بغداد: مرة اخرى تنشب المنية اظفارها لتجرح قلب العراق بواحد من ابنائه المبدعين الطيبين البررة، ولم ينفع معها العلاج والدواء والاطباء، بل جعلته يتعذب كثيرا ويذوي مثل زهرة يحاصرها الذبول، اصفر وجهه ونحل جسده وتباطأ سيره وانخفض صوته، وراحت (كليتاه) تتأثران بأوجاع ومضاعفات لشهور طويلة، لكنهما لم تسعفاه وتبقيان ذائدتين عن حياته، بل انتكستا تماما ولم ينفع في اغاثتهما اطباء مستشفى (اليرموك) ببغداد، ليفارق الحياة على مضض وقد انتفضت كليتاه احتجاجا على الاهمال القسري الذي ناله هذا الاديب الكبير !!.
رحل الكربلائي الجميل عن عمر 70 عاما، بعد ان عانى كثيرا من المرض، واذ لم يستغئ بأحد، كان اصدقاتؤه ومحبوه يطالبون الجهات الحكومية بأن تتبنى علاجه، لكن النداءات كانت تذهب هباء منثورا فيما هو يحاول بما يمتلك من قدرة على المطاولة وحب الحياة ان يبقى صامدا، فيما كانت كلمات شعره قاسية ومعبرة عن ذلك الوجع الذي يسكن في روحه، فكانت قصيدته التي تحمل عنوان (لعلي بن يقطين رائحة الطين) خير معبر عن هواجسه والامه، وقرأها اكثر من مرة لاسيما في مهرجان الجواهري ومهرجان بغداد الشعري الذي اختتم قبل ايام.
يقول عنه الشاعر جواد غلوم : محمد علي الخفاجي شاعر يشار له بالبنان منذ ان اصدر ديوانه الاول/ مهرا لعينيها لفت الانظار اليه وقد برع في كتابة المسرحية الشعرية ايضا اذ حازت مسرحيته ( ثانية يجيء الحسين )عدة جوائز ونالت استحسان الوسط الادبي في عموم الوطن العربي وتم تكريمه في الامارات العربية بسبب هذه المسرحية وقد تعرض الشاعر الى مضايقات كثيرة حينما طرد من التدريس ونقل الى احدى دوائر الضرائب مما أثرّ كثيرا في وضعه النفسي، ومنذ عامين مضيا كان يعاني من فشل كلوي وخابت الكثير من المناشدات التي وجهت الى المسؤولين لأجل معالجته خارج العراق وامكانية تبديل احدى كليتيه لكن هذه المناشدات ذهبت سدى كالعادة مما اضطره الى السفر الى تركيا والعلاج على نفقته الخاصة ومن المساعدات المالية من جيوب اصدقائه ومحبيه.
واضاف : وللامانة فقد كان محمد علي يتميز بخلق رفيع وتواضع جمّ قلّ نظيره مما نراه في اوساطنا الادبية ورغم مرضه واضطراره الى مراجعة المستشفى مرتين اسبوعيا لاجراء غسيل / الدايلسس فقد كان دائم الحضور للفعاليات الادبية التي تقام في المؤسسات الادبية والفنية ومساهما نشطا في المهرجانات التي تقام بين فينة واخرى وكنت اراه كل جمعة زائرا اصدقاءه في شارع المتنبي جالسا وسط زملائه ومريديه في مقهى الشابندر ويجول بين المكتبات بحثا عن ضالّته من الكتب والمؤلفات
اما الشاعر حسين القاصدrlm; فقال : ببالغ الأسى وبأحرف تقطر دمعا، انعى صديقي وحبيبي الشاعر الانسان والكاتب المسرحي الكبير محمد علي الخفاجي.. لم اصدق الخبر حين اتصل بي علي وجيه، لكني اتصلت بهاتف الفقيد فأجابوني ب (نعم ).. لقد رحل صاحب (ثانيةً يجيء الحسين ) فمن سيخبرنا بمجيء الحسين ثانية ؟.. كان في ضيافتنا امس وقرأ قصيدته في القاعة الكبرى في الجامعة، وجلس معنا وتحدثنا كثيرا، كانت اخر محطة شعرية له هي في جامعة القادسية، فالى جنات الخلد يا أبا نواس.. الى رحمته الواسعة.. حتى متى ولموت يسكن جملتي، ماذا يريد الموت ياأللهُ
واضاف : هنا العراق.. أيها الموت أقبل.. هنا علي جواد الطاهر.. هنا... هنا... هنا..، هنا عناد غزوان.. هنا محمد حسين الاعرجي.. هنا العراق حبيبك الازلي ايها الموت.. ايها الحق الذي يكاد ان يكون باطلا.. هنا العراق ياألله.. في كل يوم يسقي مبدعيه أسىً وغربة وعذابا وتشردا.. حتى اذا اخضّر ابداعهم.. جاء الموت ليقف بين الشاعر وقصيدته.. اقسم اني لا اجيد سوى الدمع الآن.. سامحني يا ابا نواس فانا اقف مكتوف الكلام امام خبر موتك.. الا لعنة الله على من ترك محمد علي الخفاجي يصارع المرض منذ اكثر من عام.. هنا العرااااااااااااااااااااك... لان وطننا يحب العراك ويكره الابداع.. ينفقون على العراك ويهملون الابداع لأنه يخبرهم بأن العراق بالقاف لا بالكاف لذلك هم له كارهون، ياله من وطن كلما جاع أكل مبدعيه... الوداع يا ابا نواس.. وداعا محمد علي الخفاجي.
اما جمال المظفرrlm; فلم يتمتم الا بكلمات : لاحول ولاقوة الا بالله، يبدو اننا ادمنا الخسارات، في كل يوم نودع قامة عاليه، الى جنان الخلد ايها الكبير.
رحل صديق الكلمة...عميد المسرح الحسيني محمد علي الخفاجي
فيما قال د.اثير محمد شهاب : قبل ساعات من كتابة هذه الكلمات رحل الشاعر والمسرحي الكبير محمد علي الخفاجي الذي قدم للشعر والمسرح الشعري الشيء الكثير،اشعر بالارتجاف وانا اضع كلماتي هذه التي تؤبنه، ولطالما جمعتنا الكلمة والمواقف،وحتى اكون منصفا في كلماتي هذه ساشير الى اهمية ما قدمه محمد الخفاجي الى التراث الشعري والقضية الحسيني من خلال المزاوجة ما بين التراث والمعاصرة،وادعي ان الامتياز الذي يحسب للشاعر هو الاهتمام بالكلمة وما تقدمه من رصيد انفعالي مهم،كنت تقول دائما :
سلام على اخر الاشتياق
سلام على ام نواس
لم ارها hellip;.. فقد خرجت
منذ دخلت بيتنا الحرب
والقت سواد الغسيل على الحبل
اذ التفتت نحو ابائها
واتشحت بالمنون
بعدها ملات بيتها فتنة
ورشت على الكحل سود العيون
لم يكن نص الخفاجي عابرا مثل الشعراء الاخرين، وانما كان محملا بمزيج من التجربة والانفعال، بحيث بدا ذلك واضحا في نصوصه اغلبها التي اختلطت بشيء من سيرته ومواقفه.الشيوعيون حالوا الاساءة اليه عندما سقط النظام البائد، ولقد خضت من اجله كثير من المعارك، وسياتي الوقت الذي اكشف فيه رصيد الاساءة التي تعرض لها.. مع ذلك بقي محمد علي الخفاجي كبيرا مثل قصيدته...
اعرف ان هذا الزمن اعمى وان القصائد عمياء ولا تتسع الى رثائك..ولكنني ادرك ان صفاء قلبك وطيبة روحك جعلتني اقف هذا الموقف من مثقفين حسبوا انفسهم صناع كلمة..وما هم بذلك...
المجد لك والخلود...
صديق الكلمة...
ساختتم قولي هذا بقصيدتك التي ارددها دائما:
اريد بلادي
هم ضيعوني وهم قد اضاعوا بلادي
واقتسموا ارثنا بين خمر النوادي
وكنت اذا ما نويت الرحيل
اخجلتني من النخل برحيه
فرشت ظلها فوق ارض السواد
فيما قال مسلم الركابي : لم يأت امس ,سأقابله الليلة / هل كنت عصياً على الموت أبا نؤاس ,انت استفزيته كثيراً ,كانت ابتسامتك تهزمه في كل مرة وانت تنظر اليه وانت جالس على خاصرة القصيدة كان صوتك جهورياً في غرفة الصف وكنا ننظر اليك وانت تشحذ فينا شظايا الوعي فأنفتحت عيوننا القاً وقلقاً وترقباً علمتنا ان لانخشى شيئاً فقد زرعت فينا روح التمرد لقد قسوت علينا كثيراً استاذي الفاضل فعلمتنا الشعر وعلمتنا الحب لذلك نحن لا نجيد كتابة قصائد الرثاء فدع قصائدك ترثيك ولتقف قصائد بقية الشعراء حدادا عليك يا آخر المبدعين الراحلين.
وقال عنه عبد الامير المجرrlm; : لااعتقد انك استنفدت قصائدك، لكنك طويت المتبقي منها على صدرك ومضيت مثل غيمة بيضاء انعسها نسيم الربيع فغفت محمولة بين السدم، وها انت تلقي علينا اخر ما اخترته من قصائد، لن اسمها قصيدة الموت، لانك عشت حياتك كلها تشع حضورا وحيوية وشبابا، فانت لم تعش يوما زمن الشيخوخة حتى بعد ان تجاوزت الستين بكثير لانك قررت ان تعيش وتبقى شابا، وتعشق ان تكون بين الشباب لانك تشبههم في كل شيء بالروح التائقة للجمال دائما، وبخفة الظل والدبلوماسية التي تجيدها بالفطرة، اذ لم اجدك يوما مشغولا بمهاترات جانبية وبقيت وسطيا وساكنا وسط القلوب، تحية اليك ايها الصديق العزيز وانت تلوح لنا لتواصل قراءة قصائدك الاخرى بين الغمام الابيض وكائنات اكثر نقاء وجمالا.. وهذا خيارك القديم !!.
وكان الشاعر الراحل يتوقع هذه النهاية بسبب الاهمال، وقد قرأ قصيدة موجعة في افتتاح مهرجان الجواهري، ابتدأها بكلمة قال فيها : في محنة المرض التي مررت بها والتي أمر بها الان تبين لي ان الفقرة التي يضمها القانون والتي تقول (ان الدولة تتكفل المرض والعجز والشيخوخة) فقرة مهملة تماما، ولهذا كان الضحية الشاعر محمد درويش وربما سيكون فهد الاسدي وربما المتحدث ايضا، وان الكثير من الذين يرددون الشعارات والشعائر لا يتجاوزون هذا الفعل رغم امتلاكهم الكثير، على العكس من ذلك هناك بعض القلة الذين يبادرون دائما بتقديم فعل الخير رغم انهم لايمتلكون سوى قوت يومهم، اذن.. هناك الكثير من الشجر لكن القليل من الخضرة، لهذا فقط اسجل شكري وامتناني ويحسب لهم الاجر، القصيدة ستشير الى ذلك.
ثم قرأ قصيدته التي حملت عنوان (لعلي بن يقطين رائحة الطين) التي تعبر افضل تعبير عن الواقع المزري :
(يتوق الى الحج في كل موسم حج، حين يدعو لذاك المنادي، فيأتي له الناس من كل فج،
يغير احلامه ويبلل اعصابه بالندى، لكنه حين يدرك من انه ليس ذا سعة، يرتد عن ذلك القصد
ويظل من الهم في نومه على مضض يتقلب في صحوه، وفي سنة صاح في دمه هاتف الحج
فايقظ اجراسه النائمة، حيث قام الى نفسه وقد صار في سره بشرا متجدد، اعطى الزكاة ورد المظالم والصدقات، اكرم لحيته وهيأ احرامه وودع اخر جار له، ثم اسلم ناقته للفلاة، لكنه في الطريق وهو يقطع ذاك المدى،رأى حائطا مائلا ليتامى، ودارا من الطين آيلة للسقوط، وأما من الفقر تلهي الصغار بطبخ الحصى، رأى الجوع يورق في القسمات فصاح على الفور : لبيك اللهم لبيك، لبيك.. لبيك.. لبيك، عندها حط عن رحله، شد احرامه وثبت للهدي اقدامه وراح يهرول بين صفا نفسه ومروتها،ثم طوف في ذلك البيت سبعا وهو يردد لبيك اللهم لبيك فتردد من حوله الطرقات.
في المساء.. صعد السطح، كان كمن يصعد العرفات، وفي كفه قطع من حصى، فاستدار الى جهة ورمى الفقر بالجمرات، وهو يردد لبيك اللهم لبيك فتردد من حوله الطرقات، حين انفق ما عنده دون ان يدرك الحج، عاد الى اهله خجلا يتوارى،وقال : احج الى الله في السنة القادمة، لكنه في الطريق، والفجر ما زال لم يرسل الوهج، او توقد الشمس ضوء السراج، توسمه نفر عابر، فدنوا نحو ناقته، القوا عليه تحيتهم قائلين له : مرحبا ايها الحاج.. مرحبا ايها الحاج )
ولد في كربلاء، عام ١٩٤٢ حاصل على البكالوريوس باللغة العربية من جامعة بغداد، كتب الشعر مبكرا وصدرت له عدة دواوين منها (مهرا لعينيها، انا وهواك خلف الباب، الهامش يتقدم) وغيرها، التقى الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة التي أولته رعاية خاصة حين درسته لأكثـر من سنتين وخصصت له ساعة من كل أسبوع، وعنها يقول: قوّمتني تقويماً أدعي انه لولاها لما وصلت إلى هذا المستوى.. كما يؤكد : بعد ذلك تعهدني المرحوم الدكتور عناد غزوان حيث قدّم لأربعة دواوين شعرية من دواويني.
اصدر عدة مسرحيات منها ( ثانية يجيء الحسين) عام1967 و(أدرك شهريار الصباح ) 1972 و(حينما يتعب الراقصون ترقص القاعة ) 1973 و(الديك النشيط )2002و(الجائزة) 2008 وقد اصدر أول أوبرا عراقية حملت عنوان ( سنمار ) عام2008 حاصل على العديد من الجوائز العراقية والعربية وشارك في عدة مهرجان عالمية وعربية وعراقية وله نصوص شعرية تدرس في الكتب الأكاديمية في دول المغرب العربي.