سامي داوود: عُرِفَ الفيلسوف quot;ليبنتزquot; بأنه فيلسوف الحذف، لكثرة ما كان يشطبه من متنه المحكم، المنسوج من تقاطع عدة أنساق معرفية في نقطة النص، متجاوزا بذلك ما تمَّ حذفه، للوصول بمنتجه الإبداعي إلى خُلاصات أقل شواشا. رغبة عقلية في جعل العمق العلائقي، ممثلا بدقة ودون تكلف؛ إذ يغدو شكل القول تعميقا للمقول وتكثيفا لفكرته. تحولت هذه المحايثة بين الكيفية التعبيرية وبين الموضوع، إلى مرتكزٍ فني لدى خبراء الدقة المؤسسين للفن الحديث، أمثال، دافنشي وآنجيلو وكونستابل وسيزان وأيشر...إلخ، الذين جعلوا من المعرفة كيانا شموليا في لوحاتهم، فأصبحت تفاحة سيزان محورا لمفهوم الوعي القصدي لدى هوسرل، مثلما تحول مفهوم التناقض الهيغيلي محورا للوحات quot;رونيه ماجريتquot; ( 1 )، الذي كان يرسم أكثر من مئة تخطيط قبل تنفيذ كل لوحة، نوع خاص من البروفات النظرية، لتأسيس ما يعتقد بأنه معطى عبر نظام حلولي أو سحري في شخصية الكائن الإبداعي. وعلى نحو أكثر غرابة، كان الرسام الحركي quot; جاكسون بولوك quot; يتأمل الفراغ الأبيض لقماش اللوحة ـ الحلبة، لأسابيع قبل الشروع في العمل. غير أن أول من لفت الانتباه لطبيعة الإنتاج الإبداعي، بهذه المزاوجة الحاسمة بين الإستعداد الحسي والعاطفي وبين التركيب العقلي، كان الموسيقي quot; فاغنر quot; الذي شرح طريقته في التأليف عبر رسالة ما، يستشهد بها quot; بول فاليري quot; لتحليل مفهوم الخلق الفني، الذي نعتقد بأنه من أكثر التحاليل وضوحا وجرأة في تناول الفن بجميع تعيناته، وبشكل خاص فن الشعر( 2 )، فالرنين المحض الذي يباغت المؤلف، يأتيه بالضرورة عاريا أو هلامة صورية او صوتية، دون تمثيل دقيق لفكرة ما، ومن ثم تأتي التقنية الفنية، بمعنى الخبرة المعرفية بالشيء، في إطار تقنيات تعبيرية، لتؤسس، تصنع أشكالا، تؤلف عبر الحدس والتأمل النظري في الأيقاع العاري، كائنا جماليا ذاتي التهوه. لذلك، وفي سياق دراسته الجسورة حول مكانة بودلير في الشعر الفرنسي، استخدم فاليري تعبير quot; علم صناعة الشعر quot; ( 3 )، رافضا بذلك مفهوم الطبيعة الحلولية للشعر في الشاعر، أو للحن في الموسيقي، أو للصورة في المصور، وفاتحا بذلك المجال لرؤية أكثر عمقا ودقة لمفهوم الشعر والقصائد والدواوين، فليست كل المقاطع الشعرية ـ وفقا لفاليري ـ بذات البلاغة والتماسك داخل القصيدة ذاتها لبودلير، وليست جميع قصائد ديوانه بذات القوة التعبيرية والتماسك البلاغي، وهكذا توصل إلى نتيجة مفادها: أن الكثير من الدواوين قد مرّت تحت قوس الشعر، دون أن تكون شعرا، لذلك جاء تعليق فاليري على قصيدته quot; المقبرة البحرية quot; بأنها: quot; لم تكن في البداية إلا شكلا موزونا وفارغا، أو ممتلئا بمقاطع عابثةquot; ( 4 )، لكنها أصبحت فيما بعد من أكثر قصائده رسوخا في حياته، كونه استخدم لغة وبحورا شعرية كان قد غادرها مجايليه، محولا تلك المقاطع العابثة إلى قصيدة راسخة عاطفيا وعقليا، عبر تلك العملية الذهنية المركزة لتفاعل القوى في المجال الأخيولي المشحون، لاستقطاع أشكال تعبيرية تعلل المبدأ الحسي بكيفيات إدراكية، وتمكنها من أن تكون رؤية وليست عبثا، دون أن يؤدي ذلك إلى الخلط بين العبث كرؤية وبين التسلية.
- بناءا على ما تقدم، كيف يمكن أن نفهم الخلق الفني كأوالية لتخليص الفن من اللافن؟
- ألم يؤثر تسليع الجمالي في معياره وفي دوره النشوئي للإنسان.؟

هوامش المحور:
1ـ نويل، برنار. ماجريت. ترجمة: راوية صادق. دار شرقيات للنشر. القاهرة. 2001. ص. 49.
2ـ فاليري. بول. الخلق الفني. تأملات في الفن. ترجمة: بديع الكسم. دار طلاس. دمشق 1998. ص 15 .
3ـ فاليري. بول. مكانة بودلير . ترجمة: زياد العودة. مجلة الآداب الأجنبية. الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق. على الرابط التالي:
www.reefnet.gov.sy/booksproject/adabajnabya/110/podler.pdf
4 ـ آلكيه. فرديناند. معنى الفلسفة. ترجمة: حافظ الجمالي. منشورات اتحاد كتاب العرب. دمشق 1999. ص. 247.

الآن. لماذا هذا المحور..؟
تحدث الإضطرابات والتأزمات المجتمعية استنفارا ذهنيا، لاوتعاء الأطوار الجديدة المتشكلة من أنساق متناقضة، مما يستدعي البحث عن أشكال تعبيرية، تكون في مستوى القلق والشك المتعلقين بحداثة الرعب، رعب الترابط العلائقي لأنظمة رمزية، كانت فيما سبق، راكدة ضمن شكل خاص من البداهة، لذلك، تتجدد الأسئلة المتعلقة بالكيفيات التعبيرية، التي تمكن الإنسان من التعبير عن زمنه المعاش، بقول لا يستدعي من خارجه كلماته، بل يخترق النسق السلالي لتركيب الجملة، ويتحرر ليتمظهر في كونه الخاص المتعلق بالصدمة. لذلك آثرنا طرح هذا المحور الآن/ هنا، استثمارا لاستنفار المخيلة.
أتمنى أن تشارك معنا وأن ترسل مساهمتك ألينا خلال أسبوعين. ولك الشكر مسبقا.

نبذة عن المجلة
مجلة quot; كلاويز quot; الفصلية. تصدر عن مركز كلاويز الثقافي في مدينة السليمانية بكردستان العراق، وتوزع في عموم العراق. هي مجلة ثقافية شاملة. صدر منها حتى الآن 27 عددا. لدى المجلة مهرجان ثقافي سنوي ينعقد في خريف كل عام ويشارك فيه عدد كبيرمن المثقفين الكرد والعرب والأيرانين.


*سكرتير تحرير مجلة quot; كلاويز quot; . Galawej Magazine