الحلقة الثانية
أحمد شرجي: أدولف ابيا مصمم ديكور ومنظر مسرحي سوسيري، عرف باتجاهه الرمزي الذي يؤكد على اعطاء المتفرج مناخاً بدل المظاهر الواقعية، استبدل الوحدات ذات البعدين بسلالم وإنشاءات ذات ثلاثة ابعاد لتصعيد حركة الممثل ولدمج الأرضية الأفقية بالمشاهد ألمرتفعه عموديا.أستخدم الإضاءة بطريقة لا واقعية مشابهه للموسيقى على خشبة تجريدية مؤلفه من كتل بيضاء ورمادية مجسمة.
ارتبطت تجربة ابيا منذ بداية نشؤها بفاجنر، وبالتحديد على الأعمال التي قدمها فاجنر، وهذا ليس مثلبا،وهذا ما اكده ابيا، بان فاجنر كان المحفز الأول لكل طروحاته النظرية واشتغالا ته العملية، هو الذي أفضى عليه بذلك السر الساحر الذي وهبنا تلك المتعة والدهشة البصرية (ظللت أعتمد على نموذج فاجنر،لانه في ذلك الوقت كانت أعماله هي فقط التي كان يمكن ان تقدم نقطة انطلاق،ولكن بكتابتها أصبحت بالتدريج واعيا بالمدى الذي فصل تفكيري نفسه عن عمل فاجنر من اجل تناول الموضوع بكل تعقيداته وتضميناته).
اتخذ ابيا منهجا رمزيا، بل مغرقاً في الرمزية مثل شريكه بالثورة البصرية من اجل اصلاح المسرح كوردن كريك، اهتما كلاهما بأظهار العوالم الخفية من حياتنا، انطلاقا من الحلم الذي يعبر عن ما بدواخل الإنسان والذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالفن.
وجد ابيا في الموسيقى فنا مثاليا، لتكامل عناصره الفنية، والتي كانت فيها حرية كبيرة بالنسبة له كفنان من خلال المشاهد التي تقدمها، وكذلك التناغم ما بين الموسيقى والحوار، فيما يخص الموسيقى الاوبرالية، وكذلك من التفصيلات الصغيرة في حركة الممثلين تلك النغمات الهارمونية التي تتخللها المشاهد، بالإضافة لتموجات الضوء، كانت كل هذه مجتمعه مصدر ابهار كبير له، لهذا يجد في الموسيقى حريته الكاملة لانها تركز على الجانب العاطفي اكثر من الجانب الواقعي، يجد بان وظيفة الفن هي التعبير عن العوالم الداخلية للجمهور، وهذا ياتي فقط عن طريق الموسيقى، وهذا ما يذهب اليه بقوله (على الفن ان يُعبر عن هذه الحياة الداخلية للجمهور بشكل مباشر، ولايمكن التعبير عن هذه الحياة إلا من خلال الموسيقى، والموسيقى هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها ان تعبر عن هذه الحياة).
كانت الموسيقى هي المحفز الابداعي الاخر لابداعات ابيا، الذي سعى من خلالها لتحرير الصورة المسرحية، والبحث عن الفعل الكامن خلف تلك التعبيرات المشهدية، وكذلك الزخم التعبيري، والتعبيرية هو واحد من احب المصطلحات الى قلبه.
الموسيقى هي العلاج الشافي الذي وصفه ابيا للمسرح في اوربا، كونها هي المنظم الاول للمشهد المسرحي على الخشبة، وايضا فهي لا تعيد التوازن الحسي فقط للممثل والمتفرج، بل ايضا توازن التكاملية في المشهد البصري (الموسيقى والموسيقى وحدها تستطيع تنظيم عناصر العرض المشهدي كلها في وحدة انسجامية متكاملة بطريقة تتجاوز تمام التجاوز قدرة خيالنا المضعضع).
لم تكن الموسيقى وحدها من اخذت اهتمام مشروع ابيا بكامله، بل كانت هي الشرارة التي انطلق منها ذلك المشروع المهم، كانت خطوطه ورسوماته لدراميات فاجنر الموسيقية، تشكل منعطفا مهما في مسار المسرح الحديث او فن المستقبل، وايضا في مشروع ابيا برمته، اصبحت هذه الخطوط والرسومات مصدرا مهما ومثيرا لاهتمام المشتغلين بالفن المسرحي، كات طروحات هذا الرجل السويسري واقتراحاته للضوء، طروحات جديدة تماما، لم يدركها رجالات المسرح بعد، بل لم يدركها فاجنر نفسه، والذي يعتبره ابيا معلمه وملهمه الاول.
كانت طروحاته تسير في اتجاهات عدة منها الموسيقى، الضوء، العناصر التشكيلية، خطوطه، واذا اردنا ان نستعرض الطروحات التي كانت تظمها نظريته لمعالجة المشاكل الجمالية في العرض المسرحي، فإننا سنبدأ بالعناصر التشكيلية، والمشكلة الجمالية في تصميم المنظر، حيث لم تكن هناك علاقة سببيه بين الاشكال والفضاء، هذه العلاقة التي يتعامل معها مصمم المناظر بسطحية من خلال الرسومات الغير متجانسه، والتي توضع على خشبة المسرح، وبالتالي يتحتم على الممثل ان يجد له مكانا لحركته فيها، لهذا سعى ان يكون التنظيم ذو ابعاد ثلاثة، وبدون هذه الابعاد ستسقط كل قواعد الفن التصوري وتكون ليست بذي جدوى بتواجدها ـ لهذا طلب بأن يكون الوهم المرسوم للبعد الثالث سليما في الصورة المرسومة على الورق، لانه يستثير الفضاء والكتلية، حدد ابيا العناصر التشكيلية في تصميم المشهد المسرحي في أربعة أشياء، بحيث يجب ان تكون حاضرة في كل تصميم للمشهد وهي(المشهد المرسوم المتعامد الخطوط، الارضية الافقية، الممثل المتحرك والفضاء المضاء الذي شمل الجميع).
كان مشروعه ينصب على خلق حالة التجانس او الانسجام ما بين الديكور المرسوم والممثل، لان الممثل هو الذي يبعث الحياة في تلك الصورة من خلال حالة الانسجام تلك، لهذا ركز اهتمامه في نقطة المنتصف، ما بين مقدمة الخشبة والارضية، كون هذه المنطقة من الخشبة ستكون بمواجهة المتفرج وبالتالي سيكون المتفرج تحت تاثير المشهد البصري، و ستكون منطقة تواجد الممثل ومساحة لعبه هي الارضية (خشبة المسرح) بين قطع الديكور والرسومات، كان هدفه من كل ذلك هو ادهاش المتفرج بصريا من خلال تركيزه على منتصف الخشبة، بإعتبارها اقوى منطقة في الخشبة وفق التقسيمات العلمية للخشبة وكذلك في جماليات الاخراج، وكذلك عين النظارة تذهب لا اراديا الى المنتصف دائما.
الممثل بالنسبة لابيا هو وحدة القياس، التي تحاول ترتيب العناصر الجمالية على الخشبة بهارمونية عالية،من خلال تحركاته بين قطع الديكور والصور المرسومة، والتي يحاول الممثل استنطاقها، هذا التجانس بين الممثل والمرسومة وقطع الديكور يجب ان يهتم به مصمم المناظر، من اجل تكامل عناصر الاخراج التشكيلية على الخشبة، هذه العناصر تظل مرتبكه ومربكه اذا ما تركت على حالها دون اصلاحات.
من اجل تكاملية الابعاد الثلاث التي طالب بها ابيا، يجب الاهتمام بالضوء، ويذكر بانه اول من فرق بين الضوء الفضائي، والانارة المنتشرة، والتي هي وسيلة لجعل الاشياء مرئية، لان الفرق واضح بين الاثنين،في حالة اللجوء لاستخدام الضوء الفضائي سنحصل على ظلالا ايحائية معبرة على الخشبة، ويعطي صفة نحتية للاشياء والممثل،والحيز الذي يشغله الاعداد المسرحي عند ابيا هو باكمله وحدة نحت.
ارتبط مشروعه الجمالي كثيرا بالموسيقى كما ذكرنا سابقا وهذا ما نجده يلجا اليه، حتى عندما يسعى لنحت مصطلحات او تعبيرات اخرى لطرح مشروعه، يحاول قدر الامكان الاستعانة بمصطلحات موسيقية مثل (اوركسترا الضوء) وهذا التعبير فيه إحالة مباشرة لمنابعه الموسيقية، وايضا لاهمية الضوء، كأهمية الموسيقى كما ذكرنا ذلك سابقا، فلقد قسم مصادر الضوء على المسرح الى نظامين (نظام منتشر او نظام عام، يطغي على المسرح بانارة متناسبة تدعى الانارة الجارفة في يومنا هذا، مركزا ضوءاً متحركاً يدعى اليوم الضوء المسلط على خشبة المسرح.إن هذا الضوء هو الضوء المهم، الذي اشار اليه ابيا، بعد ان كان مصدر الضوء يصيبه الاهمال).
بينما الانارة المنتشرة على قطع الديكور والرسوم وأرضية المسرح، هي انارة شاحبة غير معبرة، غير عاطفية، بمعنى اخر انها مجرد وسيلة مرئية تكشف لنا عن الاشياء المعتمه، الضوء هو عنصر تشكيلي مهم من عناصر الاخراج التشكيلية بالنسبة لابيا، و واحداً من اهم الاركان التي اعتمدها بطروحاته او ثورته البصرية او كما سميت حينها بالبيانات الثورية لاصلاح المسرح، فالضوء عنده كما يقول (الضوء هو أهم عنصر تشكيلي على المسرح... بغير قوته الموحدة تستطيع عيوننا ان تستوعب الاشياء، لا ما يعبر بها... فما الذي يستطيع ام يرفدنا بهذه الوحدة السامية القادرة على الارتقاء بنا؟إنه الضوء......، وحده، بغض النظر عن اهميته الثانوية في انارة مسرح مظلم ن يملك اعظم قوة تشكيلية ذلك انه اقل الاشياء عرضة للمواصفات(المسرحية) ومن هنا جاءت قوته ليجلو ببهاء، بشكل تعبيري فريد، التموجات الخالدة لظواهر العالم)، ومن خلال الظلال التي يطبعها الضوء الفضائي تجعل من ارضية المسرح والمشاهد وحدة واحدة، وحدة هارمونية اعد لها الممثل اعدادا جيدا، مستشهدا بان الشاعر يقدم الموضوع للموسيقى، والممثل يقدم الاعداد المسرحي للضوء.
يعزو الناقد لي سيمونسن، بان الترجمة عن الالمانية اعاقت كثيرا بوصول طروحات ابيا وثورته الشكلية الى اوربا والعالم، لانه انقذ المسرح من كلائشيته، كان المسرح وقتها اشبه بالدمى الكارتونية، لكن تدفق ابيا وتهوجه جعل منه اشبه بالعالم الصغير(فبدلا من خدعة الاوهام المرسومة الشفافة للاشكال، جاء بالايهام الفضائي الذي ابتناه الضياء الموجه المنضبط بما يستطيع ان يضفي من تجل على البنى الزائلة التي يصطنعها تجار المسرح).
اعطى ابيا اهمية للضوء كاهمية الموسيقى، وجد فيه مصدر قوة لتوهج الشكل المشهدي وكذلك للتعبير عن كوامن الممثل الداخلية من خلال تحفيزه الداخلي لاخراج روح الشخصية التي يمثلها، فيه يجد حرية كبيرة وهي مشابه لحرية الموسيقى بالنسبة للشاعر، الضوء والموسيقى هما وحدة هارومونية يكمل احدهما الاخر على الخشبة، من خلال الضوء يستطيع ان يعطينا كل تجليات الحالة العاطفية، بواسطة ظلاله، وحدته،وتموجا ته، فالضوء والموسيقى وحسب تعبير ابيا، هما الوحيدان اللذان يستطيعان التعبير عن الطبيعة الباطنية لكل الظواهر.
فطنة والتقاطة ابيا لاهمية الضوء، اثارت الانتباه والاهتمام بمشروعه ألتنظيري وطروحاته، ومعالجاته البصرية لعناصر الاخراج التشكيلية، حدسه الجمالي العالي، وثقته بسحر الضوء بتحريك المشاعر وتحفيزها مثل الموسيقى، وايضا لسرعة انتباهنا للضوء، اثناء العتمة، وايضا خوفنا الشعوري من الظلام، الضوء هو ايضا احساسنا بالامان من ذلك الخوف، وقد يكون ذلك ايضا مرتبطا بشعورنا الداخلي في حالة سيرنا بالعتمة، وفرحنا الشديد لرؤية نار مشتعلة، وان كانت بعيدة، لكنه شعور بالامان والطمأنينة، انه الفرح بالنجاة من الخوف.
كذلك طروحاته الهامة لجهاز الضوء الكاشف من خلال وضع ستائر على الجهاز ليقلل من حدته، وكذلك لمصابيح الاضاءة الكبيرة التي تسقط على الجمهور او الممثلين، اشتغاله على توزيع الكتل الضوئية بالاتجاه الذي يريده، وهذا يساعد بابراز الحالة التعبيرية التي يبتغيها داخل المشهد البصري، ولهذا لم يكن المتفرج يشعر بالتغيرات التي تجري امامه على الخشبة من خلال التقاطعات الضوئية التي وضعت على جوانب المسرح في دعامات حديدية، والتي تلقي بؤرا ضوئية على الخشبة، وبألوان متعددة، هذه العملية كان يجب التدريب عليها قبل عدة ايام من ليلة الافتتاح والتي كانت تسمى بالتدريب الضوئي، كونها عملية معقدة اثناء عملية تنفيذها، وهي شبيهة بعملية قيادة الاوركسترا، ولهذا اطلق عليها اوركسترا الضوء.
تحكم ابيا بكل مساقط الضوء على خشبة المسرح، حيث وجد بان المساقط الضوئية الامامية التي تسلط على وجوه الممثلين وهي مليئة بالمكياج، تمحو الجوانب الانسانية من كل تعبير، بينما اذا كانت مسلطة من الاعلى عندها سنحصل على وجوه نموذجية للممثلين، وهذا اشبه بعملية النحت التي يمارسها النحات على وجوه شخوصه، مؤكذا بذلك(بان الضوء لن يستخدم لمجرد تقوية او اضعاف التشكيل النموذجي للوجه، بل بالاحرى سيعمل على توحيده او عزله عن الخلفية المشهدية، بطريقة طبيعية، اعتمادا على دور الممثل الخاص، اهو الذي سيسطر على المشهد او ان المشهد سيسطر عليه).
تلك الطروحات والمعالجات جعلت الضوء بانيا للمشهد المسرحي، حلوله الكثيرة والجريئة وقتها، لكل ما يتعلق بعناصر الاخراج التشكيلية، والضوء كونه اهم ركناً فيها، أبهرت الكثيرين، من تلك المعالجات هو، تلوين الضوء بالوان عديدة من خلال استخدامه لـ (سلايدات زجاجية ملونه) يستطيع من خلالها ابراز الصور وفق حدة ضوئية معينة، كذلك تغير بيئة المكان، من خلال استخدامه للون الذي يتطلبه المشهد،لم تكن تلك الطروحات والمعالجات مهمة لمصمم المناضر والاضاءة فقط، بل كانت اهميتها كبيرة على الممثل ايضاً الذي استطاع من خلال الالوان ومساقط الضوء بالولوج لروح الشخصية التي يمثلها،وطالما ان الضوء يحيله الى الحالة التي يريد تجسيدها، فمن المؤكد سيكون ذلك حافز كبير له لإظهار تعبيره الإنساني.
هذه الاصلاحات، والاستخدامات الجديدة انذاك، هي التي اعطت هذا الجمال البصري في المسرح الحديث، بالرغم من تقدم التكنولوجيا بعالمنا الان، لكن بقت طروحات ابيا ومعالجاته هي الارضية التي بنيت عليها هذه التكنولوجيا الضوئية على المسرح.