ظل الآخر المختلف أو المغاير من أبرز موضوعات الرواية العربية في القرن الماضي، عبر العديد من نماذجها الكلاسيكية التي عالجت هذه الثيمة، لاسيما في التجارب الروائية الرائدة؛ كرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، و(قنديل أم هاشم) ليحيى حقي. بالإضافة إلى روايات أخرى شكلت مرحلة مهمة في مدونة الإبداع الروائي العربي.
ومع انفتاح الكتابة الروائية العربية الجديدة على تجارب متعددة، وبيئات مختلفة تنوعت موضوعاتها لتلامس واقعا سائلا لحياة عربية سرّعت من تفاعلاتها مؤثراتٌ عالمية كبرى؛ كثورة الاتصالات والمعلومات، والعولمة. إلى جانب أحداث وتحولات اجتماعية وسياسية أخرى تركت انعكاسات واضحة على تعدد موضوعات التجريب الروائي المنبثق من تلك البيئات.
ولقد ظلت منطقة الخليج العربي إحدى البيئات التي شهدت كتابات جديدة في موضوعات الرواية العربية؛ فالخليج الذي شكل حاضنة للكثير من الأحداث والمتغيرات في بنية مجتمعاته، كان واقعاً حياً للتحولات على هامش الحراك الكبير لأسواق النفط والتجارة العالمية وما ارتبط بهما من هجرة، وانتقال للعمالة منح مجتمعاته فرصة للانفتاح على تجارب انسانية مختلفة و ملهمة للكثير من موضوعات الكتابة السردية.
ضمن هذه التجارب الروائية، ربما كانت رواية (ساق البامبو) للكاتب الكويتي الشاب (سعود السنعوسي) علامة فارقة حيال مقاربة السرد الروائي لموضوعات أكثر جرأةً وإشكاليةً في مجتمع الخليج ؛ موضوعات ظلت تتفاعل على هوامش ذلك المجتمع، وتندرج في إطار المسكوت عنه، لتبرز بجرأة ووضوح في العنوان الذي عالجته رواية (ساق البامبو) ورصدت من خلاله اختبارا حقيقياً لشرط التفاعل الانساني في ذلك المجتمع مع بعض قضاياه الإشكالية حين يواجهها عبر سرديات مغلقة تمتحن قدرته على الاتساق الأخلاقي والعقلاني حيالها.
فالرواية الحائزة على quot; البوكرquot; ( جائزة الرواية العربية) لهذا العام، قاربت موضوعا انسانياً بالغ الجرأة والحساسية، إذ جعلت من إشكالية (الآخر الحميم) في المجتمع الكويتي فضاءً لأحداثها، وقدمت من خلالها تجربة فنية عميقة الدلالة في الكشف عن سرديات العقل الجمعي حيال قبول (الآخر الحميم)، عبر فضح ما يختزنه ذلك المجتمع من تناقضات، وإشكالات تضعه مباشرة أمام أحد أهم القضايا الأخلاقية المتصلة بحقوق الانسان.
ذلك أن قضية (الآخر الحميم) من خلال هذه الرواية تعكس حالة إنسانية مأزومة لعلاقة الذات مع جزء منها ، حين تدرجه كآخر، مقدمة ً لنا، بذلك السلوك، تفسيرا فلسفيا لجدل الهوية بين الذات وآخرها الحميم.
فالآخر الحميم هو آخر خاص ومختلف عن الآخر المغاير؛ لأنه يشارك الذات إحدى خصائصها الجوهرية، كصلة القرابة مثلا، فيصبح بذلك : الآخر(الملتبس في اختلافه والملابس في تماثله. فهو التحدي والإشكال وهو التهديد الماثل دوما) لذا تحاول كل ذات، بوصفها تصورا مشتركاً للجماعة يعكس ارتباطه بـ(فكرة نوعية عن المطابقة) مع سرديات تلك الجماعة ؛ تحاول باستمرار إثبات اختلافها عن آخرها الحميم عبر نفيه وتغييبه لأن في وجوده أمامها تذكيرا لها بذلك الشبه.
ولهذا تتحصن الذات وراء سردياتها المتعلقة بالأصل الواحد، والسمات الواحدة لتشكل بتلك التصورات ملاذا يمنحها احساساً بالتماهي مع ذلك الأصل النقي ذي السمات الصافية، نافيةً عنها كل آخر حميم يلابسها في جوهر ما، ويختلف عنها في الوقت عينه.
هكذا إذ تطرح رواية (ساق البامبو) بطلها (هوزيه / عيسى) الفلبيني /الكويتي بطلا إشكاليا لموضوعها إنما تطرح، في الوقت نفسه، جدلا عميقاً بين سرديات المجتمع وبين شرطه الإنساني حين يقف نقيضا لتلك السرديات. ومن خلال ذلك الجدل تنتصر السرديات على الشرط الانساني للمجتمع؛ فـالسرديات بما هي : (تنميط ثقافي يتعلَّق برؤيةِ جماعةٍ من الجماعات لعناصرها وتاريخها ولرؤيتها لغيرها من الجماعات) تكتسب مرجعية رمزية كبرى في ردود أفعال أفراد المجتمع وهم يواجهون آخرا حميما يشاطرهم جوهرا مشتركا.
ففيما كان على (هوزيه /عيسى)، ثمرة الزواج العرفي بين الخادمة الفلبينية (جوزافين) و(راشد الطاروف)، أن يتحمل صدمات مريرة طوال حياته ، بسبب ذلك الزواج؛ كان على أبيه ــ الذي مات بعد ذلك بسنوات أثناء مقاومته الاحتلال العراقي للكويت ــ أن يدفع ثمنا باهظا لزواجه من (جوزفين) المثقفة، منتصرا بذلك لثقافته وإنسانيته، ومتجاوزا لحيثيته العائلية العريقة في الكويت.
كان الثمن : خضوعه لضغوط والدته (غنيمة) التي رأت في ولادة (هوزيه / عيسى) شؤما حل بالعائلة، ولا خلاص منه إلا بطلاق راشد لـ(جوزافين) ــ رغم حبه لها ــ وترحيلها مع طفلها إلى (مانيلا) مع وعد منه لـ(جوزافين) باستعادة ابنه للكويت حين يكبر.
وبالرغم من أن (جوزافين) تتفهم تصرف راشد لمعرفتها بطبيعة المجتمع الذي عملت فيه؛ إلا أنها تفسر لابنها (هوزيه عيسى) بما يشبه الانذار المبكر تلك الحقيقة قائلة : (لم يكن في يد ابيك لأن مجتمعا بأكمله يقف وراءه)
حين يعود (هوزيه / عيسى)، بعد ثمانية عشر عاما، إلى الكويت بتدبير من (غسان) تحقيقا لوعد قطعه هذا الأخير لصديقه (راشد) قبل موته ، تستشعر الجدة (غنيمة) عودة الشؤم، مرة أخرى، إلى العائلة مع مجيئ (هوزيه / عيسى). مع يقينها التام بأن (غسان) حين جلب (هوزيه /عيسى) للكويت إنما أراد الانتقام من عائلة (الطاروف) التي رفضت تزويجه بـ(هند) أخت صديقه، لأنه من (البدون).
ومن خلال أحداث الرواية يخضع (هوزيه / عيسى) لتناقضات وضغوط نفسية من عائلة (الطاروف)، يصبح عاجزاً عن تفسيرها لأنها تعيق باستمرار اندماجه في العائلة. والسبب هو : أن ملامحه الفلبينية الصارخة ستصيب عائلة (الطاروف) بفضيحة كبرى أمام المجتمع إذا عرف حقيقته؛ فتلك الملامح وما تثيره من فضيحة هي التي تمنع قبوله عضوا في عائلته التي ينتمي اليها !.
وعندما يسأل (هوزيه /عيسى) غسان متعجبا من هذا الوضع : (ما شأن الناس بقبولي عند أهلي وكيف سيعرف الناس بحكايتي) يجيبه غسان : (كلام الناس هنا سلطة. ثم انها ليست حكايتك، هي حكاية عائلة الطاروف. الكل سيعلم بالأمر فالكويت صغيرة)
وبين حاجة (عائلة الطاروف) المُلِحَّة إلى ذكر يحمل اسمها بعد وفاة (راشد) ــ الابن الوحيد لعيسى الطاروف ــ تاركاً ابنه الوحيد (هوزيه / عيسى) غير المرغوب فيه، رغم أنه الذكر المتبقي من سلالة (الطاروف) يتكشف مأزق العائلة وتناقضها الأصلي فتضطر العائلة إلى قبوله على مضض ضمن وجود سري، بصفته خادما فلبينياً ؟!
هكذا تتحول أمنية الجدة (غنيمة) إلى نقيضها؛ فمنذ أن قالت لابنها (راشد)، قبل زواجه من (جوزافين) : (أريد أن ارى ذريتك قبل أن اموت) تحول هذا الموت إلى أمنية معكوسة بسبب الذرية ذاتها بقول (راشد) متحسرا، لـ(جوزافين) : (فور ذهابي لزيارتها مع عيسى شعرت بها تتمنى الموت قبل أن ترى هذه الذرية)
لقد أدرك (هوزيه / عيسى) الذي عاش بأسماء عديدة، منها ((Arabo في الفلبين، و(عيسى) في الكويت، أن مجرد يوميات حياته وعاديتها في الكويت ستصبح أشبه بحياة ضد معنى حياته كإنسان ، وضد الاحساس بالحياة ذاتها. لكنه تحمل ذلك على أمل أن يصبح ذات يوم فردا عاديا في عائله (الطاروف) .
ذلك أن فكرة عدم تقبل عائلة (الطاروف) له كأحد أعضائها أو جزءً رسميا منها لا تتصل أسبابها بعدم كونه ابنا لراشد عيسى الطاروف مثلا، ولا لحقيقة الاقتناع بهذه البنوة من قبل العائلة، وهذا ما جعله يأمل في تغير مشاعر أفراد العائلة تجاهه وعلى رأسهم (الجدة غنيمة). بيد أن (هوزيه / عيسى) أدرك لاحقا أن تلك المشاعر موجودة لكنها مقموعة فحسب، حين تفاجأ كثيرا ببكاء جدته ونحيبها، بمجرد سماع صوته أول مرة، لأن صوت حفيدها ذكرها بصوت وحيدها المرحوم راشد. حينها أدرك (هوزيه / عيسى) الضريبة الباهظة لذلك الاعتراف السري؛ إذ تجلى له بوضوح الصراع المكتوم بين الحقيقة والمظهر، وبين السمعة والاعتراف، كما بين العاطفة والموقف. لكن مع ذلك، في النهاية تنتصر السمعة على الاعتراف، والمظهر على الحقيقة، والموقف على العاطفة.
وتكمن المفارقة وانعكاساتها المريرة في نفس (هوزيه / عيسى) حين يقارن تناقضات حياته في الكويت مع حياته الأولى في الفلبين بأرض جده (ميندوزا) فعائلة جده التي شهدت تعايشا حميما رغم علاقات الغرابة الغامضة بين أفرادها؛ مثل (ميرلا) ابنة خالته (آيدا) التي يعرف الجميع أنها بلا أب، رغم ملامحها الأوربية، وكذلك نعت جده الصريح له ولابنة خالته (ميرلا) بـ(مجهولي الآباء) مباشرة لتكون بعد ذلك المفاجأة التي يكتشفها (جوزيه / عيسى) نفسه بعد وفاة جده (ميندوزا) : أن جده عاش حياته بلا اب، ثم يعرف سر العجوز الغامضة (اينانغ تشولينغ) التي تسكن معهم في أرض (ميندوزا) فهي أيضا أم جده. يعرف (هوزيه / عيسى) كل تلك المفاجآت خلال أيام، دون أن يكترث أحد من أفراد عائلته فضلا عن أهل الحي من حولهم، ناهيك عن المجتمع ؟
لقد شكلت تجربة الحياة السابقة لـ(هوزيه / عيسى) في الفلبين استعدادا لتقبل الآخر، ليس فقط من خلال العيش في (آل ميندوزا) بل كذلك لنفسيته المنفتحة على أكثر من دين، وأكثر من اسم، وأكثر من وطن.
وبموازاة تلك الحياة الحميمة في الفلبين ظن (هوزيه /عيسى) أن حياته في الكويت ستكون أكثر تقبلا وانفتاحا لأنه سيعود إلى أهله مستلهما ما رسمته له أمه من وعد بالمستقبل في الكويت، مع نبوءة حكيم الفلبين وبطلها القومي (خوسيه ريزال) في قوله : (ان الذي لا يستطيع النظر وراءه، إلى المكان الذي جاء منه، سوف لن يصل إلى وجهته أبداً) ليجد نفسه أمام المكان الخطأ؛ فليس المكان الذي عناه (خوسيه ريزال) هو الكويت، بل هو (الفلبين). لهذا يقول (هوزيه / عيسى) : (حسبت الكويت مكاناً جئت منه حين ولدت فيه، ليكون وجهتي التي قررت الوصول إليها بعد غياب... ولكن حين نظرت ورائي لم أجد سوى الفلبين.. مانيلا... فالنسويللا... أرض ميندوزا !) فيصبح بعد ذلك، في الكويت، عاجزا حتى عن التصالح مع ذاته.
فهنا في الكويت، حيث افترض (هوزيه / عيسى) الاتساق والتماهي مع عائلته الواحدة المتماسكة كنقيض لعائلته المفككة في الفلبين؛ تقف سرديات العائلة والمجتمع سدا منيعا حيال قبوله كآخر حميم؛ فالسبب الذي جعل (هوزيه /عيسى) حريصا على انتماءه حيث يكون، هنا في الكويت، هو عين السبب الذي جعل عائلة (الطاروف) حريصة على تجريده من ذلك الانتماء، ومنعه ذلك الاستحقاق، بفعل سيف السمعة المسلول إلى درجة وضعت أفرادها في تناقضات جوهرية مع قناعاتهم؛ كحال (هند الطاروف) عمة (هوزيه / عيسى) التي، رغم شهرتها ككاتبة وناشطة في حقوق الانسان، ومرشحة في الانتخابات، وجدت نفسها عاجزة أمام تقديم موقف داعم لاستحقاق انتماء ابن أخيها (هوزيه / عيسى) إلى عائلته !؟.
بيد أن المصائر المختلفة التي يرسمها الكاتب لأبطال الرواية، تتكشف عن تلازم قدري بين الاسم والمسمى؛ فكلمة (الطاروف) التي تعني : (شبكة يستخدمها الكويتيون لصيد السمك) هي عنوان توصيفي لحال هذه العائلة التي أصبحت مسمى دالا على ذلك الاسم نتيجةً لوقوعها في تناقضات جعلت منها رهينة لسمعتها حيال المجتمع، إلى درجة تنكرت فيها لفرد من أفرادها لمجرد اختلاف سحنته عن مواصفات الوجوه النمطية لأبناء العوائل الكبيرة في الكويت ؛ لهذا تعترف (خولة) اخت (هوزيه / عيسى) من أبيه، حين تبوح له بمأزق العائلة العالقة في تلك الشبكة قائلة : (نحن أفراد العائلة عالقون بهذا الطاروف، عالقون باسم عائلتنا لا نستطيع تحرير أنفسنا منه وليس باستطاعتنا الحركة إلا بمقدار ما تسمح به هذه الشبكة. أنت الوحيد ياعيسى سمكة صغيرة قادرة على الولوج في فتحات الطاروف من دون أن تعلق في خيوطه الشفافة.. عيسى ! أنت محظوظ.... أنت حر)
لقد واجه بطل الرواية (هوزيه / عيسى) حياة مقتلعة، لم تجعله يوما من الأيام مطمئنا إلى معنى الاستقرار. لهذا شعر دائما بنفسه عالقا في حياة عدمية، لم يجد لها معنى (لو فُقستُ من بيضة ذبابة منزلية.. أعيث في البيت فسادا... أشيخ بعد عشرة أيام ثم استسلم للموت بعد أسبوعين كأقصى حد... لو كنت شيئا.. أي شيء واضح المعالم... لو... لو... لو.. أي تيه هذا الذي أنا فيه ؟)
وبفعل ذلك الاقتلاع استعان (هوزيه /عيسى) بالمطلق حين عجز عن التجسد في حياة ذات معنى، فتمثل حال الأنبياء والأبطال والزهاد من أمثال المسيح عليه السلام، وخوسيه ريزال (بطل الفلبين القومي وحكيمها ) وحتى بوذا. كما تمثل الطبيعة كملاذ وحيد لحالته النفسية المغتربة، مسقطا احساسه بالاقتلاع على أشجار (البامبو) التي تنبت في كل أرض، وتقتلع من كل مكان (لو كنت مثل شجرة بامبو لا انتماء لها تقتطع جزءا من ساقها تغرسه بلا جذور في أي أرض) ...(أحببت المسيح حتى أصبحت أراه في أحلامي)....(أجد ذاتي ورغبتي الدائمة في التوحد مع الطبيعة والتصاقي بالأشجار حتى أوشك أن افقد حواسي التي هي مصدر المعاناة، كما يقول بوذا في تعاليمه، تلك التعاليم التي أدمنت قراءتها حتى خلتني quot; أناندا quot; أحب تلاميذ بوذا إليه)
كانت الهوية مأزقا للذات قبل أن يأتي (هوزيه / عيسى) إلى الكويت ليواجه ذاته المقتلعة من جديد. لذلك لم يتحمل (هوزيه / عيسى) ضغط التناقضات التي خاف منها على سلامة عقله فالعيش وفق هذه الوتيرة كان تدميرا متوحشا لمعنى الحياة التي افترضها في الكويت.
لقد بدا الآخر الحميم، ممثلا في شخصية (هوزيه / عيسى) هاجسا مقيما في فضاء هذه الرواية. وكشف عن تناقضات ما كان لها أن تتكشف إلا عبر هذه التجربة السردية الفريدة التي جعلها الكاتب (سعود السنعوسي) مرآة تتجلى فيها تناقضات الذات حين تواجه آخرها الحميم بهويتها المختلفة عنه؛ إذ عادة ما (يرتبط سؤال الآخر ارتباطا تكامليا بسؤال الهوية نتيجة لعبة الاختلاف، فعلى أساس اختلافها تفترض أن لها معنى ايجابيا من خلال ما تستبعده) في ذلك الآخر ! لأن (الآخر هو مايكمن خارج عالم quot; ثقافتنا quot; وجماعتنا)
وإذ عاش (راشد الطاروف) حياته القصيرة دون أن يتم روايته الوحيدة، كما عجزت ابنته (خولة) عن اتمام رواية ابيها، رغم شغفها بالقصص والروايات؛ وجد (هوزيه عيسى) نفسه موضوعا ملهما لتلك الرواية وكاتبا لها في الوقت نفسه ليتحرر بفعل الكتابة من ضغوط وتناقضات حياته في الكويت. فبدأ، تحت الحاح اخته (خوله) بكتابة الفصل الأول من روايته في الكويت، طالبا من صديقه الفلبيني المقيم في الكويت (ابراهيم سلام) ترجمة الفصل.
وحين أدرك (هوزيه /عيسى) أن حياته في الكويت تلفظه لأن عائلته عالقة في حياة أخرى عجز عن تفسير تناقضاتها تجاهه بكل ما أوتي من عقل وضمير، قرر أن يعود إلى الفلبين للزواج من ابنة خالته (ميرلا) الجميلة التي أحبها وخاف عليها من الضياع مثله.
وفي ختام الرواية يرسم (المؤلف) مشهدا مؤثرا : (هوزيه /عيسى) في منزله في الفلبين مع زوجته (ميرلا) وابنه الصغير راشد، أثناء متابعته لمباراة تصفيات كأس العالم 2011م بين كل من منتخبي الفلبين والكويت، وأمام تداعيات ملتبسة حيال مشاعره بين الفريقين يردد (هوزيه /عيسى) مع كل فريق نشيده الوطني، لينسحب بعد ذلك من مشاهدة المباراة أثناء تعادل الفريقين، وقبل نهايتها، محدقا في أسارير طفله (راشد) ذات الملامح العربية السمراء التي تشبه ملامح وجوه (آل الطاروف) لاسيما وجه : (راشد عيسى الطاروف)؛ تلك الملامح التي خذلت (هوزيه / عيسى) وجعلته منبوذا من قبل عائلة (الطاروف).
في الصفحة الأخيرة تختم رواية (ساق البامبو) أحداثها بمشهد ضمّن فيه المؤلف بذكاء علامات خفية تحيل على تفاهة الذات حين تقيس فضلها على آخرها الحميم بما تختلف به عنه من الصور النمطية، ومن ثم تنحو إلى تهميشه ونبذه، حتى لو كان هذا الآخر آخرا حميما؛ حيث بدا واضحا أن رقم الدقيقة (61) التي أحرز فيها لاعب المنتخب الكويتي (يوسف ناصر) هدف التعادل، إنما هو توقيت لإشارة التكافؤ والتعادل الذي يسوي بين الفريقين ويجعل من اختلافهما مدعاة للتعارف والتفاعل الايجابي، عبر الروح الرياضية التي تمنح التنافس بين الذوات معناه الانساني النبيل.
ترى هل كان اعتراف آل (ميندوزا) وتقبلهم لاختلاف أفرادهم، بالرغم من الأسرار المهملة حيال أصولهم الغامضة؛ أكثر انسانية وتقدما من إنكار ورفض (آل الطاروف) لفرد منهم كانوا في أشد الحاجة إليه لحمل ذلك الاسم ؟
هكذا ربما كان في مقولة الفيلسوف الفرنسي الكبيربول ريكور : (الذات عينها كآخر) ما يفتح آفاقاً سامية ً للتسامح؛ حاولت هذه الرواية البديعة لـ(سعود السنعوسي) أن تحيل عليها، كاشفة بذلك عن تناقضات السرديات المتوهمة؛ تلك التي لا يبررها دين ولا عقل ولا ضمير.
مراجع