في معرض الربيع التشكيلي السنوي (كوبنهاكن)
علي النجار: يحيلنا الانطباع الحاصل من مشاهدة معرض الربيع التشكيلي الدانمركي الأخير في قاعة فن المدينة (Kunsthall Charlotte ) بإلحاح إلى مقارنات تشكيلية أوربية أخرى، أهمها معرض الرويال أكاديمي اللندني، وذلك لتشابه هيكلة المؤسستين وتوجهاتهما العملية والثقافية التشكيلية. وبقدر اكتضاض قاعات الرويال العديدة بالأعمال التشكيلية الأكثر ألفة (رسم، نحت، كرافيك، وبعض التجارب التشكيلية المعاصرة) في عرضه الأخير، افتقدها بشكل مثير للدهشة عرض كوبنهاكن. مع ذلك فان هذا الأمر لا يشكل غرابة خاصة للمتابع للتشكيل الدانمركي المؤسساتي والذي تتشابه أو تتشابك خطوط توجهاته العامة والتشكيل الأوربي الشمالي، والذي هو جزء منه، المنفلت أو المتمرد على ارث التشكيل الحديث. ربما شكل الجوار الجغرافي الأوربي الشمالي وجذره الثقافي البيئي واللغوي وكذلك حداثة مرحلة التشكيل حافزا قويا لنزعة التماهي والتجارب التشكيلية للجانب الأطلسي المقابل مع النأي بعض الشيء عن مألوف التشكيل الأوربي الغربي. في الجانب الآخر لا يزال الموروث التاريخي التشكيلي الانكليزي وبضمنة الحديث الأكثر عراقة فاعلا في حدود مجاورته أو محاورته مع بعض التجاوزات المحسوبة أدائيا وذوقيا. وهذا ما يفسر لنا بعض الشيء كثافة الأعمال التشكيلية التي تغازل منطقة الحداثة في العرض اللندني وانحسارها في عرض كوبنهاكن والتي تؤكد على أن للإرث أحيانا سطوة ليس من الهين تجاوزها بقدر من مجاورته أو محاورته بحدود ما، مع العلم أن هذا لا يعني أن مطلق التجربة التشكيلية مرهونة بهذه السطوة.
في محاولة من القيمين على هذا العرض (الدانمركي) التجاوز آو النأي عن المألوف التشكيلي وحتى الأوربي بعواصمه التشكيلية المعروفة بتبنيهم مفاهيم تعتمد إثارة حوافز المقدرة الأدائية الإيحائية الفنتاسية للعمل التشكيلي (بعد إعلان موت الصنعة الاحترافية) وجدة وحتى غرابة العديد من معطيات الأفكار وطريقة تنفيذها ومادة إخراجها يستوي في ذلك نتاج الفنان التشكيلي المحترف والهاوي والمصمم والمعماري والمصور الفوتوغرافي والتقني الرقمي. و للفكرة وهي هنا مفاهيمية غالبا الحصة الأكبر ( وللهواية قضيتها الخاصة في هذه البلدان، وشاهدنا هو عرض قاعة الصخرة الحمراء في مدينة يوتوبوري السويدية للعام الماضي والذي اعتمد على القرعة في اختيار العمل لعرضه لا على مستواه الأدائي أو التقني، والقرعة تشمل حتى الهواة ومن مختلف الأعمار ما عدى المحترفين، في مسعى لنزع صفة الاحتراف وفتح الحدود الثقافية التشكيلية اجتماعيا). كما أن أعمال الرسم القليلة المعروضة هي الأخرى خضعت لأنزياحات جزئياتها التقليدية الحداثوية لصالح رؤيا تلسيقية بيئية اغترابية وبتقنيات مختلطة. ليس للمألوف من قدرة على اجتياز حواجز هذا العرض، وان شكلت مألوفية بعض الأعمال لغزا. فان ألغازها هي الأخرى تحيلنا إلى مألوفية معينة علينا اكتشاف مصادرها المشهدية والدلالية، وخاصة في الأعمال المصنعة أو المؤلفة من مواد مألوفة لا يخطر ببالنا أن تشكل أو يتشكل من بعضها عملا إبداعيا. لكن وكما يبدو فان للفنتاسيا الذهنية المسترخية دور ما في طريقة إخراج هذه الأعمال . وليس أفصح من العمل المعروض المعنون (يوجد صحن للكل) وهو عبارة عن مجموعة صحون منضدة عموديا لا أكثر ولا اقل. صحون لو لم يتم قراءة شاهدتها لكانت تمثل غرابة لا مبرر لوجودها وسط زحمة بقية العروض في بلد يوجد فيه فعلا صحنا لكل الناس.
ما يثير الانتباه في هذا العرض الجماعي هو أن أعمال الفنانات تشكل نسبته الأكبر. وهو أمر يدعو للتساؤل ويحل في نفس الوقت إشكالية مظهرية العديد من الأعمال المعروضة. ويبدو أن التشكيل النسوي يعمل على بناء مجده الذي كان مفقودا في العصور الأوربية السابقة، ولم يكن الأمر بريئا بل يرجع إلى سياسة ثقافية مبرمجة تحاول تكريس المرأة في المجال التشكيلي كما في المجالات الأخرى صنوا للرجل في هذا البلد (الغالبية المطلقة من طلبة الفن هم إناث). هذا ما تؤكده أعمال عديدة منها هذا العمل التجميعي المؤلف من منضدة الزينة النسوية بتفاصيلها العديدة والذي يختفي في احد أدراجها المسحوبة فيديو محاط بشراشف مطوية من جهاته الأربع ويعرض للقطات تمثل مراهقا بحركات استمنائية إيحائية. أو العمل الذي يستبدل الهيكل (البليت المعدني) الذي يحتضن الرمل أو الخرسانة من العربة اليدوية ذات العجلة الواحدة التقليدية المستعملة في البناء، بمعدن سلك حريري وردي مخرم، كناية عن وسط حاضن (انثوي) للولادات الإنسانية في مسعى تصوري لتبادل أدوارها الاستيطانية. ومثلما تعامل الفنانة هذا العمل برقة مستوحاة من تفاصيل حاضنها الأنثوي الرقيق. مثلما هي أيضا توحي بحضانتها للولادات البشرية التي تتساوى هشاشة أجسامها وهشاشة أو رقة حاضنها أو حاملها، مع ذلك فإنها إنشاءات إنسانية تحمل صلابتها المرادفة لصلابة بقية الإنشاءات البيئية الأخرى.
الإثارة تكمن في كيفية النظر إلى هذه الأعمال وتقبل عدم مألوفية غالبيتها، ربما يرجع السبب إلى مقاربة بعضها للأعمال التجسيمية أو الخطية لهيكلة التكوين المعماري بفنتاسيا احترافية. من هذه الأعمال: المجسم الخشبي الدائري العائم في الفراغ والمصمم كمتاهة مختزلة ينفذ من خلالها المشاهد إلى استداراتها الداخلية محتجزا ضمن مسار ضيق حتى النفاذ منها. يكمن سحر هذا العمل أولا في غرابة هيكليته ( إذ أن غالبية الأعمال المشابهة كانت مصنعة من المعدن ومستقرة كأنصاب على الأرض) ويأتي هذا العمل ليحررها من ثقل مادتها وحيزها الفضائي (استعارة من العمارة التفكيكية). وإخراجه بهذه التقنية لم يكن إلا نتيجة مثمرة لشراكة الفنان والمعماري ومؤسسته. إضافة للمجسمات التشكيلية المعمارية والتصميمية لم تغب الخرائط الطبوغرافية سواء منها الفوتوغرافيكية أو التخطيطية التحبيرية، مع ذلك فإنها أيضا تحمل جدة وغرابة البحث وقصديه المعلومة الثقافية الملغزة. وما بين موقع برجل بابل الافتراضي من خارطة مدينته الافتراضية في احد الأعمال، و خارطة مسار (الأوتو ستوب من بين المدن وحافاتها. وبين وثائق حياتية ورقية هي بعض من مسارات يومية شكل عرضها غرائبية رغم ألفتها المعاشة في عالمنا الورقي، لكنها مع كل ذلك لا تزال تحمل لغزها الاستفهامي وسط حشد أعمال لا تقل عنها غرابة تتشكل ضمن ذائقة تشكيلية دانمركية بامتياز ماركاتها الجديدة. للتربة أو التراب حصته في هذا العرض في العمل المثير للفضول الذي يتشكل كمنصة خشبية أرضية مستطيلة منخفضة تخترق حيز الباب أو المنفذ الذي يفصل قاعتين في العمق من الجانبين مع انخفاض في وسطها يضم ترابا هو جزء من التربة الندية للحديقة الخارجية وعلى المشاهدين اقتحام هذا الحاجز من جزئه المترب وهو الدرب الوحيد النافذ. هل نجح الفنان في هذا العمل الافتراضي في إدخالنا لمتاهات مطبات الطرق الترابية، رغم كونها غير مألوفة هنا، أم ليثير أحاسيسنا بوطء حساسية مادة البيئة الطبيعية الأولى وهم عشاقها. أم لينصب لنا كمينا نحن غير متوقعيه، أم كل ذلك وغيره في آن واحد مما يلغي غرابة دهشتنا لمشهدية عمل لا يزال يحمل غرابة تصور انشائيته. عمل ترابي آخر ليس من السهل تلمس سبله الأدائية بنفس فصاحة المنصة الترابية. إذ ماذا يعني أن تستقر حفنة تراب في زاوية إحدى قاعات العرض السفلى وتلوث بعض منها. هل يعني ذلك إننا نحاصر تربتنا (بيئتنا) ونحشرها في حراجة زوايانا. أم أنها تشكل بعض من مخلفات جسد ترابي افتراضي، أم إننا مجرد نفاية ترابية مركونة في إحدى زوايا وجودنا؟ ويبقى السؤال استفهاما عائما ربما نجد حله في عناوين الأعمال المرفقة والتي انوي أن تبقى غامضة. وان حملت الزاوية المتربة همومها الافصاحية، فثمة زويا في أعمال سابقة لم تحاول أن تتخفى خلف حجب طلاسمها وذلك لوضوح نبوءتها التعبيرية. هي نبوءة لا تخلو من هاجس وجودي هو جزء من ارث أوربي شمالي ربما يعود في نسبه إلى بعض من نبوءات (كونكغراد) الدانمركية، كما هي الزوايا التي احتضنت الجسد الفوتوغرافي الأنثوي الذي استقر في مواجهة خط الزاوية مديرا ظهره لفضاء العرض، والتي شكلت له الزاوية شركا لا مصدا شلت مقدرته الافتراضية على معاودة سيرته الماضية أو الحاضرة. وان بانت الزاوية شركا هنا، فان الجسد العاري تمثل في أعمال دانمركية نسائية سابقة يصارع زوايا السكن التي انحشر فيها والتي هي أكثر حراجة من هذه الزاوية كناية عن ضيق الجسد بفضائه أو ضيق الفضاء بحاضنه الاجتماعي المغلق على وحشة الذات المفردة.
الغالبية المطلقة من التشكيليين المشاركين في هذا العرض هم من مواليد زمن ما بعد الحداثة (سبعينات وثمانيات القرن العشرين، عاشوا وتنفسوا هواء مغايرا للزمن الحداثي السابق وأسسوا حداثتهم الفائقة. لذلك علينا النظر لمنتجهم التشكيلي من خلال المعطيات الثقافية والسلوكية لزمن الميديا العولمي. وهذا ما تؤكده أعمالهم الميديوبة أيضا. تنفيذهم للعديد من الأعمال بتقنيات رقمية أو مختلطة، مثلما هو سلوكهم الوظيفي العملي الذي يدمج الخاص بالعام، الهواية بالاحتراف، الأداء بالبيئة بالفوتوغراف بالفيديو بالإنشاء بالكاريكاتير، بالنص (تدوينا وصورة)، خرقا ورتقا لكل الحدود. بحثا وتنقيبا في كل جزئيات الحياة والسلوك البيئي والبشري، تعرية وطمرا وبناء. كسرا لحواجز ما تبقى من بعض التابوات المنظورة والمستترة. وكلما كان الجيل اصغر عمرا واحدث تجربة، كلما اتسعت مجالات تجاربه متجاوزة رصانة تجارب أقدم لم تعد رصانتها تقدم شيئا في عالم يفضل المتحرك والزائل على الثابت ولم تعد أدوات تنفيذ الأعمال هي نفسها إلا في حدود معينة خاضعة للتفكيك وإعادة الصياغات. كما يظهرها هذا العرض المثير.
أخيرا فان معارض تشكيلية مؤسساتية كهذا العرض تبقى دوما خاضعة لسياسته الذائقية بنية استشراف القدرات الفنية المستحدثة في حدودها القصوى حتى لو تعدت المألوف في مسعى لتأسيس مألوفية جديدة غير خاضعة لضوابط أسلوبية محددة وفي نفس الوقت هي جزء من حراك فني ثقافي استشرافي يرنوا لسلوكيات ثقافية عولمية تستمد العديد من جزئياتها من الفائض العولمي الأمريكي (مع الحفاظ على مظهرية بيئية) في مسعى لسد الثغرات الذائقية المختلفة أو (المتخلفة من أزمنة سابقة) وبما يناسب وجهات نظر هذه المؤسسات في وسط ثقافي مؤسساتي يعتمد التجريب اللامنهجي صنوا لحرية الاكتشاف والتعايش في معظم مناحي الحياة وسلوكيات أناسها.