في كتابه الشعري الجديد quot;انحتني في الضوء كي لا تصاب لغتي بالدوارquot; (دار الغاوون) يضعنا الشاعر عبد القادر الجنابي امام لعبته الماكرة التي يعرف حدوسها ومساحاتها المفتوحة، والتي يضعها قرينة بالاشارة الى عتبة العنوان الثانوي (قصائد جديدة بشكل قاطع) وكأنه يفترض قراءة مغايرة، اذ يقترح عبر هذه القراءة موجها للتعريف، وللتماهي مع محمولات تلك العتبة التي يستشرف افقها المفتوح باتجاه استحضار كائنه/ الخلّ للكشف عن وعي اكثر رثاء لذاته وللعالم الذي يفقد اطمئنانه، ويصيب الشاعر ايضا بدوار اللاطمئنان.
وأحسب ان القصيدة الاولى في الكتاب الشعري (من الان فصاعدا، خوذ وهضبة من الاحلام، ليل مصاب بضربة شمس) تحمل ارهاصه بهذا الوعي المفارق، الوعي الظاهراتي المجبول على ادراك ما يكشفه الشاعر ازاء نرسيسه الخبيء، نرسيسه اللذوي، ومايناور به بقصدية تتجه عبر هذه المواجهة الى ما يشبه كتابة مراثي ذاته عبر هذا النرسيس، اذ يوهبه عطايا الرؤيا، وسحرية الكشف عبر جمل فعلية أمرية تحرضه على البحث الاضطراري عن الكينونة وسط نقائض العزلة، حتى تبدو هذه الجمل الاقرب الى توسيم الكتاب الشعري بمحمولاتها الرمزية والنفسية الدافعة الى المزيد الكشف والتعرية..
quot;كل من عشب الكلمات.هيولى الرؤيا/ واشرب من مجرى الاصوات/ فكل مصابيح العالم/ لايمكنها تنوير مكان/ تسكنه العزلةquot;.
الجنابي لم يكن يوما شاعر مراثٍ، بقدر ماهو شاعر كشوفات، تسحره اللغة التي تنزع قمصانها، وتكشف عريها للخطيئة، لكنه في هذه القصائد يكتب مرثاته، اذ تتلبسه هذه المرثاة الشخصية بنوع من الهوس، اونوع من الاستغراق بكشوفاتها وشغفها التي تبدو وكأنها كتابة الاعتراف والبوح. مثلما يقصد في هذه القصائد الاقتراب فنيا من استعادة توصيف عتبة الكتاب ب( قصائد جديدة) بوصفها قصائد نثر مغايرة، واكثر انسنة وحميمية، اذ تنمو فيها الفكرة، وتذهب بالرؤيا بعيدا باتجاه(شعرنة) كائنه الذي يشبهه، كائنه الذي يشاطره عواء الروح، والذي يخرج الى فداحة عريه الانساني منطلقا، متسائلا، عبر ما يباغته من ذلك التساؤل المباغت والفاجع، والباعث على الاستغراق الموغل في نقائض اللغة/عشبة وجوده، لكي يتقصى مايتعرى من يوميات خذلانه وشحوبه ومرائر ايامه..
جدّة هذه القصائد تخضع الى توصيف نفسي اكثر مماهو لغوي، اذ يشحنها الشاعر بشفرات، تشبه الاستيهامات الغامضة، والتي يتمرأى عبرها الشاعر ككائن يغترب ازاء مرآة نرسيسه، اذ تصيبه لعنة الكشف، وعري الزمن، وقسوة اللغة وهي تفضح عبر استعاراتها صورة الشاعر ذاته، الكائن الخالد الذي ينحلّ في المرآة الى كائن متشظ، توهمه اسماء الاشارة في اكثر من قصيدة الى الدلالات الغائمة تعبيريا عن نقائض ذاته القديمة، حيث الموت والاشباح والابدية والحجر.
quot;هذه هي ابديتك/ لسان مقطوع/ في رسالة الصحراء الشفوية/ وهذا هوتاريخك/ يرميك في مزبلته/ وينتحرquot;.
قصائد هذا الكتاب الشعري اكثر ذاتوية في التعبير عن لحظته الشعرية الفارقة، واكثر أناة في التعبير عن اشتغالات نثريته العميقة، اذ يحضر الشاعر بوصفه الرائي والمعترف امام عالمه الذي يتكوم في الشواهد والاستعارات، والذي تنثال امامه الصور وكأنها سفره المثيولوجي الى اقاصي الوجود او اقاصي اللغة، يفضح فيها الشاعر بنوع من الانسنة غير المخاتلة، كل مايتعالق بالاشياء/ التفاصيل، والذات/ الاخر. هذه الانسنة تكشف ايضا عن صوت اخر في شعرية عبد القادر الجنابي حامل الفؤوس القديم، اذ يخلو هذا الصوت من قسوة الاب، كاشسفا عن عذوبة مفرطة، واحساس دافق بلذة الكائن وهو يرى وحدته، ويتلمس وجهه الشاحب، غبار لذته الفائح، نتوءات جلده وهي تصبح كماء المعاني الذي لاشكل لها الاّ باصطدام الاخر/ الصانع النرسيسي، او صانع الموت..
(الرملُ يُهيلُ سطوعَه/ انطفىءْ لكي تشتعلَ غداً/ كلُّ شيء دبّ فيه النوم/ ماذا يحملُ الغدُ سوى ندبة بلا أهداب/ المعاني كالماء لا شكلَ لها الا عندما يُقلقُها حجرٌ عابر).
رحلة قراءة قصائد هذا الكتاب الشعري اخذتني الى سحر كشوفاتها، الى شغف لذتها الفاجع والمريب، الى انسنتها الموحشة، حيث ينحلّ الشاعر عن لعبة خلوده القديم الى لعبة اكثر استيهاما، واكثر رعبا، فالشاعر يرى في مرآة نرسيسه (عش الموت) امام عشبة سحره العاطلة، وكأنهما يتبادلان الامكنة، مثلما يرى وجهه السائل وقد اضنكه العبور الى وهم الخلود. هذه الرؤية تكشف عن مهارة الشاعر الجنابي في بناء صوره الشعرية الباذخة والرشيقة، وتكثيف محمولها التعبيري بدلالات وعي الشاعر لثنائية الوجود والموت، فاللغة تنحلّ هنا في مستوى من الايحاءات النفسية والدلالية، لتسكنه فكرة مواجهة الشاعر لوحشة الموت، الموت الذي يعني موت النرسيس/ الذات، اوموت العالم الذي بدأ يفقد الكثير من كليته وسحره، والذي يقوده الى مايشبه الاستذكار، اوالاستعادة التي تجعله ينصت برعب تعويضي الى صوت الداخل الغريب، الصوت الواهن، المسكون بالتمتمات. هذه الاستعادة هي لعبة وعيه او احتجاجه على الموت، والتي يحولها الشاعرالى مكاشفة حادة يتعرى فيها الانسان والوجود، والى لعبة اعتراف نفصح عن الراسب اللاشعوري الكاشف عن تاريخ طويل من الانتهاكات الفاضحة، والتذكرات المدوخة، حيث التاريخ والبلد والحرب والمحو والعزلة، كلها تنثال مرة واحدة وكأنها وجوه شبحية اوكابوسية، لتمارس شغبها الدامي ازاء وجود الشاعر ووحدته، اذ تبادله القسوة وشحوب المرآة التي يغيب نرسيسها، ليحضر المحو/ محو الشاعر الذي ينثر كل الوصايا مع الغبار..
(رأسُك عشٌّ نائم أيّها الموتُ/ يستنشقُ بثور سُرّتها/ كم هو غريبٌ غناءُ الداخل/ نشربُ الألفاظ / تعلّمْ كيف تتكلّم بدون كلمات / السماءُ تبصقُ صورتها/ الحربُ ما أحلاها عندما تجعل تأريخك أطلالاً/ بلدٌ جالسٌ على مصطبة/ تشربُك المياهُ في شقوق الليل/ ماذا أفعلُ بماض يخشى الولادات/ العُزلة، هذا الوقارُ القاسي/ أيّها الماضي إنّك لم تمتْ/ أجدك واقفاً أمام الباب/ اترك، الوقتَ يولدُ دوماً/ وأخيراً/ للرياح هبوبٌ له قصدٌ/ محو أثر كلّ وصية على الأرض).