على يمينك، وأنت داخل من شارع الرمبلا، إلى مركز الأتينيو الثقافي في شارع كانودا، ستجد مكتبة خاصة تحمل اسم الشارع نفسه. مكتبة تجارية افتُتحت قبل تسعين عاماً، فأضحت جزءاً عضوياً لا ينفصل عن المركز والمنطقة.
مكتبة تبيع الكتب العتيقة، بأسعار معقولة ومخفّضة. وقد تربّت عليها، حتى الآن، أربعةُ أجيال متعاقبة من الإسبان والكتلان.
لا أعرف بالضبط ما الذي جرى، ولكني مررت عليها، آخر مرة، قبل ثلاثة أسابيع. ثم وقعتُ في طارىء صحيّ ألزمني الفراش والنوم في مشفى دل مار. ولما بدأت أتعافى، زارني صديقي الكاتب الفلسطيني بالكتلانية د. صلاح جمال أبو علي، وخرجنا نتنزّه، في اليوم الثاني لعيد الميلاد. مررنا على الأتينيو العريق [عمره 200 سنة] وتجوّلنا في طوابقه الخمسة وحديقته وأقسامه الأخرى، ثم نزلنا للشارع. فإذا بالصديق يشير إلى الباب المقفول ويفاجئني بقصة نهاية المكتبة واستبدالها بمتجر ملابس تافه، يتبع سلسلة متاجر [مانغو] في برشلونة، للمليونير إسحاق انديك. وأنا استنكرت ولم أستوعب، قائلاً له بأنني مررت عليها قبل مدة قريبة فقط، ولا يمكن أن يكون صحيحاً ما يقول.
فما كان من صديقي إلا أن سحبني من يدي ورأينا من خلل الواجهة الزجاجية التي كانت تعرض الكتب النادرة، فراغاً وتحضيراتٍ للعهد الجديد!
بالطبع، أعربَ كثيرون من المثقفين الكتلان عن غضبهم واستنكارهم، لغياب هذا الرمز الثقافي، الذي يشكّل علامة فارقة في ذاكرتهم وذاكرة المدينة. لكن الغضب والاستنكار، كما هي العادة في أوروبا الرأسمالية وغيرها، لا يصمدان طويلاً أمام جبروت المال. خاصة إذا كان مالكُهُ مثل [إنديك]، المولود في استانبول عام 43، والمستقرّ في برشلونة منذ عام 60. والذي له ألف محلّ مانغو في مختلف أنحاء العالم، ومن ضمنها عالمنا العربي.
وهكذا، يطلّ العام 2014، وتُغلق هذه المكتبة التاريخية، مرة واحدة وللأبد.
إنها العولمة المتوحشّة.
قساوة رأس المال.
وإنه الرماد والخذلان تحت لساني، رغم أنني كنت أتجوّل في أرجائها ومخزنها الداخلي الهائل، ولا أشتري، بحكم عدم امتلاك اللغتين بعدُ. إنما كنت لا أمرّ على الأتينيو لحاجةٍ ما، إلا ودخلتها كنوع من الائتناس والشعور بالألفة مع الورق العتيق.
وداعاً مكتبةَ كانودا.
الإستهلاك يزدهر على أشلاء الثقافة!