المسرح العربي بين الاستعارة والتقليد (5/5)

أحمد شرجي: الاخراج والمخرج في بلد رائد المسرح العربي مارون النقاش هو متشابه الى حد ما مع بقية الدول العربية التي عرفت المسرح في ذلك الوقت، لكننا نتلمس حضور العقل المفكر في العمل المسرحي، والذي نعني به المخرج واشتغالاته الواعية على النص والفضاء وايضا الممثل، فاننا نشير بدون تردد الى تجربة روجيه عساف في محترف بيروت للمسرح والذي أسسه مع المخرجة والممثلة نضال الاشقر عام 1968، هذا المحترف الذي شارك في تكون المسرح السياسي في لبنان، من خلال الاعمال التي قدمها.
ادخل روجيه عساف فرقته المختبر المسرحي، هذا المختبر الذي ألغى جهوزية النص، النص بكامل ثقله داخل العرض المسرحي، بل كان وقتها احد الركائز المهمة التي يرتكز اليها العرض المسرحي، خاصة وان المنطقة برمتها تعتمد على الاقتباس في تقديم اعمالها، وسعى الى كتابة نص اخر يعتمد وينطلق من الارتجال الجماعي ومن ثم يواكب احد المؤلفين المراحل المتعددة التي تسير عليها البروفة وعملية الارتجال التي تنتجها، (وقد جاءت معظم هذه العروض ثمرة quot;للارتجال الجماعيquot;، وهو الاتجاه الفني الذي اتخذه المحترف كوسيلة للخلق)(1) ، كذلك سعى عساف لالغاء المسافة الفاصلة بين الممثل والقاعة، من خلال التداخل بين العرض والمتفرج.
هذه الاشتغالات بوقت مبكر، كان ورائها عقل اخراجي مفكر وجرأة، وكذلك القصدية في الاشتغال وهذه القصدية التي كانت تخط لنفسها اتجاها جديدا في تقديم العمل المسرحي، هذا الاتجاه يعتمد على الارتجال المسرحي، او بمعنى اخر الكتابة من خلال التمرين، هذه الكتابة هي التي تنتج العرض المسرحي، يحركها رؤية المخرج للعرض الذي يريد تقديمه، ورفضه للنص المسرحي الجاهز مهما كان لونه وأهميته، اذا يكتب النص في داخل التمرين ويتطور وفق السياق الذي تنتجه المخيلة.
عملية الاشتغال هذه كانت عملية رائدة على مستوى الاخراج في لبنان آنذاك، كونها سعت الى التفرد والخصوصية بعملية اشتغالها، وهي بعيدة كل البعد عن ما يقدم من عروض مسرحية وقتذاك، هذه القصدية بعملية الاشتغال يقف ورائها مخرج، يعي تماما كيفية استخدام ادوات انتاج خطابه المسرحي.
محاولات روجيه عساف في البحث عن شكل مسرحي مغاير، دعته للإعلان عن فحوى تلك الاشتغالات واطلق على مشروعه (مسرح الحكواتي) في بيان تضمن كل المعايير التي يسير عليها (مسرح الحكواتي) وكان هذا في ايار عام 1979، والذي اكد فيه بضرورة هذا الشكل المسرحي الذي تتطلبه المرحلة، ويجب ان يبتعد المسرحي عن كل اشكال التقليد لما تنتجه اوربا ثقافيا ومسرحيا، ويجب علينا الاستفادة من الإرث الثقافي العربي، وايضا الولوج للتراث العربي والحكايات الشعبية والمتداول اليومي كمادة اساسية لـ (مسرح الحكواتي)، وايضا سعى عساف في بيانه الى ادخال المتفرجين ضمن اللعبة المسرحية، وضرورة التوجه الى المسرح الشعبي، فالحكواتي - بعلاقته المباشرة مع الجمهور، يروي ويجسد المشاهد بواسطة ادوات بسيطة ومكشوفة -
ومن اجل هذه البساطة، اتجه عساف الى العمل الجماعي، والاتصال الحقيقي مع الجماهير يرتكز الى نقطتين أساسيتين:
-تغير نوعية العلاقة مع الانتاج المسرحي
-تغير نوعية العلاقة مع الجمهور(2)
خطوة البيان تعد مغامرة بحد ذاتها ولا تخلو من الجرأة، وان كنا نتفق بان ليس بالبيانات وحدها يتطور المسرح، وتصنع شكل مسرحي مغاير، او مخرج مسرحي، لكن عساف سعى بكل قوة لتطبيق كل خطوات البيان داخل العرض المسرحي، وهذا كان في مسرحيته الأولى (من حكايات سنة 1936)، والتي تحدثت عن احداث ووقائع عربية، وبعد هذه الخطوة دعم (مسرح الحكواتي) بعمل أخر سار على نفس المنوال بطريقة الاشتغال وهو (أيام الخيام)، حتى في عمله الانفرادي (المونودراما)، وهي مسرحية (الجرس) التي كتبها ومثلها الفنان (رفيق احمد علي)، أخضعه لشروط مسرح الحكواتي، بحيث لم يكن هناك ممثلا واحد يسرد لنا الحكاية،بل كانت المسرحية التي يرويها (الحكواتي ويجسد المشاهد بواسطة ادوات بسيطة ومكشوفة- وينطلق مسرح الحكواتي من هذا الأسلوب فيحكي حكاياته الشعبية مباشرة ndash; ويستخدم ادوات مسرحية مبسطة ومكشوفة لتجسيد مشاهدها ndash; فيخلق بذلك إزالة العازل التقليدي بين خشبة المسرح وكل ماهو خارجه من ناحية مكان العرض ndash; الكواليس والديكور- خدعة الإضاءة- ومن ناحية اخرى الواقع الاجتماعي... الزمن الوهمي... تعمق الشخصيات.. ويحقق كذلك إلغاء المسافة بين الممثل والقاعة)(3) .
لقد كان روجيه عساف امينا في تطبيق المفاهيم التي ضمها بيان (مسرح الحكواتي)، وهي احدى متطلبات الاشتغال الحديث بانك تنطلق من المختبر للوصول الى النتائج التي تنشدها لمشروعك المسرحي، نستشف من ذلك بان عقلية المخرج، رؤيته، وعيه، القصدية في الاشتغال،كانت حاضرة لانتاج فرجة مغايرة (أن الفرجة يجب ان تكون خلفها فكرة سواء كان الفكر او الرسالة فلسفية او اجتماعية او عقائدية...........، يظهر الفن فيها بمظهر الوسيلة الثانوية فالفن متعة قبل كل شيء)(4) .
كانت كل خطوات عساف في محترف بيروت للمسرح، ذات قصدية مدروسة بعناية، من اجل تبسيط العمل المسرحي للمتفرج، هذه البساطة لانعني بها المباشرة والسطحية الساذجة، بل كان كل شيء يقدم للمتفرج هدفه واضح، وخطواته جاءت عبر مخاضات عديدة داخل المختبر، حتى استقر بالشكل الذي خرج للمتفرج مع بيانه الاول،وهو (مسرح الحكواتي).
لكن السؤال الذي يجب ان نطرحه بعد ان ادركنا اشتغالات روجيه عساف ومختبره المسرحي، هل هذه التجربة هي تجربة لبنانية بامتياز؟ او تجربة خالصة تنتمي بكل تفاصيلها الى روجيه عساف؟؟؟؟
رغم اهمية الاعمال التي قدمها روجيه عساف في محترف بيروت المسرحي، والتي شكلت خصوصية عساف كمخرج على الساحة المسرحية اللبنانية والعربية، التي استقبلت مشروعه (مسرح الحكواتي) بترحيب كبير، لكن تجربة ومشروع عساف بمجملها على تناص كبير مع تجربة اريان منوشيكن ومسرح الشمس، هذا التناص بدا من تشكيل فرقة مسرحية مستقلة (محترف بيروت للمسرح) هذا المحترف (الفرقة) استفادة كبيرة من تجربة (مسرح الشمس) الفرنسية والتي تشرف عليها المخرجة الفرنسية (اريان منوشيكن)، وهذا التناص اشار اليه الكاتب اللبناني بول شاوول، بل ذهب الى اكثر من ذلك، حتى في الاستفادة من العمل المسرحي الواحد، من حيث الدلالات الرقمية،فأننا نجد مسرحية منوشيكن والتي حملت عنوان رقمي(1789) ومسرحية عساف الاولى تحت مشروع مسرح الحكواتي والتي حملت ايضا عنوان رقمي (1936)، وايضا المادة المسرحية في كل مسرحية، وهي الاحداث التي جرت في تلك الاعوام،(في مسرحية quot;مسرح الشمس 1789 و 1793quot; و مسرحية فرقة quot;الحكواتي1936 quot; مشابهات ومطابقات كثيرة في تحديد الموضوع التاريخي والعمل عليه وكتابته وتقديمه، ودور الكتابة الجماعية وطبيعة النص، والفضاء المسرحي، الاولى تحكي عن وقائع تاريخية مهمة بالنسبة للذاكرة الجماعية الفرنسية ومسرحية quot;الحكواتيquot; ايضا تحكي عن وقائع تاريخية مهمة للذاكرة الشعبية العربية)(5).
ولم يكن التشابه يقتصر على الاعمال المسرحية، لكن الذي يهمنا هو ذلك التشابه باسلوب الاشتغال، فأننا نجد ان مشروع مسرح الشمس، يعتمد بالدرجة الاساس على العمل الجماعي بتشكيل اعماله المسرحية، وايضا يتخذ الكتابة الجماعية كعنصر اساسه لنصوصه، هذه الكتابة، التي تنطلق من البروفة كمادة اساسية او ارضية، لتشكيل النص و العرض، وهذه الكتابة او البروفات، يتواجد فيها ايضا مؤلف، يراقب التراكم اليومي للبروفة (الارتجال)، ومن ثم يصيغ الشكل النهائي للنص، ويكون نص ابداعي كتبه الجميع، والارتجال، هو المادة الاساسية لذلك الاشتغال.
لكن هل هذا يعد مثلبا، وبالتالي يصادر خطوات روجيه عساف، بخلق خصوصيته المسرحية، والية اشتغاله؟طالما ان المسرح العربي منذ ولادته عام 1848، والى الان يعمل وفق تأثره باطروحات المسرح الغربي، ويعمل وفق تلك التأثيرات، منذ طروحات المسرح الاغريقي، الى اخر التجارب والاتجاهات المسرحية الحديثة التي يطرحها المسرح الأوربي، لهذا (فليس من المستغرب ان يتاثر روجيه عساف بمنوشيكن هذا التأثر المتعمق والجدي ويصوغ من خلال مقولتها آراءه في المسرح وفي المشاركة وفي الفضاء المسرحي وفي منهج المشاركة والارتجال والاكسسوارات بما في ذلك استعماله العرائس، والمانيكان الخشبية والمهرج والكوميديا دي لارتي، والديكور المتحرك المقتصد والحي)(6).
لكن الحقيقة في كل ما ذكرناه سابقا، او استندنا عليه بما يدعم رائينا بذلك، هو ليس تشابه في طريقة العمل او تاثر، بل هو تأثر كبير في تجربة اريان منوشيكن، ونقلها للمسرح العربي لتقديمها وبالتالي تبنيها والتنظير لها، كأنها تجربة خالصة لمحترف بيروت للمسرح وروجيه عساف كمخرج.

هوامش:
1 - الراعي، سبق ذكره،215.
2 - عساف،روجيه،بيان مسرح الحكواتي، في، نظرية المسرح، القسم الثاني،الخطيب، محمود كامل، تحرير وتقديم، سبق ذكره،ص734.
3 - بدران، سبق ذكره،ص43.
4 - بن زيدان، سبق ذكره، ص239.
5 - شاوول، بول، المسرح العربي الحديث 1976-1989،رياض الريس للكتب والنشر،لندن،بلا-، ص 64.
6 - شاوول، نفسه، ص67.