محمد الحمامصي من القاهرة:في روايته الأخيرة quot;شجرة العابدquot; التي صدرت عن دار نفرو مؤخرا ذهب عمار علي حسن بعيدا عن العالم الذي شكل مادة خصبة لرواياته الشابقة quot;حكاية شمردلquot; وquot;جدران المدىquot; وquot;زهر الخريفquot; أو حتى ذلك الذي نسج حوله مجموعتيه القصصيتين quot;عرب العطياتquot; وquot;أحلام منسيةquot;. ففي شجرة العابد هناك اقتحام واضح لمكان وزمان مختلفين. عمار، الذي يحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وله مؤلفات سياسية عديدة، حصل هذا العام على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في القصة القصيرة، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية المصرية والعربية، وفي العام الماضي فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع التنمية وبناء الدولة. حول روايته الأخيرة quot;شجرة العابدquot; أجرت quot;إيلافquot; معه هذا الحوار:
** ما هي الحكاية المركزية في روايتك quot;شجرة العابدquot;؟
** وقائع هذه الرواية تجري في لحظة فارقة من الصراع بين الشرق والغرب في أواخر القرن الخامس عشر وهو عصر المماليك، أما مكانها فيصل صعيد مصر وصحاريها بالقاهرة في أيامها الزاهرة. البطلة المتفردة للرواية شجرة عجيبة مقدسة يتطلع الجميع إليها وإن اختلفت مقاصدهم، ومحرك أحداثها طالب علم أزهرِيّ كان يسعى في شبابه إلى الثورة على السلطان المملوكي الجائر فانتهى إلى درب التصوف هارباً من العسس والسجن والتعذيب والشنق الذي ينتظره، لكن حنينه إلى أيام الكفاح لم يمت أبدا.
هذا الرجل عشقته جنية فاتنة في أيامه الأولى، واستخدمته لتصل إلى غرض ملكهم الذي يسعى للاستحواذ على الشجرة الغريبة، بينما اتكل هو عليها في تصريف أموره فحسبه الناس شيخ طريقة صوفية ومن أهل الولاية، لكن أرملة جميلة من الإنس، مات زوجها في قتال الفرنجة عند جزيرة قبرص، علمته كيف يكتشف الطاقة الفياضة الكامنة بين جوانحه، فوصل إلى ما أراد بالمصالحة بين العقل والروح، والمزاوجة بين العلم والذوق، لاسيما حين اختلى إلى نفسه سنوات طويلة في زاوية صغيرة بناها إلى جانب أحد أديرة الأقباط بصحراء مصر الشرقية، متخليا عن أوهام السلاطين المتعاقبين وشيوخ القبائل البدوية الذي كانوا يعتقدون أن هذه الشجرة عبارة عن كنز ثمين، ويستخدمونه من أجل الظفر به.
هنا تروي الشجرة الغريبة، ويحكي العابد الزاهد فيقف من يقرأ على بعض ما تنطوي عليه الحياة من فلسفة عميقة، ويعرف بعض طرائق العيش وأشكال العمران وألوان الفنون والثقافة السائدة في مصر المملوكية عند المسلمين والمسيحيين واليهود، من أهل الريف والحضر والبدو، ويتأكد من أن استبداد الحكم وفساده يهلك الحرث والنسل، ويفهم أن مصير الإنسانية واحد مهما تفرقت بالناس السبل، ويعلم أن الواقع والخيال يمكن أن يتعانقا في لحظات تُراوِح فيها أقدار البشر بين الأوجاع والمسرات.

** هل تختلف روايتك تلك عن مثيلاتها التي أصدرتها من قبل في الزمان فقط، أم هناك أوجه أخرى للتمايز بين ما قبل quot;شجرة العابدquot; وبينها؟
** الزمان ليس وحده المختلف بل النوع الذي تنتمي إلى الرواية، وهو quot;الواقعية السحريةquot; فشخصيات الرواية متخيلة بالكامل، وإن كنت قد حرصت على أن أرسم ملامح المكان الذي تدور فيه الأحداث بدقة، مستفيدا في هذا بالعديد من المراجع التاريخية والجغرافية حول هذه الفترة. علاوة على ذلك فإن بطلة الرواية المتفردة شجرة عجيبة مقدسة يتطلع الجميع إليها وإن اختلفت مقاصدهم، فهناك من يراها تعبير عن الذات الإلهية في صورة غير مسبوقة، وهناك من يعتقد أنها جنة الفردوس، ويوجد من يتصور أن الشجرة هي الحقيقة المطلقة التي يعجز أغلب الناس عن بلوغها ولا يصل إليها إلا من يكتشف الطاقة الهائلة الكامنة بين جوانجه، أو يصل إلى أعلى مدى في التماهي بالحقائق السرمدية، وهناك من يعتقد أن هذه الشجرة كنز ثمين من الجواهر عليه أن يقتنصه، مثلما أراد السلطان المملوكي الذي جاء بالسحرة والدراويش ليساعدوه على بلوغ الشجرة، وكذلك شيوخ القبائل البدوية الذين توارثوا أسطورة الشجرة أبا عن جد. ويوجد من اعتقد أن في الشجرة ترياق يشفي الأمراض المستعصية، مثلما اعتقد حاكم منفلوط، الذي بذل كل جهد مستطاع في الوصول إلى الشجرة لينقذ ابنته من مرض عضال.
ومن الخيال أيضا في الرواية تلك العلاقة بين بطلها ومحرك أحداثها وبين جنية فاتنة عشقته، فأخذته من عالمه القديم حيث كان طالب علم أزهرِيّ يسعى في شبابه إلى الثورة على السلطان المملوكي الجائر فانتهى إلى درب التصوف هارباً من العسس والسجن والتعذيب والشنق الذي ينتظره، بعد ثلاثين عاما قضاها وراء الحجب حين اصطحتبه معشوقته إلى دنياها.

** هل في كتابتك عن عالم الجن، استعدت الحكايات التقليدية المتواجدة في الأساطير الشرقية القديمة؟
** تخيلت شكل الحياة في عالم الجن، وحاولت أن أنتج في هذه الناحية أسطورتي الخالصة، وسعيت إلى عدم الوقوع في الصور النمطية القديمة عن هذا العالم، التي حفلت بها الأساطير العربية وعلى رأسها quot;ألف ليلة وليلةquot;.

** ما هي المفاتيج التي نستطيع من خلالها أن نقرأ الرواية، أو تصل بنا إلى عمقها من أقرب وأقصر طريق؟
** للرواية مفتاحان الأول هو العبارة التي صدر بها المؤلف روايته وهي للصوفي الكبير محي الدين بن عربي وتقول: quot;كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليهquot; والثاني هو الفقرة الأولى من الرواية التي تعد شفرة مدمجة لكل أحداثها ووقائعها حيث يقول المؤلف: quot;آه يا حفصة. آه يا وجعي الجميل. استدار الزمن، وتسربت الأيام من بين أصابعي. أنت مستريحة الآن في الملكوت الأعلى، وأنا معذب بالانتظار، أروض النسيان، لكنه يأكل روحي بلا هوادة. ما يزيد على مئة عام وهيئتي على حالها، كأنني لا أزال أدب وراء شيخي القناوي في شوارع المحروسة منتظرا لحظة الانقضاض على السلطان الجائر. تعاقب السلاطين، وغارت أمامي كل حالات التمرد. واحدة بقيت مشتعلة طيلة الوقت، إنها محاولة الانتصار على نفسي. ألم تبوحي بذلك ذات يوم يا حفصة؟ ألم تطلبي هذا وأنا أقول لك: أنت شيخي وأنا مريدكquot;.

** كثير من الكتابات والتغطيات الخبرية التي تناولت الرواية ربطت بينها وبين الثورة المصرية، فما حقيقة هذا؟
** لا علاقة مباشرة لروايتي بثورة يناير المصرية، ومع ذلك سعى كثيرون في تناولهم لها أو كتابة أخبار عنها إلى المغالاة في ربطها قسرا وعنوة بتلك الثورة، وكأننا لا نستطيع أن نرى الأشياء والمعاني أو الأفكار والفنون كما هي، وكما قصد منتجوها، دون تزيد أو تأويل مغلوط، لا يقيم وزنا إلا لما يدور في ذهن من يقوم بعملية التأويل تلك، وهذا عيب قاتل في التفكير بصفة عامة، ويكاد أن يكون خطأ عربيا شائعا وفادحا في الوقت نفسه. وقد عزف الإعلام على هذا الوتر في تلهفه على أي عناوين جاذبة، ولا يجذب الناس أكثر من ربط كل شيء بالأحداث الساخنة، وليس هناك ما هو أسخن من quot;الثورة المصريةquot; وتفاصيلها المتتابعة بالنسبة للمصريين.
وقد تلقيت اتصالات من قراء يسألونني: هل كتبت هذه الرواية قبل الثورة أو بعدها؟ فأسألهم على الفور: وما علاقة النص الذي قرأتموه بالثورة؟ فتأتيني الإجابة: ألم يكن عاكف بطل الرواية ثائرا على السلطان الجائر قبل أن يغوص في بحر التصوف العميق؟. أما السؤال الأغرب فهذا الذي بدا صاحبه منزعجا وهو يقول: quot;في روايتك فشلت الثورة على السلطان المملوكي الظالم، وسجن قائد الثورة، العالم الأزهري الشيخ القناوي، وتشتت الثوار في البلاد، وكانوا من الشباب أيضا. فهل هذا يعني نبوءة لما قد تؤول إليه ثورة يناير؟ .. وكيف يستقيم ذلك مع أنك تبدو دائما من المتفائلين وأنت تعلق كتابيا أو شفاهيا على أحداث الثورة؟quot;.
ولم أجد إجابة على السؤال الأخير سوى استفهام يقول: ألم تقرأ السطر الأخير في الرواية، حيث يقول بطلها عاكف: quot;ونسيت كل ما جرى ورائي من عاديات الأيام، حلوها ومرها. لم يبق في ذاكرتي سوى وجه حفصة، وبيرق الحاج حسين، وعكاز الشيخ القناوي، ومشاهد متناثرة من أيامي الغابرة في قريتي العزلاء المنسيةquot;. واستطردت: quot;العكاز هنا قد يرمز إلى أن البطل كان مؤمنا بضرورة الثورة حتى وهو ذائب في حالة صوفية رائقةquot;.

** هل معنى هذا أنك لا تؤمن بوجود علاقة بين النص الأدبي والوقائع السياسية؟
** ليس الأمر هكذا، فربط النص الأدبي بسياقه الاجتماعي يبدو مسألة مقبولة ومبررة، عند كثيرين، لكن هذا لا يجب أن يجنح بنا إلى المغالاة في التأويل، ولي عنق النصوص، لخدمة أيديولوجيات ومواقف ومصالح معينة. فرواية quot;شجرة العابدquot; أسطورة ممزوجة بالواقع، بدأت كتابتها قبل عشر سنين، وأنهيتها قبل الثورة، ولو كان فيها بعض تماس مع أي فعل ثوري، فهذا من قبيل حلمنا المتجدد بالحرية والعدالة والكفاية والكرامة، وهي قيم قد نجد لها صدى في أي نص أدبي حتى ولو كان أسطورة تتقاسم بطولتها شجرة ورجل صوفي يسعى إلى الاكتمال الإنساني.