quot;إنّ أبناءَ جلدَتِكَ لَنْ يَبْرَحوا كَالحَشَراتِ المَسْمومَة، لأنّ العَظَمَةَ فيكَ سَتزيدُ أبَدَاً في كُرْهِهمْ لَكْquot;... إلى عُزْلَتِكْ، يا صَدِيقي، إلى الأعالي حَيْثُ تَهبُّ رَصيناتُ الرياح، فَإنّكَ لَمْ تُخْلَقَ لِتَكونَ صَيّادَاً لِلحَشَراتِquot; (هكذا تكلم زارا...)

***

يا أنتَ، يا كُلّ هذا الوُجود المتسامي في مَراتع حُزني، يا كُلّ حَنينٍ مَكْتومٍ يُرافق لَيال عُمْري، يا لحَظاتِ صَمْتٍ تَحتوايها مَحاجر صَدري، أحشُرها في ظلام الجُثث التي تَئن وَتشتكي، بَيْنَ الأكياسِ المُعلقةِ بِجدران المُعتقلات الداكنة، احتَفظُ بِها بَعيداً عَن مَراثي الوَجعِ التي تُحاصِرُني
يا أنتَ... يا كُلّ الدّفء المَفقود في ِقفارِ الوَطَنْ
نَقتربُ مِنْ لَحظة الرَحيلِ وَلَمْ نَزَل نَشكُو الطُفولة، نفَتَرِشُ مِلحَ البَحر، رَغْمَ جِراحاتنا، نَشرب نُخْبَ انتِصارِ الغِيلان، المُبتَسمينَ لَيلَ نَهار، وَالشَراب مُحَرمٌ الّا أنْ يَسمَحَ السُلطان...
إيـــــــــهٍ ياجَدّاه،كَيفَ قَتلوكَ وَالشَّمْس في الغُروب؟ وَكَيفَ سَالتِ الدّماءُ عَلى سجّادَتِكَ العَتيقةَ؟ أوَلم تَعْرف الحَقيقة؟ جَاوزتَ التسعينَ عاماً وتجهل؟ أمْ كُنْتَ تُردّد انشُودةِ الحُزنِ القَديمة؟
يا لمَنسيّين نَحن في أوهامِ القَدر، يا عُمْقَ الخسارة، يا حَسرة الأيّام، حِين قَدّمنا الحَياةَ في القِمارِ، وَسوَسَ لَنا المُعَذبونَ فَلعبنا القِمار، لاعَبونا بأوراقٍ مُزيّفة، يَعرفونَ الآسَ وَالبنتَ وَوالدٍ وَما وَلد، وَنحَنُ نَهتِفُ مِنْ دَمِنا (فَليَحيَا وَطَنْ) ثمّ انقَضى الأمرُ وَجاءَتِ الفِتَن، جَاءَ الصَريخ خَلفَ الصَريخ، كلٌ يشكو مِنْ وَهَن، غَزا الجّرادُ المُلَوثُ مَزارعَ الأرز، لَمْ يُبقِ لَنا حَبّة لنَملةٍ تَستَغيث، أوْ شَتلة لِشتاءٍ سَيَطُول... أمّا مَزارِع الغِيلانِ، فَمَحرُوسة بإلههمُ الذي يَعبدون، فَيا أيّها الكَافرونَ عَلمونا ما أنتُمْ عابدون.
إنْ كانَ لكَ وَطَن يُعذّبك فَاعلَم إنّك أنتَ الخَطأ، وإن كانَ في قَلبِكَ حَنينٌ لحبيبٍ، فَانحَر قَلبَكَ وَلا تُخبر الحَبيب.
إلامَ هذا الحُزنُ يَتدفقُ في ليالي الصابئاتِ البائِسات؟
أولَم تَكفينا لَوعَةِ السّحقِ وَأنين المُعلّقين بِأطرافِ الكَون؟ يَستغيثون مِن عُمقِ مَوتهم تَحت بِلاطِ الفَجيعة، يَرتَجِفونَ قَهْراً لأيّامِ الظَليمة... في لَحظةِ قَدَرٍ عابرة، اتّقدت أيّامهم بأوساخِ أوهامِ الحُريّة، فَهوى بهم طريق الحُب، هَوى بهم نحو سراديب موحشة.
الله... يا وَحشة الإنسانِ في بَاحة الوَطن حِينَ يَقسو، وَحينَ يَنزلقُ إلى أوكارِ المُسوخِ في عَوالمهم، وَيستلذ المخدوعُ العذابَ، يَستَوحشُ غَيبة السَجّان، يَحنّ لِلسْعةِ السَوط، وَفي كُلّ هذا، لَمْ يَزل يَنزلقُ وَينزلق... حَتى تَخْتفي خَرائِطُ الوُجود أمامه، وَلا يُعرف الموجودُ مِنَ العَدم، وَأبخرة أنفاسِ المجَهولِ تَعتَريه، تحَتَويه، تحُسّسه بقيمَتِهِ الآدَمية، وَبمَن يَكون، فَيَرى اللهَ حِينها بِعينِ العَذاب، وَسيَعرِفُ مُتأخراً، الفارقَ بَينَ الحب والكره.
يَعتَرينا حُزنٌ لا يَشبَه حُزنَ البَشَر، عيُوننا تَعبِت مِنَ البَوح، نُفوسُنا في حَيرة، مِن سَماءٍ نقشها الأكفانُ وَالتوابيت، بَيننا طِفْلٌ يَتيم يَخشى الظلام، كانَت أمّهُ وَلدَتُه في الظلام وأسمَته نور، وَكَبُر في الظلام، لكنّه، إلى الآن يَخشى الظلام.
قالت أمّهُ : سَأقتله... حتى يَكفّ عَنِ النُواح... وَليرحَل إلى عالمٍ فيه نُور وَفراشات
اخذَتهُ إلى السرداب، خَنقته هناك... لَمْ تَكُ إلّا لحَظات، عادَ الصغيُر، يَبكي وَيَنوح كَالحمَام
حَشرتهُ في التابوت، طَعنتهُ في قَلبه... حَرّكَ الغِطاءَ، خَرجَ إليها يَسعى
حَفرت حُفرةً وَوسدتهُ مَع العِظام، وَأدَتهُ وَهالتِ التُراب... اهتَزتِ الأرضُ وَصدَرَ مِنَ القَبر إلى أمّهِ، وَلم يسأل عن ذنبه
قالَ لَها : أُمّاه... تَشبّع جَسَدي مِنَ المَوت... أمّاه، نحن في عالم الأموات.


[email protected]