يولد الانسان منتميا، الانتماء قدر، وليس هناك تصور لإنسان بلا انتماء في هذا العالم، كما أن الانتماء ــ في جزء منه ــ ذا جانب جبري متصل بما يجد الانسان نفسه عليه: أمه، أبوه، قبيلته، لونه. بيد أن السؤال الجوهري هو: كيف يمكننا تحرير الانتماء والتحلل من أشكاله المؤذية والمفضية للتعصب والتحيز السلبي وما يجران إليه من خلاف ومشاكل وعنف ؟ لن يكون ذلك إلا بالمعرفة، والتأمل العميق في ما هو متصل بقدرتنا على أن نكون أحرارا في تكييف انتماءاتنا تكييفا موضوعيا وإنسانيا. هذه مهمة بالطبع لا تخلو من صعوبة، ومن خيارات.
ولعل أبرز الإشكالات التي تواجه تحرير الانتماء هي: الوعي النسقي القبلي والطائفي، أي ذلك المتخيل الجمعي المفترض من قبل أفراد القبيلة أو الطائفة عن نفسها، والذي بالضرورة يتمثل كل الفضائل والقيم في تصوره للقبيلة باعتبارها جماعة معصومة. لكن ما يغيب عن الكثيرين أن خيارات الأفراد وسلوكياتهم لا يمكن أن تكون كلها ــ من حيث كونهم أفرادا ــ متطابقة مع التصورات المثالية لذلك المتخيل الجمعي المشترك للقبيلة. وهنا حين تقع بعض أخطاء الأفراد من قبيلة ما تجاه قبيلة أخرى ينحاز الوعي الجمعي للقبيلة إلى اصطفاف ضروري مع ذلك العضو من أعضاءها، مسقطا حالة جماعية ومثالية عن القبيلة على تصرف ذلك الفرد. وهذا تماما مادل عليه القول العربي الجاهلي المأثور (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) والذي أعاد الإسلام تعريفه بصورة إيجابية.
هذه المقدمة ربما كانت ضرورية في مقاربتنا لفكرة الانتماء، والتي هي في مجتمعاتنا ترتبط بالقبيلة والطائفة على الأغلب، وتنعكس منهما على الممارسات الحزبية والتنظيمية. إن قدرتنا على التكييف الإيجابي للجانب الإرادي من معنى الانتماء هي التي تمنحنا موقفا أخلاقيا وإنسانيا، وهي بالتالي ما سيسهم في الرقي بمجتمعنا وانتماءاتنا إلى ضفاف أكثر وعيا، وإدراكا، وتسامحا.
فالوعي الجمعي للقبيلة أو للطائفة مثلا، إذ يتوهم قدرات أفراده ونبوغهم وتميزهم بردها إلى خصيصة حصرية جمعية للقبيلة؛ إنما يمارس تجييرا تضليلا خبيثا لفكرة الانتماء ومن ثم يقع في تناقض واضح؛ هو: أن قدرات الأفراد وقابليتهم للتميز هي قدرات تولد معهم؛ أي أنها قدرات ومؤهلات ذات طابع انساني عابر للقبائل من حيث قابليتها بأن تكون في أي فرد من أي قبيلة، وليس لها علاقة لقبيلة بعينها دون غيرها. لكن ما يصرف هذا الشرط الضروري في انسانية الانتماء عن أذهان الكثيرين هو الوعي القبلي حين يعيد تعريف أصحاب تلك المواهب والقدرات والحيثيات من أفراد قبيلته، بوصفها خصائص خاصة بالقبيلة فيجردها بالتالي عن طابعها الانساني العام. وهذا الالتباس بين ما هو فطري وانساني أي بين ما هو قابل للتشارك بين الجميع؛ وبين ما هو نسقي ومحدود في الوعي القبلي هو سبب كل المشكلات التي تنشأ بين الناس عندما يغطي انتماؤهم المتعصب على وعيهم الفردي والإنساني.
وهكذا يحدد الوعي النسقي القبلي آفاق المواهب الإنسانية إذ يعيد تعريفها بتلك الصورة المتخلفة فيجعل العلاقة بين أصحابها علاقة عداء وتنافر. يصح الأمر أيضا على الانتماءات الأخرى؛ كالانتماءات الطائفية والحزبية الآيدلوجية وغيرها. يمكننا القول أيضا أن طريقة اشتعال الوعي النسقي، سواء أكان طائفيا، أو قبليا أو حزبيا تلتف باستمرار وخبث على الكثير من مقاربات المعرفة التي تحاول اختراق نسق الوعي القبلي والطائفي إلى آفاق العلاقات الوطنية والإنسانية بالتعليم والإعلام، والثقافة. ذلك أن التعليم حين ينفصل عن فلسفته الجوهرية في تطوير قدرات الوعي الانساني واستقلالها، وينحصر في العلاقة التقنية للعلوم بوصفها تخصصات حيادية، يصبح ــ دون أن يدري أو لا يدري ــ أسيرا للوعي النسقي بوصفة أمرا واقعا للصورة الذهنية للانتماء الذي غالبا ما يكون انتماء طائفيا أو قبليا وهكذا سنرى أن تحرير الانتماء من أشكال الوعي النسقي ليس فقط ضرورة لإعادة وموضعة الانتماء في مكانه الصحيح ضمن الشروط الذاتية المنفكة عن الشروط الموضوعية للفضاء العام؛ بل وكذلك ضرورة لاتساق الفرد مع قناعاته وخياراته الموضوعية. ذلك أن واقعنا في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا، يخضع لنمط الوعي النسقي بطريقة معكوسة من خلال تحويل فضاء الخيارات الشخصية إلى التزام جمعي تفرضه القبيلة أو الطائفة بصورة أصلية، ويفرضه الحزب أو التنظيم بصورة اعتبارية، فيما تتحول المفاهيم المركزية الناظمة لسوية الحياة العامة؛ كالحرية، والقانون، والوعي، والمسؤولية الأخلاقية العامة للفرد ــ بحسب ذلك الوعي ــ إلى مفاهيم نسبية وذاتية، وبالتالي فإن خيارات الالتزام حيالها بوصفها ضرورات منهجية في الفضاء العام تصبح بعيدة عن دائرة المسؤولية الفردية ومن ثم يمكن التحلل من الالتزام بها في مقابل إكراهات الوعي النسقي القبلي والطائفي. ولكن بما أن أشكال الحداثة الكونية هي الأكثر طغيانا في الفضاء الإعلامي العام على حياة الناس؛ كالجامعات، والتنظيمات، ووسائل الإعلام وغيرها؛ فإن الوعي النسقي الطائفي والقبلي يعيد موضعة نفسه، لا من خلال طبيعته الخام، وإنما عبر تقمص الهياكل الحديثة؛ كالجامعات، والقنوات الفضائية، والصحف، والأحزاب. هكذا يمكننا أن نرى في لبنان أحزابا طائفية، وجامعات طائفية، وقنوات إعلامية طائفية، كما يمكننا أن نرى في السودان أحزابا وتنظيمات ذات عناوين محايدة، وعضويات قبلية حصرية كتنظيم (الأسود الحرة) الذي يحصر منسوبيه فقط في قبيلة الرشايدة العربية مثلا. وبالجملة فإن الوعي النسقي القبلي والطائفي هو المعنى المضمر لانتماءات الاحزاب ولممارسات الساسة، ولكل هياكل الدولة في البلاد العربية للأسف.
هذه الهياكل الحديثة ذات المحتوى الطائفي والقبلي هي بمثابة من يغير اسمه من (حسن زفت) إلى (عباس زفت)، كما قال فهمي هويدي ذات مرة.