كان واضحا منذ البداية أن هبة سبتمبر الماضي التي انتظمت في مظاهرات الشعب السوداني ضد النظام في الخرطوم وفي العديد من المدن السودانية، لن تمر دون ثمن، ليس فقط لاستحالة أن يظل الوضع كما كان من قبلها، بل كذلك لأن النظام في الخرطوم كان قد وصل إلى أسوأ المراحل التي كشفت عن تناقضاته بعد ذلك؛ فانشق عنه بعض رموزه المعروفة كمجموعة الأستاذ غازي صلاح الدين، ومجموعة الحركة الوطنية للتغيير.

وهكذا فإن إعلان الحكومة الجديدة التي سقط عنها أبرز رموز نظام الإنقاذ خلال ربع قرن تقريبا من أمثال النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه؛ الرجل الثاني في الحركة الاسلامية بعد د. حسن الترابي. ونافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية سيئ الصيت وصاحب الملف الأسود في قضايا تعذيب المعارضين إبان توليه رئاسة جهاز الأمن ثم وزير النفط عوض أحمد الجاز المتحكم الأول في المسار الاقتصادي للنظام على 15 عاما؛ كل ذلك السقوط المدوي لهؤلاء الثلاثة كان بمثابة الزلزال الكبير الذي كشف عن أن مايجري الآن في ترتيبات التغيير الحكومي التي شملت 11 وزيرا في الحكومة السابقة، هو في الحقيقة الدفعة الأولى من استحقاقات تداعيات انهيار النظام.
وبالرغم من أن الناطق الرسمي باسم الحكومة (ربيع عبد العاطي) قال أن هذه الحكومة حكومة مؤقتة لحين اجراءات الانتخابات في بداية العام القادم 2014م فما يبدو من هذا التكتيك ربما كان ترتيبا مؤقتا قد يمهد لعودة تلك الرموز مرة أخرى عبر مناصب جديدة في حكومة ما بعد الانتخابات التي ستؤول بطبيعة الحال ــ عبر التزوير المتوقع ــ مرة أخرى إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
في مثل هذه اللحظات جاءت تصريحات الدكتور يوسف القرضاوي ــ وفقا لما نقلته عنه صحيفة (المصري اليوم) في عددها ليوم الاثنين 9/12/2013م ــ حول طبيعة ووضع نظام الخرطوم لتضفي شرعية كاذبة لهذا النظام المجرم. فتصريحات القرضاوي بوصفه الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين وتصريحات نائبه د. علي محي الدين القره داغي في ختام مؤتمر الاتحاد الذي انعقد بالدوحة مؤخرا كانت بمثابة صك شرعية جديد لهذا النظام المجرم، وهذه الشرعية التي عبر عنها كل من القرضاوي ونائبه تثمل استفزازا للشعب السوداني، وعدم احترام لدماء شهدائه التي سالت في هبة سبتمبر الماضي للمطالبة بالخلاص من هذا النظام الذي أفسد وسمم الحياة في السودان على مدى ربع قرن من الخراب.
قال القرضاوي ردا على سؤال حول النظام السوداني (نحن محتاجون إلى انتخابات حرة في السودان ولسنا في حاجة إلى أن نغير الوضع، فالوضع الآن هو جيد ونريد أن تجرى انتخابات حرة يختار فيها الناس أصلح من يحكمهم وهذه هي القضية التي نحرص عليها نحن).
ولعل المفارقة هنا هو في قول القرضاوي بأن الوضع في السودان (جيد) ولا يحتاج إلا الى انتخابات حرة نزيهة.
فكل الذين تابعوا مجريات الانتخابات التي فاز فيها البشير منذ التسعينات يعرفون أنها انتخابات مزورة، وأنها إنما كانت لذر الرماد في العيون للقبول بالأمر الواقع الذي أدى إلى جعل السودان في قائمة الدول الأكثر فشلا، بعد انقسامه، وبحسب تقارير دولية في هذا الصدد.
أما نائبه القره داغي فقد قال عن انقلاب البشير الذي تمت بموجبه اغتيال الديمقراطية في العام 1989م قال (منذ متى وقع انقلاب السودان قبل 25 سنة؟ لقد سقط بالتقادم) ثم أضاف (لتقادم 3 سنوات وأقصى شيء 15 سنة، معظم الحكومات العربية والإسلامية قامت على الانقلاب منذ 50 سنة في سوريا والعراق وغيرها) والمحير في أمر هذه التصريحات من قبل القرضاوي ونائبه، أنها تنطوي على خفة واستفزاز وجهل بطبيعة الوضع في السودان، والصدور عن رؤية منفصلة عن الواقع ومغرقة في التجريد، بل مؤذية أيما إيذاء؛ لأنها توحي للكثير من عوام المسلمين والمسحورين بإعلام قناة الجزيرة أنها تصريحات تحمل في معناها حكم قيمة لأنها صدرت من شخصيات ومشايخ معروفين في الساحة الإسلامية. فبأي منطق يريد أن يفهمنا هذا القره داغي : أن الانقلاب سقط بالتقادم ؟ وأنه ليس بجريمة قامت على سرقة حقوق الشعب ومصادرة رغبته في اختيار من يحكمه؟ ثم اليس هذا الخراب العميم الذي يتخبط فيه السودان هو نتيجة أساسية للانقلاب بوصفه عنفا وسرقة للسلطة، وتعميما للقمع والإكراه ومصادرة الحريات ؟ وهل في استشهاده بالأنظمة الانقلابية في كل من العراق وسوريا ما يسوغ له حكم قيمة وصحة في تصوره ؟ ان مثل هذه التصريحات الفجة والخفيفة والمستفزة ليست سوى تدخل سافر من مشائخ تحركهم أجندة سياسية، وليست دينية أو حتى شرعية. وإلا كيف يمكننا فرزها عن التوقيت الذي توافقت فيه مع التغيير الحكومي في السودان. ذلك أن مثل هذه التصريحات، فضلا عن استفزازها، أنها تصدر عن أشخاص تأخذ آراءهم طابعا دينيا وشرعيا في ذهنية العوام، ويتلقفها النظام السوداني ليمرر عبرها شرعية موهومة لشخص مثل البشير الذي هو رأس الخراب الكبير في السودان.... فليقل هؤلاء المشايخ خيرا أو ليصمتوا.