كل من تابع المؤتمر الصحفي البائس لرأس النظام في الخرطوم عمر البشير، يوم الأحد الماضي 22/ 9/ 2013م، على خلفية قرارات رفع الدعم عن أسعار المحروقات، والطريقة المستفزة التي تحدث بها البشير، وما صاحبها من اضطراب كشف عن تخبطه في توصيف الأزمة، وهروبه من الواقع المزري للشعب السوداني منذ أكثر من ربع قرن، وحديثه الأرعن الممجوج عن الأسباب الغيبية للرزق بترديده الجاهل للآية الكريمة (وفي السماء رزقكم وماتوعدون) في تهرب واضح من الأسباب الزمنية للأزمة الاقتصادية والأزمات الأخرى التي أنتجها نظامه كل من تأمل حديث البشير في ذلك المؤتمر تتجلى له بوضوح أن الثورة تدق أبواب السودان لا محالة. فقد بدا واضحا وجليا أن هذا الرئيس أضعف وأذل من أن يفعل خيرا لشعبه، أو يوقف الانهيار السريع الذي وصل بالسودان لحافة الهاوية بسبب فساد نظام حزب المؤتمر الوطني الحاكم طوال ربع قرن.

وبالرغم من أن الصحف (التي معظم رؤساء تحريرها من منسوبي المؤتمر الوطني) وبعض وسائل الإعلام السودانية تكهنت بأن البشير اعتكف منذ مدة للخروج على الشعب بمبادرة شجاعة للتخلص من الطبقة السياسية الفاسدة، لاسيما المجموعة المتشددة، والمؤدلجة من أمثال (نافع علي نافع) نائب الرئيس لشؤون الحزب؛ إلا أنه كان واضحا أن مأزق الرئيس أكبر من ذلك بكثير، وأن كلامه الكثير والمتناقض ــ الذي يمحو بعضه بعضا ــ في مختلف القضايا؛ هذه المرة لن يكون مجديا. وهكذا جاء حديثه في المؤتمر الصحفي بعكس ماتوقعته وسائل الإعلام؛ إذ أكد البشير أن رفع الدعم عن المحروقات تأخر كثيرا، وأن حكومتة حاربت الفساد، وأنها أفضل حكومة قدمت لشعبها نظام تأمين صحي أفضل من دول كثيرة في المنطقة؛ وغير ذلك من الأكاذيب التي لا يصدقها طفل.
لهذا كله كان واضحا أن البشير ــ وبعد ربع قرن ــ عاد مرة أخرى ليزايد بالشعارات والآيدلوجيا؛ كحال أي دكتاتور يتهرب من الواقع، ويتعامى عن الأزمات الطاحنة التي تسحق شعبه. لكن ما لم يدركه البشير وهو في هذه الحالة التعيسة من الانفصال عن الواقع : أن مثل هذه الشعارات بعد ربع قرن من تجريبها الذي أدى إلى خراب السودان، وتقسيمه إلى دولتين، والحروب الأهلية، والفقر والجوع، والمرض، والتشرد والهجرة لمعظم كفاءات الوطن؛ أصبح الآن وأمام الشعب هو الطريق الملكي للثورة التي ستطيح به وبنظامه.
ذلك أن حيثيات الثورة اليوم في السودان أصبحت بين حدين أقصيين ستنفجر معهما التناقضات بصورة واضحة جدا في مستقبل الأيام؛ فمن جهة تأكد تماما للشعب (الذي طالما خدعته وسائل الإعلام بأن الرئيس رجل طيب وأن من حوله هم الفاسدون) أن هذا الرئيس بإعلانه لتلك القرارات، التي زعم أنها تأخرت طويلا، لا يكن له ذرة من احترام، ولا نية من خير، وأنه رئيس لا يملك من أمره شيئا، وأن قراره ليس بيده. وهذا اليقين هو الذي سيقطع خيط الوهم الأخير للشعب عن البشير. ومن ناحية ثانية فإن قرار رفع الدعم عن المحروقات هو بمثابة القشة الأخيرة التي ستجعل الشعب مكشوفا في العراء وعاجزا عجزا مطلقا عن تدبير أحوال الفقر المدقع التي ظل عليها بنسبة بلغت 46% من مجموعه، بعد أن بلغ غلاء المعيشة الحد الذي يفوق الصبر والاحتمال لسنوات طويلة. ولأن كل المعطيات تشير إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة أصبحت منفصلة عن أحوال الشعب وأزماته الطاحنة فقد جاءت تصريحات بعض وزراء الرئيس ممعنة في السخرية من الشعب وبالغة الإهانته بتصريحات كافية بذاتها للثورة على النظام.
فهذا مصطفى عثمان اسماعيل وزير الاستثمار وصف الشعب السوداني ذات مرة بأنه كان (مثل الشحاذين)*. أما وزير المالية علي محمود فقد قال متهكما: (إن الشعب السوداني يرفض التقشف بعد حياة الرفاهية) ليأتي البشير في مؤتمره الصحفي الأخير مؤكدا لهذه الاستفزازات، ومتحديا لشعبه حين قال من قبل (أتحدى أي زول إن كان يعرف الهوت دوق قبل مجئ حكومة الإنقاذ) لقد بدا حديث البشير في المؤتمر الصحفي أشبه بمن يدافع عن أخطائه وخطاياه من خلال الاستجابة لتفاعلات العقل الباطن، ففي حديثه عن الثقافة بأنها مشروع نظامه في مواجهة النزعات القبلية والعنصرية التي تفشت في المجتمع نسي البشير أن نظامه هو سبب هذه النزعات العنصرية التي أفسدت المجتمع في ظل حكمه لربع قرن من الزمن.
ولو أردنا المقارنة في تحمل المسؤوليات واتخاذ القرارات الصعبة إلى جانب الشعب؛ يمكننا قياس استفزاز البشير ووزرائه وإهانتهم للشعب السوداني، بما قام به رئيس جنوب السودان القائد سلفا كير الذي اتخذ قرارات صعبة وشجاعة؛ بتجريد كبار رموز الطبقة السياسية الفاسدة وتقديمهم للمحاكمة وهي رموز شملت نائبه في الدولة (ريك مشار) والأمين العام للحزب الحاكم (باقان أموم).
فسلفا كير الذي طالما ظل يردد في أكثر خطاباته اهتمامه ببناء أمته كان أشجع من البشير وأصدق وعدا في السير قدما من أجل شعبه.
لكل ذلك، وكما قلنا من قبل في مقال سابق: بما أن المأزق الحقيقي سيظل في الدولة الشمالية؛ تبدو اليوم نذر الثورة واضحة في وجه نظام الخرطوم.