ورث صانع التوابيت دكان أبيه وهو في السادسة عشر من عمره، ولم يجد من ينافسه على أشجار الغابة القريبة ليصنع منها توابيت، لكنّ الملل بدأ يتسلل إليه بعد شهور من الفراغ وأحلام اليقظة، حتى إنه بات يعتلي سطح دكانه كل يوم علّه يسمع نداء المؤذن:
quot;سبحان الحي الذي لايموت. له الملك. وله الحمد. يحيي ويميت. وهو على كل شيء قدير...quot;
ترى هل اهترأت حنجرة المؤذن؟ أم بليَتْ أطرافه فصار عاجزاً عن الصعود إلى المئذنة؟
غدت أيام صانع التوابيت متشابهة. يُخرج مافي الخزانة من ألواحٍ محفوظة. يضعها فوق تابوت أمام دكانه المشرف على سفوح الجبال والغابات والبحر والأنهار، ويجلس على كرسيّه الضخم ذي الذراعين يصغي إلى نارجيلة المرحوم تبقبق عن الأيام الخوالي، ويتأمّل ماصُوّر على الألواح من شخوص قرية الدمى، مبتسماً لمرأى بطونها المطاطية وأطرافها الخشبية ومفاصلها المعدنية. كانت الوجوه الممصوصة أو المنتفخة المنمشة أو محمرة الأنوف تثير شهيته للضحك والدهشة، يتأملها دونما كلل أو ملل، أما عيونها ذات البريق فكانت ترعبه ولا يستطيع التحديق فيها كثيرا.
وجد مرة في درج سرّي ألواحاً طينية داكنة تصوّر أحلام الدمى، ورأى فيها خطوطاً مضطربة يغشّيها الضباب. نظر إليها كمن يبحث عن أشياء غرقت في لجة الماء العميق. لاح له فتات غيم يقترب ويفترق. يتماسك ويتباعد. يلتئم شمله فتظهر صالات أفراح. ينفصل فتتبدّد الصورة، ويعاود الاتصال فتظهر حاضنات ولادة... مأوى عجزة... مكتبات مجهزة بشبكات واسعة... دور للمسرح والسينما والأوبرا... وحاويات قمامة زاهية الألوان!
وسوست له النارجيلة: إذا ظلّوا يتكاثرون كالذباب ولايموتون، ستشحّ القرية عاجلاً، ويكثر حولنا المتسوّلون والطمّاعون. لعلّ نشوب حريق في الغابة سيهلِك المعمرين والمصابين بالربو وعلل القلب.
في اليوم التالي كان هسيس النار يطقطق بين أوراق الشجر الجافة. لم يسأل أحدٌ عمن ألقى الجمرات الخبيثة بين أفئدة الأشجار الباسقة، فاستلّ منها روحها.
ذهب صانع التوابيت إلى الغابة متقصياً سرّ الدخان. وماإن أشرف على مشهد النار المندلعة في العشب والملتفة حول الجذوع كوشاحٍ ذهبي حتى سرق الضوءُ عينيه، وتركه مفتوناً مبهور الأنفاس. كانت الأغصان الثخينة تتقد، وتهطل فروعها كثريات الذهب والكريستال. وعصير ثمارها ينبثق. يتفجر كالنوافير المضاءة وينسكب نحاساً مذوّباً فوق الأرض المسحورة. رقصت غجريات النار حتى امتداد الأفق. زغردت، ودقّت بخلاخيلها جسدَ الأرض التوّاق، فإذا بألاف الدنانير تندفق. تلمع على شفاهها. تتكوّر. تتدحرج. وتغطي أردان العشب المسجّى. نادته إحدى العاشقات المحمومات، فما غادره الذهول. مدّت ذراعها إلى أخمص قدميه ورفعتهما برفق مدغدغ. مسّتهما بشفاهها الدافئة. قبضت على روحه الهائمة بين شتات أصابعه العشر. احتوته، وجرّته إلى دنيا الوهج. سرَت حمأتها في حواسه المخدرة كمسّ كهربائي. ارتعد صاحياً وبالكاد هرب ونجا.
ظل أياماً خائفاً أن يعود إلى الغابة ليقطع شجراً ويصنع تابوتا، وقلقه يتزايد من أن تقلع الدمى نهائياً عن الموت. بربرت النارجيلة: quot;يشيعُ بينهم أنّ المرحوم تقدّس سرّه سَها، فأغلق باب المقبرة وراءه quot;. نظر صانع التوابيت الابن إلى نفاثة العقد بحنق، فتمتمت مرتبكة: quot;أقصد وهو ينفذ إلى عالم الخلودquot;. حملها يريد تلقينها درساً في الآداب، فإذا بها تمسك بأصابعه. تنغل في عروقه. في أعصابه. في عظامه وعضلاته وكل أنسجته. تتعارك مع رغباته وشهواته وخوفه ورعبه. تتحد به، ثمّ تلفظه، فيرتدّ إلى مجلسه وقد أنهكه الصراع، وترتد هي إلى موقعها مبتسمة، وتبدأ بنفث أنفاسها الحارة الرطبة في أذنيه: quot;لاتخيفنّك الحرائق. سيأتي المطر يوماً ويطفئ لظاها، وإلى ذاك الحين ستكون تصميمات جديدة للتوابيت قد أعِدّت، إذ لايليق بالموتى العنيدين أن يرحلوا في صناديق خشب بائسةquot;.
في الأيام التالية كان صانع التوابيت يصحو فيجد صور توابيت جديدة تغطي جدران دكانه. تابوت أحمر بلون الدم لراقصة الحانة. تلك الدمية التي تملّصت من بين ذراعيه ذات حلم، وارتمت في أحضان دمى ذكورية رعناء. تابوت أخضر لمؤذن الجامع. ماأحيلاها دمية. يدير مفتاحها فتغرّد:
quot;سبحان من بيده ملكوت كل شيء، وإليه ترجعون...quot;.
توابيت صفراء صغيرة بحجم تلاميذ المدرسة. كل التلاميذ الذين عرفهم كانوا مجعدي الأنوف. لقد غسلت أمه ثيابه بأشد أنواع المعقمات، ومازالت رائحة وحش مفترس عالقة بها! قالت له: quot;لارائحة لثيابك غير رائحة المواد القلوية المطهرة. تلك الدمى لاتشمّ أصلا، إنما الوهم موجود في عقلك الساذجquot;. كم تمنى موتهم جميعاً علّ رائحة الموت تفوح من جثامينهم!
فتح عينيه مرة فرأى توابيت سوداء مرتسمة على السقف تزينها سنابل قمح ممتلئة بحبات سمينة شقراء. وكانت بعض الألواح المحفوظة مبعثرة على الأرض. هاهنا دميتان من ريش الطيور وقصب السكر تمثّلان الشاعرَ وعازف القرية. جانبهما دمية من شمع النحل تصوّر صانع التيجان، وأخرى من القشّ لصانع السيوف والخناجر.
توالت شهور الصيف والخريف، وصور التوابيت المهيبة تغطي جدران دكانه من الداخل والخارج والسقف والأرضية. بقبقت النارجيلة فجاءة: quot;لم يحظَ العامة والفقراء بتابوت واحد. ماذا لو مات كل أولئك الحكماء والوقورين والشجعان وظلت العامة تملأ البيوت والطرقات ككلاب داشرة؟!quot;
مضى يقطع الأشجار التي عافتها النيران. داهمه المطر بعد أول ضربة فأس، وكأنما أصاب وريداً يصل الأرض بالسماء إذ انبثقت الدماء من عيونها مدرارة. كان هطلاً موجعاً. محمّلاً بحبات بَرَد حادة كالزجاج راحت تصفع وجهه وكفيه الناعمين. أضاع دربَ عودته في الضباب اللاهث، فاختبأ في جلود الأفاعي المنزوعة، وتنقل بين جحورها إلى أن نسيه الكون. نام صانع التوابيت في أحضان خيالاته دهراً، فرأى مملكة الموت تزدهر، والدمى تتوافد عليه. تتمدّد في توابيت جميلة وتمضي خلف الكواليس.
هبّت رياح شديدة، فأيقظته من سباته. زفرَت أعماقه الصقيعَ، فخرج الهواء ملوّثا بدخان كوابيسه. كانت النيران قد اختبأت في الجمر طوال الشتاء. جذبتها رائحة الشجر اليانع الفتيّ، فمدّت عنقها لتزخر بشذاها المسكر. في الجو شيء خانق. تبلّغت بجرعات من ماء السماء. لم تمهلها الكوابيس السوداء، إذ استلّت سيوفاً وخناجرَ تقطع وتمزّق. نبضت عروق النار متألمة. أفرغت دماءها دفعة واحدة، وانطوت لتموت في هدوء، ساحبة ذيل دخانها الطويل. راح صانع التوابيت يسعل ويسعل حتى ضاقت أنفاسه، وأخذت تتقاذفه سحب الدخان وموجات الروائح العطرية الواخزة. ويح النارجيلة المخادعة المضللة! ليس في النيران حياة أو خلود! بل هي أوهن من الأوثان وأرباب إبراهيم الغاربة! ارتدّ إلى وحدانيته ينشد سلاماً وطمأنينة، لكنّ برودة قارسة سرت في أطرافه ألجأته إلى الجمرة الأخيرة... الملتصقة برأس النارجيلة.
حين عاد إلى دكانه كان مطر ربيعيٌّ يغسل أحلامه عن الجدران، وينقر السطح برتوب ثقيل حتى شقّ أخدوداً يدلف منه إلى الداخل. يالبؤس الجدران حين تفقد ملامحها وتختلط بوجوه الآخرين الكاحتة! لقد راقب الماء ساعاتٍ كيف ينقع الألواح المحفوظة فتذوب ملامح الدمى وتفاصيلها. خمدت جمرة النارجيلة، واستطاع الآخر أن يغادر دكانه منفلتاً من سطوتها.
دخل قرية الدمى أول مرة في حياته. تسكّع نهارات وليال في شوارعها. وجدها خالية مقفرة إلا من جثث منتفخة تعوم في المياه. مياه سوداء وحمراء وصفراء تنبع من الأرض والجثث والسماء. ومئات الأزهار تسبح في عناء. بعضها مضموم في باقات، وأخرى شحبت فرادى. وغبار الطلع الأصفر استكان في ظلال الأرصفة الواطئة قبل أن يسحبه تيار الماء الثقيل دثاراً فوق تفاصيل المكان.
تذكّر صانع التوابيت حساسيته للزهور الربيعية. بحثت يده في جيبه عن مناديله وكماماته المعقمة. أراد أن يعود أدراجه، فغاص في المستنقع اللزج إلى ركبتيه. لجأ إلى البيوت. رآها بركاً مقسّمة تعوم بمخلفات كارثية. آلاف البراغي والمفاصل تتصادم وتئز. جرفتها دوّامات صغيرة إلى شوارع تلتف حول المستنقعات لتهرب منها بعيدا. فجأة لم يعد يرى غير دوّامات تتسع وتتسارع وتسوق في حركتها اللولبية أطراف الدمى وعيونها المقلوعة وأشلاءها الممزقة وتسحبها إلى أعماقها. غارت تلك الأشياء المفككة بعيداً. غابت لحظة. دهراً. عصراً. مرحلة تكفي لإعادة الخلق والتكوين. ثم رأى ذراعين تطويان جناح الماء وتطلان عليه، ولم يتأخر حتى ظهر رأس مهيب فوقهما، ارتفع وسما عالياً فبان الساقان مشدودين لامعين.
لم يدرِ صانع التوابيت كيف فرّ من المارد العملاق الذي راح يجرف السخام خارج القرية. . حين وصل دكانه لاحظ أنّ يده كانت تقبض على نسيج رخو. فتحها ليجد بضعة دمىَ حيّة. أصابعه الهلع لمّا اكتشف حرارة ملمسها. احتار كيف يعامل هذه المخلوقات العجائبية. ألقاها على الأرض، فتلوّت، وبدأت تثب فوق ساحة معاركه. تتقافز ككائنات غير واضحة المعالم. التقط واحدة ودقّها بمسمار إلى صورة تابوت ترشح ماء. انبجس الدم من الدمية. فار من عيونها وفمها. تدفق على يديه. تركها مرعوباً، والتقط الثانية. كان جلدها غضاً طرياً. أمسكها بيد راجفة خائفة، فاعتصرت كإسفنجة وسال الدم من مساماتها المفتوحة.
الجدران الممتلئة بالأجساد الرخوة هطلت دماً، ولم يعرف صانع التوابيت أين يهرب. جذب خرطوم النارجيلة وجلدَ به الدمى الطرية النازفة. أفرغت مابداخلها من دماء وخرّت صريعة على قدميه. فوق كتفيه. وبعضها التصق به كعلقات شرهة. بدأ بدنه ينغل دوداً ودماً وقيحا. وصار كل ماينبثق عنه يلتهمه. كوابيسه تلتهم أحلامه. جنونه يلتهم رغباته. وأقبلت من السماء الواطئة آلاف الوطاويط. جذبتها رائحة الدم. وحين هبطت فوقه كان جسمه قد بدأ بالتفكك. تساقطت البراغي الصدئة. ماعت المفاصل الزئبقية واختفت في الوحل اللزج وسخام دكانه العتيق.