ترجمها عن الانجليزية عبد العزيز جدير


قبل سنوات خلت، استأجرت أسرة فرنسية موسرة تقيم بالمغرب طفلا من سكان البلد يتولى رعاية ابنتها الصغيرة. كان ابن المزارع الذي يعمل في أرضها، وسمته الفلاح. وبالنظر إلى أن الأب والأم يكونان مشغولين بتسلية أصدقائهما، فإنهما يتركان له العناية بالطفلة كلية. كان يقضي كل وقته معها. كان الطفل والفتاة مخلصين لبعضهما البعض. عندما باعت الأسرة ملكها لتعود إلى فرنسا قررت أن تأخذ معها الفلاح، لأنها كانت تعلم أنه سوف يعنى بها أفضل من أي آخر يمكن أن تلتقي به في بلدها الأصلي.
في فرنسا، كانت الأسرة تسكن ضيعة كبيرة خارج مدينة صغيرة. بالقرب من البيت الرئيسي كان هناك كوخ كان يقيم به الفلاح والطفلة. ولما كانت الأرض لا تستعمل لأي شيء، فقد سمح الزوجان للفلاح أن يزرع ما يرغب في زراعته. فكان يذهب إلى السوق كل أسبوع ويشتري طعامه الخاص. أحيانا، كان يقتني خروفا صغيرا ويقوده إلى الضيعة حيث يذبحه هو نفسه، لأنه لا يمكن أن يأكل الحيوانات التي يقتلها النصارى. في أوقات الطعام، كان الزوجان الفرنسيان يأكلان وحدهما أو مع أصدقائهما في البيت الكبير، بينما يأكل الفلاح والطفلة معا في الكوخ. إنها لا ترغب في الأكل مع والديها. كانت تتمنى أن تكون دائما معه. بل كانت، كذلك، تصر على النوم في الغرفة ذاتها معه.
مرت بضع سنوات. أحيانا، كانت السيدة الفرنسية ترغب في أن تقترح على زوجها أن ينقلا ابنتهما لتقيم معهما في البيت الكبير. لكن الأب كان يقول: من الأحسن ترك الأمور على ما هي عليه. لن نعثر أبدا على خادم آخر يرغب في أن يعنى بالطفلة مثلما يفعل. وعلاوة على ذلك فهي مولعة به جدا.
وخلال هذه المدة كانت الفتاة تمكنت من الحديث باللغة العربية مثل أي مغربي. كان الفلاح قد علمها أن تقرأ، وكانت أمضت وقتا طويلا في قراءة القرآن. عندما كان يصلي كانت تصلي بجانبه حتى لو كان وقت صلاة الفجر، ساعة قبل طلوع النهار. هاأنذا مسلمة منذ الآن، ووالداي ما يزالان نصرانيين!
لقد كان الله كريما معك، سوف يقول لها الفلاح.
ذات يوم قالت:
- إنني فرحة جدا، لأنني أحبك أكثر من أي شخص آخر في العالم. ولكنني أريد أن أقول لك شيئا ما. في يوم من الأيام سيرسلك أبي إلى المغرب. واعلم أنه لن يعطيك أكثر من أجرتك. ونحن المسلمون نعلم أن الموت قريب دائما. لذلك سأقول لوالدي إذا مت يجب عليهما أن يدفناني مع كل الماس الذي تركته لي جدتي. وستكون الوحيد الذي سيغسلني ويلفني في كفني ويضعني في قبري مع كل الماس حول عنقي. لكن، فيما بعد، يجب أن تعود وتأخذه، لتبيعه عندما تعود إلى الوطن، وهكذا يمكنك أن تعيش حياتك.
قال لها الفلاح إنه سيقوم بكل هذه الأشياء من أجلها، ولم تتحدث في الموضوع بعد ذلك.
عندما كان عمر الطفلة ستة عشر سنة، قررت والدتها أنه يجب على ابنتها أن تنتقل إلى البيت الكبير. وفي كل يوم، كانت تريد أن تحدث زوجها عن ذلك. لا يمكن أن نتركها هناك وقتا أطول من هذا. لقد أمضت كل وقتها في التحدث إليه. بل إنها لا تريد أن تغادر الكوخ أيضا.
كان الفرنسي غاضبا. قالت له:
- إن ابنتك مسلمة. إنك تعلم ذلك. إنها لا تحب أيا منا، أو أي شخص آخر في الأسرة. ليس هناك شيء البتة يمكن أن نفعله. لقد أفلت منا الأمر إلى حد بعيد.
خلال الأشهر التي أمضياها يتجادلان فيما بينهما، مرضت الفتاة. استدعيا أحسن الأطباء الذين تمكنا من العثور عليهم، لكن لا أحد أثبت أنه قادر على مداواتها. كانت تظل مضطجعة هناك رافضة أن تجيب على أسئلتهما. وحده الفلاح، حين كان يتحدث إليها، كانت تفتح عينيها وتبدو حية، وكان هو وحده قادرا على جعلها تبتلع أي صنف من الطعام.
ومع ذلك، فقد دعت، ذات يوم، والديها وجعلتهما يعدانها، إذا هي ماتت، أن يتركا الماس معها عندما تدفن.
والآن، عندما يصلي الفلاح، فهي ما تزال تصلي معه طوال الوقت لكن من المكان الذي تضطجع به في فراشها. كان ذلك إلى وقت قصير قبل وفاتها.
أذن الأبوان للفلاح أن يعد الطفلة للدفن على الطريقة الإسلامية. غسلها، كفنها، وحملها، رفقة أمها ووالدها وكل الخدم، إلى جزء معتم من الغابة حيث كان القبر قد حفر.
في الوقت الحاضر، ما يزال الفلاح يقيم في الكوخ. ثم قرر الزوجان الفرنسيان أنه لم تعد هناك حاجة البتة إليه، فأدى الزوج أجوره. بعد يومين أو ثلاثة أيام ودعهما وسافر. وكان ذهب مباشرة إلى الغابة وعرى القبر.
عندما سحب آخر حجر رأى تحته، بدلا من الفتاة، جثة شيخ بلحية بيضاء طويلة. كانت تحيط بعنقه سبحة قديمة بلون العنبر يذكر بواسطتها المسلمون الله (والتي يعد بواسطتها المسلمون صلواتهم؟)
كان الفلاح مشدوها. بعد لحظة كان تناول السبحة وغطى القبر. ثم مضى في طريقه إلى المغرب كئيبا.
لما حل بمدينته الأصلية، كان أنفق النصيب الأكبر من ماله في شراء بيت صغير، معتزما أن يقيم فيه ولا يغادره حتى يعثر على عمل. لكن الوقت ظل يمضي وليس هناك عمل يمكن الحصول عليه. وفي النهاية، جاء يوم لم يبق عنده أي مال البتة، فأخذ سبحة العنبر إلى الجوطية ليبيعها بالمزاد العلني. شرع الدلال يطوف بالسوق، عارضا السبحة والمبلغ المعروض عليه يرتفع ببطء.
كان رجل شاب واخوته واقفين عند مدخل دكان عندما مر به الدلال، وهو يصيح:
- لقد عرض علي مائة وخمسون ريالا!
لمح أحد الإخوة السبحات. عندما لاحظ أن كل حبة من سبحة نقش عليها رسم مختلف، أمسك بها وشرع يتفحصها بانتباه كبير، الواحدة تلو الأخرى. ثم نادى على أخيه. قال:
- تأمل هذه.
تناول الأخ السبحة بين يديه وأمعن بدراسة السبحات.
قال:
- إنها هي. لا مجال للشك في ذلك إطلاقا.
اقترح الأخوان مائتي ريال من أجل سبحات الصلاة، وتابع الدلال طريقه معلنا عن الثمن الجديد. تكلم الأخوان بصوت خفيض فيما بينهما، وحث أحدهما الخطى مغادرا الجوطية. لما قام الدلال بدورته حول السوق مرة أخرى، عاد نحو الأخ الذي كان عرض الثمن وقال له:
- إنها لك بمائتي ريال.
- استحضر المالك وسأدفع له الثمن، قال له الشاب.
حينما عاد الفلاح رفقة الدلال، كان المخازنية هناك في الانتظار. ألقوا القبض على الفلاح وأخذوه، هو والأخوين، معهم للمثول أمام القاضي.
قال الأخوان للقاضي:
- إن السبحة كانت في ملك أبينا. كان اشتراها من مكة منذ سنوات خلت، ودفناها معه.
التفت القاضي غاضبا نحو الفلاح:
- الآدميون من أمثالك لا مكان لهم في هذا العالم، قال له. لا احترام. ولا حياء على الإطلاق.
طلب الفلاح الإذن ليحكي قصته. وفي الأخير قال:
- لقد اختفت. وبدلا منها كان هناك (وحل محلها) رجل شيخ بلحية بيضاء.
قال الأخوان معا:
- إن هذا الرجل مجنون. يمكن أن تختبر الأمر بنفسك.
- من يدري؟ قال القاضي. لكن الأمر سهل جدا. ينبغي أن نفتح قبر والدكما ونرى هل لا تزال السبحات حول عنقه، أم اختفت. إنه السبيل الوحيد الذي يمكننا من معرفة الحقيقة.
أرسل جماعة من المخازنية رفقة الفلاح والأخوين إلى مقبرة سيدي بوعراقية. سار الأخوان في الطليعة نحو القبر، وشرع المخازنية يحفرون القبر من جديد. بلغوا القعر وجردوا الجثة من غطائها، فصرخ الأخوان. ما كان راقدا هناك هو جثمان طفلة، تحيط بعنقها جدائل من الماس تلمع بنور الشمس.
شكر الفلاح الله تعالى. كان الأخوان مندهشين كثيرا جدا فلم يقدرا على قول أي شيء، لكن المخازنية أخذوا الماس الذي مع الجثة وأعادوا هذه إلى القبر. ثم عادوا جميعا إلى مكتب القاضي.
عندما تحدث المخازنية عما عثروا عليه، ووضعوا الأحجار الكريمة فوق مكتبه، سبح القاضي لله في سره. قال للأخوين:
- سبحة العنبر لكما.
سلمهما السبحة فانصرفا.
تطلع القاضي إلى الفلاح:
- إن الله قادر على كل شيء، قال له. خذ ماسك وانصرف.
[email protected]
***