى قرون وحقب وها أنا أقدم لها شهادة احتجاجا علي من يحاولون طمس تلك الشواهد ..
احتجاج أم هزيمة البطلة
بطلة الرواية مهندسة معمارية ترصد تاريخ مدينة القاهرة من خلال العمارة، وترصد معها معمار العلاقات الاجتماعية من منظور جيل السبعينات، مشدودة إلي حي العباسية الذي نشأت فيه بحثاً عن يوتوبيا الطفولة أمام احباطات الواقع، كنت أبذل جهدا كي لا أجعلها تستغرق في حالة حنين للماضي، لكنها كانت تعاندني حتى تركتني وعادت إلي العباسية كما تركت يوسف رفيق العمر عند مفترق الطرق بينهما، عادت إلي بيت الأب الذي ظل طابقاً واحدا كما هو، وقد أصبح محاصراً بالأبنية التي ارتفعت طوابقها عاما بعد عام، تتساءل بينها وبين نفسها: كيف تبدو معالم العباسية علي الخارطة كيف تبدو الذكريات والأحلام وكيف يبدو الناس الذين خرجوا منه واحتلوا مكانة مرموقة في المجتمع كحي للطبقة الوسطى ..
وفي نهاية الرواية لفت أوراق بحثها حول جسدها وأحاطته بها، توحدت بها، بالحلم حلم بناء عمارة جديدة تستشرف المستقبل وتفجر في الناس ينابيع الإحساس بالجمال كقوة خلاقة ومبدعة، عمارة تلائم البيئة وتعتمد علي امكانياتها أي متحررة من التبعية، وخرجت في الصباح الباكر إلي الميدان، نفس الميدان الذي شهد تجمع الطلبة في المظاهرات أيام الدراسة، مثلما فعلت عندما خبأت المنشورات تحت سترتها، فقد ارتدت معطفها، ومضت إلي نفس المكان الذي أصبح خاليا من القاعدة الخالية من التمثال وفتحت معطفها وظلت الأوراق تتقشر عن جسدها وتتطاير فيتلقفها المارة، تماما مثلما كانوا يتلقفون المنشورات وهي تطيرها لهم أيام المظاهرات، وتظل الأوراق تتقشر عن جسدها حتى تقف عارية في قلب الميدان، لقد اعتبر البعض هذه النهاية إعلان لهزيمة البطلة أو دخولها إلي مرحلة الاضطراب النفسي، بينما اعتبرها البعض موقف احتجاج قوي ورفض للهزيمة ..
بورسعيد وأيام القبوطي
بدأت علاقتي بمدينة بورسعيد في منتصف الثمانينات، في تلك الفترة كانت في ذروة الازدهار الكاذب للمنطقة الحرة الذي أخذ الخط البياني بعده في التنازل وحدث استقطاب شديد كان يبدو معه أن المدينة قد انقسمت إلي مدينتين بين هؤلاء الذين دفعوا ثمن المعاناة عن فترة التهجير وحرب الاستنزاف وهؤلاء الذين قبضوا الثمن وسادت قيم متباينة بين الجانبين، وكان السؤال الذي يشغلني وقتها: هل انتهت بورسعيد 48، بورسعيد 56، وفي محاولة للإجابة قمت بعمل دراسة سيسيولوجية للشخصية البورسعيدية بعنوان (بورسعيد من المقاومة إلي الانفتاح) نشرت أجزاء منها، وقد كانت عبارة عن تجربة معايشة للناس أي أهالي بورسعيد وهي التي قادتني لكتابة رواية أيام القبوطي، والقبوطي اسم له دلالة معينة وخاصة ببورسعيد، فهو مرتبط بها باعتباره اسما لمنطقة الصيادين الواقعة علي بحيرة المنزلة، وهو أيضا اسم لأحد الأولياء الذي يقع مقامه في هذا الحي، لقد لفت نظري أثناء القيام بالدراسة أن هذا الشيخ له حضور طاغ ليس فقط في الكرامات التي يعتقدها الناس في الحياة اليومية، ولكن كراماته تمتد إلي فترات الحروب، فهم يتحدثون عن كراماته في أثناء حصار المدينة في حرب 56، فكان يساعد الفدائيين علي التسلل إلي المدينة عبر بحيرة المنزلة ويهديهم إلي طريق الأمان ويدفع عنهم الشرور ويعمي عنهم أعين جنود الاحتلال وهم يؤدون مهامهم، وكذلك خلال فترة حرب الاستنزاف ..
وكلمة القبوطي كما يقال مشتقة من كلمة قبطي أي مصري وهو الاسم الذي كان يطلق علي المصريين حتى الفتح العربي، وعندما جاء العرب بعد الفتح كان معظم المصريين مسيحيين فكانت تطلق عليهم وفيما بعد أصبحت تطلق علي المسيحيين المصريين ..
الرواية التاريخية
أكتب عن تاريخ الجماعة الشعبية المتخيل من وجهة نظرها، أي التاريخ الشفهي غير المدون، وهو التاريخ الذي تتجاهله كتب التاريخ الرسمي، أي المسكوت عنه تاريخياً، فالتاريخ الرسمي يسقط من حساباته دور الجماعة الشعبية أو يهمشها أو يجعلها مفعولاً به ويسقط دورها الفاعل، والذي بدونه لا تكتمل المعرفة الحقيقية للتاريخ، فكتب التاريخ الرسمي عن فترة حفر قناة السويس تتجاهل عمليات التمرد التي قام بها عمال السخرة وأطلقت عليهم اسم الأنفار وهي تسمية تجردهم من ملامحهم الإنسانية ومن سياقهم التاريخي، أي تتحدث عنهم ككيانات بلا ملامح، كذلك عن السكان الذين كانوا يعيشون في المنطقة نفسها وكأن دليسبس قد هبط ببارشوت في تلك المنطقة ليحفر القناة وليس منطقة ممتدة في عمق الترايخ المصري .
يختلف التاريخ الشفهي عن التاريخ الرسمي في أن الأخير ذو بنية تقليدية مسلسلة حسب التتابع الزمني، أما التاريخ الشفهي للجماعة الشعبية فهو غير ثابت يتغير الحكي فيه من جيل إلي جيل ويتدخل فيه الخيال ويتحول مع الوقت إلي أسطورة أو شكل عجائبي، كما قد يختزل في رموز ومقولات معينة تظل تتردد علي ألسنة الأجيال المختلفة قد لا يعرفون أصولها وربما قيلت، وهذا غير مهم في حد ذاته إنما المهم فيها كيف تعبر الجماعة الشعبية عن نفسها من خلال تلك المقولات أو الرموز، لقد تعاملت مع الأسطورة وتلك الرموز باعتبارها مرجعية تاريخية للجماعة الشعبية، والأسطورة كما يقال هي أحلام يقظة الشعوب .
دور النساء
كان هناك دور بارز للنساء في رواية (أيام القبوطي) فعندما تم القبض علي الرجال الذين قاوموا رجال الكومبانية في بداية حفر القناة، خلت العزب من الرجال، وقامت النساء بقيادة أمينة زوجة السيد القبوطي وابنة السيد الفرماوي بقيادة نساء العزب وقررن القيام بأعمال الرجال حتى تستمر الحياة، كما كن يجلسن في ساحة الفرما في المكان الذي اعتاد الرجال الجلوس فيه ليتشاورن في أمورهن وما يجب عليهن فعله، وتاريخ النساء هو جزء من المسكوت عنه في التاريخ، فالنساء شاركن وتعددت أدوارهن مثلهن مثل الرجال، فهناك النساء اللاتي صمدن وقدن أسرهن ووفرن الحماية لهن ورفضن التعامل مع الكومبانية، لقد كان وعيهن بدورهن قويا وكبيراً وملتحما مع الأحداث ..
في روليتي السابقة (خرائط للموج) لم تكن عودة البطلة إلي الماضي وهي ترصد ملامح المدينة القاهرة وما طرأ عليها من تغيرات حالة حنين للماضي، وإنما رصيد هوية المدينة بكل مكوناتها التاريخية من حقب وعصور مختلفة، هي عودة للرحم بحثاً عن ميلاد جديد ..