إيلاف: صدر عن دار الغاوون، كتاب جديد لعبد القادر الجنابي عنوانه quot;أوبيريو: آخر شرارة طليعية في الأدب الروسيquot;، ويضم مختارات من كتابات رئيسي هذه المجموعة دانيال خارمْس والكسندر فيدنسكي، قام بترجمتها عبد القادر الجنابي وأستهلها بمقدمة طويلة يشرح فيها مسار مجموعة quot;أوبيريوquot; (اتحاد الفن الحقيقي) الثقافي والظروف (1927-1940)، التي ولدت فيها، وكيف عانت القمع الستاليني بحيث ظل نتاجها محكوما عليه اكثر من أربعين عاما. وتعتبر هذه المجموعة رائدة في ما سمي بعد الحرب العالمية الثانية بـquot;أدب العبثquot;. وكان مثقفو الأمية الستالينية يعتبرون نشاط أوبيريو quot;هرائيا ومضادا للثورة وعدوا طبقياquot;. وقد سجن دانيال خارمس وفيدنسكي عدة مرات إلى أن ماتا في السجن عام 1942، بسبب ما يكتبونه من أدب يتناول قضية المعنى طامحين لفتح النص على آفاق بعيدة عن أوهام الواقع/ المعنى القَبْليquot;. ففلسفة خارمس تقوم على أن العالم هو مجموعة تأثيرات بلا قضية، يتصادم واحدها بالآخر. ومن هنا يولد الإحساس بالعبث. إن مأساة الإنسان تكمن في عدم قدرته على فهم العالم إلا على نحو متشظ، والرابط الذي يوحده بما يحيط يبدو منكسرا واعتباطيا... صحيح أن هناك دائما رابطا بين حدثين لكن لا نستطيع تحديدهquot;. أما فيدنسكي فهو غالبا ما كان يشكك في مفهوم الزمن حد انه طالب بنزع عقارب الساعة التي لا تعني حركتها أي شيء. فهو يتساءل لماذا الأفعال كـquot;فعلquot;، quot;أكلَquot;، quot;شربَquot;، quot;نامَquot;، quot;ماتَquot;، مربوطة دائما بالزمن، بينما الأسماء كـquot;الغابةquot;، quot;البيتquot;، quot;الموتquot;، متحررة من فكرة الزمن.
وفي الحقيقة إن كتاباتهما كان من الممكن أن تُدمَّر كلّها، لو لم يذهب رفيقاهما في حركة quot;أوبيريوquot; الفيلسوف ياكوف دروسكين برفقة مارينا ماليتش (زوجة خارمْس الثانية)، إلى شقة خارمس الواقعة في شارع مايكوفسكي رقم 11، بيوم واحد بعد موته (شباط 1942)، ويجمع كل أرشيف خارمس من دفاتر ومخطوطات في حقيبة كبيرة وما كان لدى خارمس من مخطوطات فيدنسكي الشعرية واحتفظبكل هذاسرا أكثر من عشرين عاما، إلى أن بدأ جليد الستالينية بالذوبان بحرارة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (1961) الذي أدان الحقبة الستالينية وممارساتها القمعية خصوصا ضد الأدب.
جاء الكتاب في 136 صفحة من الحجم المتوسط. وضم 33 نصا وقصيدة ومسرحية لدانيال خارمس، و13 من مطولات فيدنسكي الشعرية مع دراسته عن مفهوم الزمن، ومقدمتين كتبهما عبد القادر الجنابي. هنا نصان من نصوص دانيال خارمس:

دانيال خارمْس: نصان:

1- الدفتر الأزرق رقم 10
كان ثمّة رجلٌ ذو شَعر أصهب، لم تكن له عينان ولا أذنان، ولم يكن له شَعرٌ أيضا. وسمّي بالرجل الأصهب على سبيل المجاز.
لم تكن له قدرةٌ على الكلام لأنّه لم يكن له فمٌ. ولم يكن له أنفٌ أيضا.
لم تكن له ساقٌ ولا ذراع. ولم تكن له معِدةٌ، ولا ظهر، ولا عمود فقري، لم تكن له أيّ أحشاء. لا شيءَ ثمّة. بحيث بات من الصّعب أن نفهم عمّن نتكلّم. لذا، سيكون من الأفضل أن لا نتكلّم عنه بعد الآن.

2الحمّامات

الحمامات مكان مثير للقرف
يتجول فيها الرجل عاريا
والرجل لا يعرف كيف يكون عاريا
في الحمامات ليس ثمة وقت للتفكير بهذا
عليه أن يحكّ بطنه بالليفة
وأن يغسل بالصابون إبطيه.
أعقاب حافية في كل مكان
وشعور مبتلة.
رائحة الحمام تذكر بالبول
الجلدُ ذو المسام تدلكه المِقشّات.
الطست المليء بالصابون
موضوع طمع الجميع.
عراةً يرفس واحدهما الآخر
محاولا أن يكسر فكَّ جاره.
في الحمام المرء قليل الحياء
ولا احد يحاول فيه أن يكون جميلا
هنا كل شيء معروض
البطون المُفلطَحة
السيقان المَحنية؛
الرجال يركضون محنيين
ظنّا منهم أنه أكثر احتشاما.
ليس بلا سبب كنا قديما نعتقد أن الحمامات
كانت تُستخدم كمعبدٍ للقوى النجسة.
كم أكره الأماكن العامة
حيث الرجال منفصلون عن النساء
حتى التَّرام أفضل كثيرا من الحمامات.


ألكسندر فيدينسكي: الضيف الراكبُ حصانا

حصان السهوب،
يركضُ متعباً،
تتقطّر من شفتيه الرغوة.
أيّها الضيف الليلي،
لم تعد موجوداً،
اِختفيتَ فجأةً أثناء الركض.
كان مساءٌ.
لا أتذكّر بدقّة،
كلُّ شيءٍ كان أسودَ ومهيباً.
كنتُ قد نسيتُ
وجودَ
الكلماتِ، البهائمِ، الماءِ، والنجوم.
كان المساءُ بعيداّ،
على بعد كيلومترات منّي.
ضجيجُ وقعِ حوافرَ تناهى إلى مسامعي،
لَم افهم هذه الوشوشة،
فقلتُ في نفسي - إنّها تجربةُ
تحويل شيءٍ فولاذي إلى كلمةٍ،
إشاعةٍ، حُلمٍ، شقاءٍ، قطرةِ نورٍ.
الباب مفتوحٌ،
الضيفُ دخل.
الألم نفذَ
من عظامي.
يميل نحوي
إنسانُ الإنسان،
ينظرُ فيّ كصدى،
له وسامٌ على الظهر.
بيده المقلوبة
يريني ndash; على سطح النهر،
سمكةً تركض في الضباب،
معكوسةً كما في لوحٍ زجاجي.
سمعتُ - البابَ وخِزّانةَ الحائط
قالا بوضوحٍ:
الحصانُ يُحمحم.
كنت جالساً، ذهبتُ
على الطاولة، كنبتةٍ
كمفهومٍ جامدٍ
كزغَبٍ
أو كخُنفَساء
إلى تجمّع عالمي؛ تجمّع
الحشراتِ والعلوم،
الجبالِ والغابة،
الصخورِ والشياطين،
العصافيرِ والليل،
الكلماتِ والنهار.
أيّها الضيف، أنا فرِحٌ
وسعيدٌ جدّاً
بأني رأيت رُبوع الحصان.
كان الحصانُ أملس
بلا ألغازٍ،
بسيطاً ورائقاً كجدول.
حرّكَ عرفَهُ
المُتلهّف،
قالَ -
أحبُّ أن آكل قليلا من حساء الكرنب.
أنا رئيس الاجتماع،
جئت إلى التجمع.
عَلّمْني، أيّها الربّ.
أجاب الربُّ: حسنا.
التفتَ الحصانُ جانبا،
نظرتُ في راحته
لا شيءَ فيه يبعث على الخوف.
قلت في نفسي،
ارتكبتُ خطيئةً،
لذا حرمني الربُّ
من الإرادة، من الجسدِ ومن العقل.
نهارُ الأمسِ وجدني.

في الماء الساخن
كان الشتاءُ،
في الجدول
كان السجنُ،
في الزهرة
كانت تتجمّع الأمراضُ،
في الخُنفَساء
كان نقاشٌ عقيم.
لم أرَ أيَّ معنى في أيِّ مكان:
ربّاه، لعلكَ غائب؟
يا لَلمصيبة.
كلا، رأيتُ كلَّ شيءٍ دُفعةً واحدة
التقطتُ وعاءَ النهارِ الصامتَ،
قلتُ جملةً غريبة
ـــ تهوى المعجزة تدفئة كعْبَيها
فطلع النور،
الكلمات ظهرت،
العالم تصاغر،
النسور هدأت.
أصبح الإنسانُ شيطانا
وبعد ساعةٍ
وبأعجوبة
اختفى.

كنتُ قد نسيتُ الوجود،
فتأمّلتُ
المسافةَ
من جديد.