عبد الجبار العتابي من بغداد: انطفأ قبل ايام.. قمر عراقي بهي، هو الآثاري الكبير بهنام ابو الصوف، الشيخ الجليل، الحافظ لأسرار تاريخ العراق والمتباهي به، انطفأ.. ليعلن عن خسارة جديدة للعراق بأحد ابنائه البررة، وهو ما اضفى حزناً، ولكن العزاء كان في ما قدمه هذا الانسان النبيل من عطاء لبلده، والدكتور بهنام ابو الصوف.. اسم معروف في عالم الآثار، فهو الأثري الذي امضى عمره كله بين التطلع الى الآثار والتنقيب عنها وتأمل اسرارها وقراءة حروفها برغبة ومحبة وامانة وصولاً الى الدهشة التي كانت تغمر قلبه وتشعره بسعادة الوصول الى الحقائق التي تشكل شيئًا من حضارة العراق، بهنام ابو الصوف.. كنت قد التقيته في اواخر نيسان / ابريل عام 2002 وأجريت معه حواراً موسعًا، ضمن مشروعي آنذاك المتمثل بتسجيل سير حياة كبار المبدعين من الالف الى الياء، وتناولت فيه مراحل عديدة من حياته، على اختلاف اهتماماتهم، التقيت الراحل ابو الصوف في نادي العلوية، في الحديث معه كان لا بد لي أن أنظر الى يده التي حاورت اللقى الاثرية، والى كفه التي رفعت الاثار لتضعها بكل عناية في مكانها الحالي، وكان لابد لي أن انظر الى عيونه التي كانت تنظر الى ذلك التاريخ المعمد بالدهشة وهي تتأمل الازمنة العابرة والاقوام التي سلكت طريق الفناء، وكان لابد لي أن انظر شعره الابيض وانحني احترامًا للسنوات وللجهد وللتعب والمحبة التي يكنها للناس وللارض وللماضي، هنا قلّبنا اوراقًا من دفاتر عمره، نبش فيها شيئاً من آثار طفولته وصباه وقلبه.

ماذا نقرأ في هوية احوالك المدنية؟
- بهنام ناصر نعمان من عائلة ابو الصوف، من مواليد 15 تموز / يوليو 1931 في الموصل العتيقة، محلة باب النبي ومازلت احفظ رقم الدار الذي هو 10 / 207.

من اين جاءك لقب ابو الصوف؟
- كان هذا قبل 300 سنة، حيث كانت عائلتي من سكنة جزيرة ابن عمر في ديار بكر، وأحد أجدادي واسمه منصور كان يتاجر بالخشب، يأتي به من تلك الديار على ظهر (الكلك) ويبيعه في الموصل ويشتري الصوف لبيعه هناك، وجدي هذا يظهر أنه عشق الموصل، لذلك تزوج منها وسكن فيها واستقر، فصار الناس يسمونه ابا الصوف.

ما الذي تبقى لديك من الطفولة؟
- انا دائماً أحن الى مرابع طفولتي ومحلتي القديمة على الطرف الجنوبي من قلعة الموصل الأثرية، وانا كنت بين صبيان محلتي (شيخهم !!) او مثلما كنا نقول (رئيس عصابة)، حيث كان جسمي ضخمًا، وكنت استغل (شقاوتي) في ابتزاز بنات المحلة، فأقطع عليهن الطريق لآخذ من كل واحدة منهن (عانة) (العانة عملة عراقية كانت هي اصغر الفئات آنذاك )، وهن يدفعن لي دفعًا للشر وكنت اتقاسم هذه (العانات) مع اصدقائي لنشتري الدوندرمة، هذه ذكرى اخجل منها.

ماذا كان والدك يعمل؟
- كان بنّاء، اسطة في البناء، ومما اذكره له، وحتى لا العب في الدرب و (أبيع شقاوة) كانت امي تقول لأبي : (خذه معك)، وكان يأخذني معه، يوقظني مع آذان الفجر والنوم في عيوني، وكان العمل شاقًا، لكنني لم استمر لأن بنات المحلة اللواتي كنت آخذ منهن العانات صرن يقلن عندما أمر في الدرب عائداً الى البيت (جاء الوسخ.. جاء الوسخ)، ويضحكن عليّ!!

اين كانت دراستك الابتدائية؟
- في مدرسة (شمعون صفا) الابتدائية، وكان عندنا كاهن محترم يدرسنا الدين، وكنت في درسه أقرأ قصص (ارسين لوبين) فكان يمسكني وانا افعل ذلك فيقول لي : انت لا تصلح لهذه المدرسة، انت تقرأ كفراً، ويجب أن انقلك الى مدرسة اخرى !!، وعليّ أن اذكر أن في هذه المدرسة ومنذ الصف الثالث الابتدائي بدأت احب درس التاريخ لأن فيه حكايات وقصصًا وبطولات، وكان مدرس التاريخ واسمه (محمود اسماعيل) من منطقة (باب جديد)، هو الذي شجعني وجعلني احب التاريخ وقد وجد الرغبة فيّ، وكان في الصف يقول لي : قم يا بهنام اقرأ الدرس مكاني للطلاب، وهو اول شخصية تربوية أثر بي.

هل عشت طفولة سعيدة؟
- الحمد لله كنت ابن خير، امي تطبخ يومياً وأبواب بيتنا مفتوحة للاصدقاء، كنت الوحيد بين اربع بنات، كنت اعشق الاشياء العتيقة، وأذهب اليها كالجوامع والكنائس والخرائب التي كانوا يقولون عنها (سبع.. من يدخل اليها في الليل!!)،على اساس أن فيها جناً، وكنت ادخلها، وبعمر مبكر ذهبت الى خرائب نينوى وكنت اجلس امام حفريات عملها الانكليز فأتفرج على المنحوتات، وعندما اعود الى البيت أسأل امي عنهم فتقول : (هؤلاء عصوا الله فمسخهم حجارة) فأذهب اليهم فأبكي عليهم !!.

ما الرغبات الاولى التي تشكلت في نفسك؟
- كنت امارس الرياضة بشكل كبير، كنت سباحًا أعبر الشط وأنا بعمر 14 سنة، وفي اواسط الاربعينيات جمعنا، نحن اشقياء الموصل، السيد ياسين محمد (ابو طه) وهو مصارع في نادي الشباب، حتى لا نتعرض للناس بسبب قوة اجسامنا، وفي هذا النادي اصبحنا فضلاء، حيث جعله صاحبه منتدى ثقافياً من رواده يوسف الصائغ، عمر الطالب، شاذل طاقة ونجيب يونس،وتحول النادي الى منتدى اخلاقي ثقافي، وكنت امارس فيه ايضًا رياضة كمال الاجسام وشيئاً من المصارعة والملاكمة.

اين اكملت دراستك الجامعية؟
- بعد أن تخرجت صيف 1951 من الاعدادية (القسم الادبي) بمعدل 70 %،أتيت الى بغداد ابحث عن كلية، فقدمت اوراقي الى معهد الطيران المدني، فطلبوا مني كفالة لكن الوالدة تدخلت بشكل كبير وقالت لأبي إن لا يكفلني حتى لا يقبلوني لأنها كانت تخاف من الطيارة، وتركت الطيران، وجئت امشي في منطقة (باب المعظم) وأنا حائر لا ادري ما افعل، وعند البناية التي تقع مقابل جسر المشاة (الان ازيل هذا الجسر)، رأيت شخصين واقفين في الباب، نظرا اليّ وقال احدهما: تعال يا ولد !!، ماذا تريد؟،قلت لهما بالمصلاوي : (هذا اشنو؟) قالا : هذا قس الاثار..، وظهر انهما كانا يبحثان عن طلاب لهذا القسم الذي من المقرر أن يفتتح اذا ما صار عدد طلابه عشرة طلاب، فقلت في نفسي (هذا يفيدني ما دامت أمي لا تريد أن اكون طيارًا)، فأخذت اضبارتي ومباشرة دخلت على اللجنة المجتمعة وكان فيها الدكتور طه باقر وصالح احمد العلي وسكرتير الكلية، قال لي الدكتور طه باقر : هذا القسم فيه براري، قلت له : انا رياضي، قال لي : ومعدلك جيد، قلت له : لا احب المدينة وأحب المغامرة، ثم التفت الى اللجنة وقال :هذا الولد يفيدنا، ثم نظر اليّ وقال : انت مقبول !!،عرفت في ما بعد أن الشخصين الواقفين في باب الكلية هما الدكتور طارق مظلوم والدكتور كاظم الجنابي، وفي تشرين الاول / اكتوبر 1951 كنا عشرة طلاب وبنتين هما : ساجدة العربي ورفيقة محمد امين التي انتقلت في السنة الثانية الى قسم التاريخ، وتخرجنا احد عشر طالبًا اكمل منا ستة الدكتوراه.

لماذا الاثار؟
- وأنا اقدم اوراقي حضرت امامي طفولتي وصباي في ربوع الموصل وعلى حافات دجلة وفي خرائب نينوى ومحلات الموصل العتيقة التي احبها، وحضرت امامي الاساطير والملاحم والقصص عن الاغريق واليونان وابطال التاريخ وحضر امامي انني لم اكن حبيس غرفة صف وسأكون موظفاً في الهواء الطلق، فأقدمت على الانخراط في قسم الاثار وقضيت اربع سنوات هي اسعد ايام حياتي.

هل تذكر اول مكان نقبت فيه؟
- ونحن طلاب في الصف الاول ارسلنا فؤاد سفر الى الحضر حيث هناك تلة، ولكن بعد التخرج تعينت مباشرة في دائرة الاثار في 27 تموز / يوليو 1955، وفي ايلول / سبتمبر 1955 رحت مع المرحوم محمد علي مصطفى الخبير في الاثار الى حوض سد دوكان لكي نثبت على الخارطة الاماكن الاثرية التي تغمرها مياه بحيرة دوكان، انجزنا المهمة في شهر واحد، وفي صيف عام 1056 نقبت في تل (باسموسيان) على الضفة الغربية للزاب الاسفل في منطقة حوض سد دوكان يسمونها (سهل بتوين) جنوب مركز قضاء رانية بـ 12 كيلومترًا، وكنت أرأس البعثة الثانية، اما اول مرة اكون فيها وجهًا لوجه امام لقى وبقايا اثرية فكانت عام 1955 حين كانت الدولة تؤسس مشروع المسيب الكبير قرب الحصوة، وكان مطلوب منا أن ننقذ الاثار هناك، فوجدنا قبور نساء محفوظة فيها حجول وأقراط وأساور، ولاول مرة ارى ذهبًا وفضة وعقيقًا، ووجدنا قبور رجال محفوظة فيها آلات حربية ومواعين فخارية.

ما أهم الاثار التي اكتشفتها؟
- بصراحة.. كلها مهمة، ابرزها في صيف 1056 في قمة تل (باسموسيان) في حوض سد دوكان، كشفت عن معبدين من مطلع الالف الثاني قبل الميلاد في كل منهما نماذج من الفخار لمجسمات تمثل معابد صغيرة يحمل كل منها وعلاً جبليًا قوي الجسم، بارز العضلات بقرونه الحادة، وفي ربيع 1959 كشفت عن جزء من قاعة عرش الملك الاشوري (اشور ناصر بال) في نمرود، اذ لم يصل اليها من قبل لا (ليرد) الناقب الانكليزي في اواسط القرن التاسع عشر الذي نهب منحوتات اشور، ولا مالوان (زوج اجاثا كريستي) في اواسط القرن العشرين، وهذا الجزء هو اضافة مهمة اعمارة قاعة العرش هذه التي تضم سلماً يقود الى الطابق العلوي من القصر،وفي شباط/ فبراير 1964 كانت تنقيبات تل الصوان جنوب سامراء على الضفة الشرقية لنهر دجلة التي قدتها لثلاثة مواسم طويلة، قد اعطت نتائج لم يكن احد يتوقعها في عالم الدراسات الاثرية في هذه المنطقة من وسط العراق، فقد كشفت عن قرية أشبه بمدينة صغيرة من اوائل الالف السادس قبل الميلاد بطبقاتها الخمس المتعاقبة، والسور الذي من الطين والجص الذي يحيط بطبقتها الثالثة والخندق الدفاعي الذي حفره سكنة الموقع من فلاحي العراق الاوائل حول قريتهم السفلى الاولى حين استقروا على دجلة في هذا المكان من وسط وادي الرافدين حيث كانوا ينحدرون بمعارفهم في الزراعة وتدجين الحيوان التي حققوها قبل ثلاثة الاف سنة في سهول العراق الشمالية قبل غيرهم من سكنة العالم القديم بأكثر من خمسة الاف سنة، وأهمية اكتشافات تل الصوان انها ألقت الضوء على الطريق الذي سلكه فلاحونا الاوائل في انحدارهم الى العراق في الجنوب بمعارفهم وقد جعلت الاوساط الاثرية في دهشة من هذا الاكتشاف لقدم عمارته واستخدامه المبكر لمادة (اللبن) المعمول بقالب والنحت المبكر بالحجر الذي يعد نواة للنحت السومري.

هل كان للحب دور في ما جرى لك؟
- نعم احببت وانا صغير معلمتي الاولى حبا عذريا، وأحببت وانا صبي بنت الجيران، وأحببت وانا شاب ابنة عمي التي اصبحت زوجتي، الحب بعد الكهولة تحول الى حب ابنائي، وفي السنوات الاخيرة احببت ابنتي كثيرا وانا افتقدها الان لانها تزوجت في الخارج.

ما الحكمة التي استخلصتها من عملك في الاثار؟
-علمني العمل في الاثار على الصبر والتأني وعدم الحكم على الاشياء بسرعة، وعلمني احترام الارض واحترام الماضي، وعلمني أن العراق بساكنيه الاوائل كانوا بشرًا مبدعين حققوا الثورة الزراعية، ثورة العصر الحجري الحديث قبل اكثر من 12 ألف سنة، والتي نقلت البشرية من عصر جمع القوت وحياة الصيد والمخاطر الى حياة الاستقرار والامان.