عبد الجبار العتابي من بغداد:على ترانيم اغنية عراقية خالدة للمطربة الكبيرة سيتا هاكوبيان (زغيرة كنت وانت زغيرون) تتم استذكارات محطات من حكايات العرض المسرحي الذي نشر على خشبة المسرح، حكايات من الواقع السياسي العراقي، حكايات موجعة، ترسم مشاعرها ما بين الضحك والبكاء، تعلن احتراقات داخلية في النفس العراقية، تدعو الى مواجهة الحاضر وهي تلتفت الى الوراء المعاصر والوراء البعيد جدا وتشارك في الهم الوطني.
عرضت، في مساء بغداد، على خشبة المسرح الوطني، مسرحية (مطر صيف) تأليف الكاتب علي عبد النبي الزيدي واخراج كاظم النصار وتمثيل الفنانة الكبيرة هناء محمد والفنان المبدع فاضل عباس، وحضرها جمهور غصت به القاعة.
هذا العرض يمكن ان نقول انه اضاءة جديدة للمسرح العراقي بعد ظلمات راحت تخيم على خشبته، بعد انتهاكات لها، بعد سكون لفها، بعد تراكمات من الجهل والتهريج، وكان المخرج النصار ومعه المؤلف الزيدي ومن امامهما الكبيران هناء وفاضل، اجمل الزهرات التي زينت وعطرت المسرح العراقي، فكان هذا الجمهور الذي اعلن بتصفيقه الحار وتأوهاته مع الحوار شاهد على عودة البهجة الى خشبة المسرح الوطني، وفي المجمل يمكن ان نشير الى ان هناء محمد، العائدة بعد غياب 17 عاما عن المسرح وعن الوطن، كانت تشع جمالا ودهشة، كانت تتلون في تمثيلها حتى في لحظة يراها الرائي قوس قزح، فيما جمال نغمة صوتها وتحولاتها ما بين العامية والفصحى له سحر لاسيما حين تنطق حرف النداء الشعبي البغدادي (يا..) الذي لا يؤدي هنا دوره في النداء بقدر ما للعتب واللوم والتوبيخ(يا..)، فهو يضفي سحرا مضاعفا،حين تكسر به الكلمات او تستدرك به ليتغير شكل النغمة، فقد تلألأت هناء فبهرت الانظار فيما الاكف صفقت لها كثيرا، وعدت عودتها الى المسرح ميمونة وتستحق ان تنال لقب (ريحاتة المسرح العراقي)، اما فاضل عباس فكان صنوها، وهو الغائب عن الوطن منذ 8 سنوات، اسرج نفسه ليضيء ما فاته فكان اداؤه سراجا اعجب الناظرون، فأشعرنا انه ذلك الفاضل الجميل الذي ما ازداد الا خبرة وان الغربة ما منحته الا ابداعا، هناء وفاضل كانا بحق ضوءين بهيجين، فيما كان النصار رشة فرح عسى ان يفيق الاخرون من الحزن وينتبهوا لما يجري حولهم.
يبدأ العرض بمشهد عام لامرأة تجلس قبالة منضدة الزينة بمرآة كبيرة، وهنالك اغنية بغدادية تصدح في الارجاء (يا عين هلي بكل وقت واسلي/ ويا روحي نوحي على فراق الجفو واسلي)، وسرعان ما يعلو صوت قطار، فتركض المرأة لترى، وتعود الاغنية تصدح، لكن زخات اصوات الرصاص تجعل المرأة ترتعب وتركض ثانية لترى، ومن ثم تعود الاغنية لكن صوت توقف لعجلة قوي يصيب المكان بالسكون فتأتي المرأة لتنظر الباب ومن ثم تقول بالعامية (اي هسه يجي) ثم بالفصحى (الان موعده، الان يأتي الغالي والوالي وشمعة الدار، ياااااااا يأتي، انا زوجتك، اتذكرها، ما اجملك يا زوجي، ما احلاك يا ماء العيون، لالالالالا.. ابدا صدقني، لن اتفوه بكلمة عتاب واحدة) ثم بالعامية (شبقه بالعمر)، ثم بالفصحى (فعمرنا ليس فيه اي متسع للملامة والعتاب، المهم انك ستأتي وسأعوضك عن غيابك الطويل، غسلت لك ملابسك كلها: كلها، ثم بالعامية (كلها يا بعد روحي، كلها) ثم بالفصحى (كنت كل يوم اغسلها حتى غادرتها الالوان) ثم بالعامية (جولحت)، اكلتك المفضلة على النار تغلي، تغلي منذ سنين طويلة وانا اغلي معها)، وتستمر تخاطب الزوج الغائب بكلمات مؤثرة وتتحرك في الاتجاهات مالئة مساحة الخشبة نشاطا فيما رنة الصوت بين علو وانخفاض بكلمات تمتلك الحنين والوجع والحرمان والاسى، فتقول مما تقول (منذ سنين طويلة (الله وكيلك عباتي فوق راسي ) وابحث عنك في الطرقات والدرابين والغرف والحجر، ابحث عنك هنا وهناك، شارع يحولني الى شارع وبيت الى بيت وغرفة الى غرفة ودربونة الى دربونة وزقاق الى... جهنم)، وبعد تهجدات من الاستذكارات تقول (ماذا يمكن لامرأة لم تر زوجها منذ ثلاثين عاما ان تفعل لحظة دخوله عليها) ثم تتأوه بالعامية (يا يمه)، وبعد ان تشتعل نار حنينها يطرق الباب بقوة عدة طرقات، وهي تقول ما بين طرقة واخرى (هو.. هو.. يا ربي هو ) وتصدح في ارجاء المسرح زغاريد، ومن ثم موسيقى فرح، يدخل (الزوج) فبين الفرح العارم ينبثق ارتياب اذ انها كانت قد اعطته صورته الى اخرين لاستنساخه لها، (لقد قلت لاولئك الذين يستنسخون الرجال ان يستنسخوا لي نسخة من زوجي، اعطيتهم نسخة من صورتك، نعم تحدث عنك طويلا وكثيرا، قلت لهم زوجي وسيم، طوله فارع، عيناه سومريتان، خشمه (انفه) بابلي، حلكه (فمه) اشوري، طوله نخلاوي، زوجي كذ وكذا وكذا)، لكنه يؤكد انه زوجها الحقيقي الذي عاد اليها، وبعد فاصل حواري تكاثفت فيه الاحزان، راحا معا يستذكران اشياءها القديمة ومنها اغنية غنياها معا (زغيرة كنت وانت زغيرون/ تعارفنا بنظرات العيون) التي هي اغنية شهيرة للمطربة العراقية سيتا هاكوبيان، فتصدقه على الرغم من بعض الشك الذي في داخلها وكأنها تجري محاولات اختبار له، الا انها في النهاية تصدقه، (لنعش انا وانت تحت سقف جديد) فيرد عليها (لنعش ايتها الحبيبة)، تضحك طويلا ثم تقول (يمه.. اعتقدتك مستنسخا والله) فيرد عليها بالقول بلهجة عامية (تدرين.. والله العظيم عبالي مخبلة) فترد عليه (اسكت اسكت مخبلة شنو.. انا اعقل منك.. مستنسخ) فيضحكان ويفرحان، لكن طرق على الباب قوي يفززهما، يقول لها (اتنتظرين احدا؟)، فترد: (نعم.. انتظره، زوجا مستنسخا يشاركني العيش بين هذه الجدران) يرد عليها بالعامية بغضب (شنو هذا خبال لاخ)، فتقول له (لا تخف ادخل غرفتنا، انا سأتصرف)، ويدخل الزوج المستنسخ، ويؤكد لها تماما انه زوجها الحقيقي من خلال الكلمات التي ينطقها والتي هي نفسها التي نطقها السابق، وحين تؤكد له انه مستنسخا (انك ليس بزوجي الحقيقي، انت نسخة طبق الاصل من زوجي)، يحتد الجدل فيغضب ثم يتلفظ بكلمات اجنبية فتقول: (هيه.. انت منو) فيقول لها (زوجك) فتقول (كيف تكون كذلك وزوجي الحقيقي يجلس الان في تلك الغرفة) فيصرخ (رجل اخر في غرفتي) فتقاطعه (انت هو الاخر)، وبعد نقاش حاد تطلب منه ان يغادر لكنه يرفض، فقول له موضحة: (اسمع.. انا طلبت من اولئك الذين يستنسخون الرجال والنساء معا ان يستنسخوا لي نسخة من زوجي، وفي الوقت الذي كنت استعد لاستقبالك ايها المستنسخ جاء زوجي الحقيقي قبلك ببضع دقائق، قل بالله عليك ماذا افعل؟) فيحمل حقيبته ويرحل لكن بعد ان يخرج من الباب سرعان ما يعود ليقول ليؤكد انه الزوج الحقيقي، ومن ثم يقرر ان يقتل الاخر، فتقول له (لقد جئتني بأدلة فصدقتك، وقد جاءني بنفس الادلة، فماذا تريدني ان افعل، ان كذبته كذبتك وان صدقته صدقتك، ماذا تريدني ان افعل؟) فيقرر مواجهته بالقوة ويركض اليه، وفيما هي وحيدة تحدث نفسها تحاول ان تجد حلا، فتجد انها ستعمل (قرعة) لكنها ترفضها، ثم اختارت ان تعمل (ملك وكتابة) او ما يسمى بالعراقي (طرة/ كتبة) فتوافق ثم تظهر لها (الكتبة) فتقول وقد استخدمت التناص مع الكلمة حسب المعنى الشعبي الذي يعني (المقسوم/ النكتوب على الجبين): (كتبة امي، كتبة اختي، كتبة الناس، كتبة الدنيا، شلون كتبة)، الى ان تقرر في الاخير (ليش ما اسوي انتخابات؟، شكو بيها يعني)، يضحك الجمهور، تلتفت اليه فتقول له: (ليش شبيكم تضكحون، مو هاي اللي يسمونها انتخابات مبكرة !!!!)، ثم تستدرك قائلة: (بس صخام وعزه هاي سنة سنتين سيفضها هاي، ارجع على حذرةبذرة احسن لي !!)، لكن الباب يقرع بقوة شديدة ويدخل رجل يرتدي معطفا ويعتمر قبعة، ويقول لها بصوت رخو اجش (هيا تقدمي وعانقيني يا وجتي)، فترد عليه (شنو يمه شقلت؟) ثم تقول (مستنسخ اخر داخل بيتي.. يبووووو، اخرج، اخرجوا كلكم، اخرجواما عاد هذا القلب يحتاجكم ايها المستنسخون، ما عادت روحي تحتاج كلماتكم واكاذيبكم ووجوهكم الماسخة، اخرجوا، اخرجوا من بيتي، كلكم متشابهون، كلكم مستنسخون، اخرجوا) والاظرف انها تقف امام الدمية وتخاطب عامل الاضاءة في المسرح (كافي طفي الضوه لا تلح، وانت محمد اوقف الموسيقى، كافي سدوا الباب، ما اريد احد يدخل بعد، كافي ) لكن طرقا اخر على الباب تلحقه زغاريد وموسيقى افراح، ومن ثم تسدل الستارة على اغنية (زغيرة كنت وانت زغيرون) بصوت المطربة سيتاهاكوبيان.
يقول المخرج كاظم النصار: المسرحية تتحدث عن انتظار امرأة لمدة ثلاثين عاما لزوجها الذي سافر، هناك تأثيرات الحروب واضحة على المسرحية وكذلك تأثيرات الحصار والارهاب،فضلا عن تأثيرات المشهد السياسي، فنحاول ان نقول في النهاية ان المشروع الوطني هو الضمانة الوحيدة لسلسلة مشاريع، ربما الازواج هو سلسلة مشاريع، والمرأة هي الوطن.
واضاف: في هذا العرض حاولنا ان نقترب من السهل الممتنع، حاولنا ان نقدم وجبة ترضي المتلقي العادي والمتلقي النخبوي وبهذا نريد ان نعيد للمسرح ألقه وعافيته وان نشارك برأينا في المشهد السياسي وما يجري على ارض بلدنا، هناك اشارات عن المشهد السياسي، ربما اختلفنا على بعض الموضوعات ولكننا في النتيجة اتفقنا على المشروع الوطني وان الكتل وكل الناس تنضوي تحت هذا المشروع لانه الخلاص الوحيد فيها، المسرحية فيها الكثير من التفاصيل.
وتابع موضحا: لم ننصهر كما يبدو من سياق العرض المختبري الذي يذهب الى الصرامة والرسوخ، فالخطأ هنا في الرؤية يعني ارتباك في موقفنا تجاه ما يجري في البلاد، كان لكل منا نحن فريق العمل خيباته التي يريد ان يراها شاخصة ولامعة، اتفقنا مات واختلفنا اكثر لترسيخ اسلوب دون غيره او نظام ادائي في رؤية يريدها العرض،كان المبدع علي عبد النبي قد ذكرنا عبر هذا النص بخيباتنا جميعا، اكبرها ان ننتظر اكثر من ثلاثة عقود لنحصد بعدها القش، بينما الجلادون هم، هم والضحايا ذاتهم، لكننا اخيرا اتفقنا على خيار المشروع الوطني دون شك ودون التنازل عن الشرط الجمالي لاريب.
في الاخير.. استطلعنا آراء عدد من المهتمين بالشأن المسرحي:
قال الفنان طلال هادي: مسرحية مطر صيف.. هي عودة ميمونة ومباركة لمجموعة من المبدعين العراقيين منهم كاظم النصار وهناء محمد وفاضل عباس، هذا عمل مسرحي يشرف تاريخ المسرح العراقي الذي انتمت اليه وكانت جزء منه السيدة هناء محمد وايضا فاضل عباس الشاب المبدع الذي تألق في الكثير من الاعمال الاذاعية والمسرحية، هنيئا لهم وهنيئا لنا.
واضاف: ما اراد ان يقوله العمل هو لا للاستنساخ، لا للتجارب غير الحقيقية، لا للوهم، نعم للحياة الحقيقية الصادقة وللولادات التي يتمخض عنها مستقبل حقيقي بعيدا عن الزيف.
اما الفنان جبار محيبس فقال: وجدت انه رغن جدية النص وابتكاره ومحاولة العزف على حالة التشابه / الاستنساخ، الا انني احسست ان النص فيه نوعا من الاستعادية، ذكرنا بعرض (الجنة تفتح ابوابها متأخرة) وجل نصوص فلاح شاكر، والكاتب علي الزيدي مبتكر ومجتهد ومجدد واستطاع ان يخلق نصا مسرحيا جديدا ومغايرا ولكن هناك هيمنة وتناص مع نصوص فلاح شاكر، يعني لقد وجدنا في هذا العرض الترنيمة ووجدنا (الجنة تفتح ابوابها متأخرة) ولكن العرض المسرحي استطاع ان يقول كلمته، هي لا للاستنساخ ولا لدخول الناس الغرباء للبيت العراقي وفيه اشارات تعبيرية عديدة، ونجح المخرج في تحقيق حالة التوازن والاعتماد على تلقائية وعفوية اداء الممثلين وكانا كبيرين فعلا ورائعين، وعموما استطاع العرض المسرحي ان يقول كلمته في هذا الظرف الساخن الذي يمر به البلد.
فيما قال الناقد والكاتب قاسم زيدان: مرة اخرى يعود كاظم النصار للاشتغال على ثنائية الحضور والغياب التي طالما اشتغل عليها جيل التسعينيات، هذه الثنائية التي كما ازعم لم تغادر النص المسرحي العراقي، فقد شاهدنا اعمالا عراقية كثيرة في التسعينيات تتناول هذه الثنائية، ولكن الشيء الجديد في هذا التناول وفي هذه المعالجة النصية اولا، ان المؤلف علي عبد النبي الزيدي حاول ان يضيف لهذه الثنائية مبحثا او خطا اخر هو حضور النسخة المزيفة الطارئة الغريبة على المكان، الغريبة على الحياة، هذه النسخة التي دائما تزعج وتشوه الحقائق وتزعج طبيعة الحياة الامنة لدى العائلة ولدى الحبيب وحبيبته ولدى المجتمع، من جانب اخر حاول زميلي كاظم النصار ان يستنطق النص باتجاه بصري غير معتاد في عروضه السابقة، حاول ان يخفف من الكم البصري الذي كان يشتغل عليه سابقا باتجاه ان يبقي على اهمية الموضوع وتأثيره العاطفي والوجداني لدى المتلقي، خصوصا من خلال استخدامه لاغنية مهمة جدا في تاريخ الذاكرة العراقية (زغبرة كنت وانت زغيرون) استخدمها وكانت وسيلة لتنويع اشتغالاته المشهدية، كان كاظم موفقا في رؤيته الاخراجية، وبالتأكيد كانت هناء محمد وفاضل عباس رائعين في تقديم هكذا شخصيتين اعتقدهما صعبتين في بنائهما وفي اشتغالهما الحسي والجسدي، وايضا توفق عناصر الاضاءة او السينوغرافيا في اعطاء ملمح عرض خفيف على ذائقة المتلقي ويمس وجدانه ويحرك غضبه تجاه النسخ المكررة التي دخلت الى العراق وشوهت كل الحقائق وشوهت الجمال.
وقال المخرج قاسم السومري: عمل جميل جدا على مستوى النص والاخراج والتمثيل والمفاجأة المسرة هي العودة الميمونة لفنانتنا الكبيرة هناء محمد، عودة تستحق فعلا ان تتوجها بهذا العمل الذي ابرز امكانات هائلة نعرفها عنها والان افصحت عنها بشكل جميل وموفقة تماما مثلما توفق الفنان فاضل، كانت الصناعة المشهدية للمخرج واضحة جدا وكانت سينوغرافيا لمحمد رحيم جيدة، على العموم العمل في مجمله يستحق المشاهدة والثناء.
واضاف: موضوعة المسرحية تؤكد على ان كل المشاكل التي مرت على العراق هي بسبب غياب الصدق في الحياة العراقية بسبب الظروف التي مرت وكانت المرأة باستمرار هي الضحية وهي الصامدة االتي استطاعت ان تمسك بالمشهد وهي لحظة الصدق الوحيدة الباقية في العراق كما اراد العرض ان يقولها او كما فهمتها انا بهذا الشكل،علما ان العرض تأويلي.
التعليقات