تأخرت على القطار ولم يتأخر علي. لم انم جيدا كي استقبل هذا الصباح ببهجة قوس قزح، لكني سرقت من النعاس ما يكفي كي اصل محطة quot;ست بانكرسquot; في الوقت شبه المحدد.
قبل الركوب في القطار العابر للمسطحات الخضراء الشاسعة، والسابح في ملكوت البحر، وزرقة السماء، الذي يسمونه quot;نجمة أوروباquot;، طافت علاقتي بباريس كشريط سريع من الومضات، والمشاهد المتلاحقة في الرأس، والمخيلة.
تذكرت هوسي العابر بتعلم اللغة الفرنسية كي اصبح عاشقاً اكبر، واكثر سحراً. تذكرت الرغبة في الطيران وتصفح وجوه الراحلين من ضفاف الشرق إلى الحي اللاتيني. تذكرت أبناء العمومة احمد أبو دهمان ويحى البشري، وآخرون مثلنا، جاؤوا من رائحة الجبل والحبق والريحان، وعبروا في مدينة النور وأضاءوا فيها، مثلما أضاءت فيهم.
تذكرت زيارة صغيرة اكتشف فيها هذا الأعرابي الشاب أن اللغة معقدة بأكثر مما تحتمله قلوب العشاق، وأن ليل مدينة النور أقصر من كذبة طفل، وان نابوليون، هيغو، وروسو، وسارتر، وفولتير، ليسوا أكثر من مجرد أدوات زينة حين يجلسون إلى جوار شيكسبير، وديكنز، وداروين، وادم سميث.
عبرنا دوفر، ثم القنال إلى باريس. عبرنا البحر إلى التاريخ كما عبره الآخرون قبلنا وان كانوا فاتحين وغزاة وحالمين، أما نحن فبحّاث عن حقيقة وأمل. بين لندن وباريس تاريخ مشترك، رغم أن الأولى وجدت أمانها الإنساني في حضن الملكية، بينما الأخيرة فضلت تهذيب رقاب ملوكها، ولتصبح الجمهوريات ثلاثاً، أو أربعاً، أو خمساً؛ لا فرق، طالما أن من يأتي سيكون ملكاً دون مملكة، وإلهاً للشمس، كما يوصف ساركوزي، هذا المجري اليهودي، الذي يتصرف وكأنه واحد من أحفاد البوربون!
شمس باريس حنونة ودافئة. يقول السائق أن الزحام خفيف في هذا الوقت لأن الموظفين والطلبة لم يخرجوا من أماكنهم بعد. وصلنا إلى اليونيسكو. تحت هذه القبة المزينة بلون الخشب يعقد السفراء جلستهم ويتحدثون عن كل شيء. يحلمون بأن الثقافة لابد أن تبني الإنسان، وكأن الثقافة هي الطلقة الأخيرة التي ستقتل كل البنادق. سفير ليبيا غير موجود، والسفير السوري لم يذكر كلمة واحدة بحق إسرائيل، رغم أن خطابه السابق ذكر فيه إسرائيل، أكثر مما ذكر الثقافة.
سوريا محاصرة، وليبيا غائبة، والرياح تعبث بما تبقى من عروش التين، والزيتون، وطور سنين، في الشرق الأوسط.
تجولنا في اليونيسكو. كان محدثنا اللبناني المثقف الذي جاء بعد ثورة ديغول يحكي لنا قصة هذا الصرح العالمي. ضحكنا كثيرا في المعبد الياباني الذي يتقن لعبة الصدى . جلست على الكرسي وتأملت في الشرق البعيد، حيث شريعة القانون الغائبة، وسطوة الفساد، وغيبوبة المؤسسات.
من اليونيسكو نخرج إلى باريس الرحبة التي لا تنام. أنا ومحمود وسعيد وسليمان نتأكد من برج ايفل، ونسرح شعر النهر بأحلامنا. يصادفنا شاب سينغالي اسمه احمد يحاول أن يبيع تماثيل، ومحاريب، وجفان كالجواب ! عرف أننا عرب فابتهج، وهو يبتسم ابتسامة الثقة في الغد، ويخبرنا بأنه تربى في بادية شنقيط. شاب شريد يحفظ القران والمتنبي وما تيسر من امرء القيس.
لم نجد الوقت لزيارة الحي اللاتيني فذهبنا نحرك أقدامنا وقلوبنا في الشانزليزيه. من بعيد يلوح لنا نابيليون. الشاب الذي افلح في المبتدأ ولم يفلح في الخبر. الرجل الذي يعرف كيف يبدأ لكنه لا يعرف كيف ينتهي. حين تشاهد قبره المهيب تتساءل، كيف يحظى المهزومون بالقداسة ذاتها التي يستحقها المنتصرون. لكل أمة أصنامها وتبريراتها. لم يقتل نابيليون الثلج، بل قتله الطموح المجنون.
أجد نفسي منجذبا إلى ديغول. كان رجلا يملك الحلم لا الخيال، والفرق بين الحلم والخيال شاسع، بمقدار اتساع المسافة العقلية بين الممكن، والمستحيل. إيمانه بالحلم حوله من طريد يزعج تشيرشل إلى رمز الجمهورية الخامسة، بينما يعيش حكام وشعوب في عالم العرب الغاربة، في حديقة واسعة الأرجاء من الخيال، لا أحلام فيها، ولا مستقبل.


[email protected]