كأنه لم يشأ ترك صباح وحدها في رحلتها الأخيرة، فغادر الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل هذا العالم، عن عمر يناهز مئة وعامين، صرفها في قرض الشعر وكتابة الكتب.
بيروت: هل يرحل تشرين الثاني (نوفمبر) آخذًا معه كبارًا من لبنان؟ فبعد أيام من رحيل الشحرورة صباح، غيب الموت الشاعر والاديب الكبير سعيد عقل، عن عمر يناهز مئة وسنتين.
قلم جريء
وعقل مولود في 4 تموز (يوليو) 1912 في زحلة شرق لبنان، حيث أمضى طفولة وردية في كنف والدين أنعما عليه بالحب، وعلماه الوطنية والعنفوان. تلقى علومه الأولى متفوقًا في مدرسة الإخوة المريميين بزحلة، ثم أتم فيها قسمًا من المرحلة الثانوية، عازمًا على التخصص في الهندسة، لكن الرياح لم تجر كما اشتهت سفينته.
فحين كان بعد في الخامسة عشرة، مني والده بخسارة مالية كبيرة، ما اضطره إلى الانصراف عن المدرسة، ليتحمل مسؤولية البيت، ممارسًا الصحافة والتعليم في زحلة. في مطلع الثلاثينات، استقر في بيروت، وعمل كاتبًا وصحافيًا في صحف "البرق" و"المعرض" و"لسان الحال" و"الجريدة"، ثم في مجلة "الصياد "، فتميز قلمه بالجرأة.
بحر علوم
درس عقل في مدرسة الآداب العليا، وفي مدرسة الآداب التابعة للأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وفي دار المعلمين، وفي الجامعة اللبنانية. ودرس تاريخ الفكر اللبناني في جامعة الروح القدس، وألقى دروسًا لاهوتيةً في معهد اللاهوت في مار انطونيوس الأشرفية.
وقرأ روائع التراث العالمي شعرًا ونثرًا، فلسفةً وعلمًا وفنًا ولاهوتًا، فغدا طليعة المثقفين في هذا الشرق. وتعمق في اللاهوت المسيحي حتى اصبح فيه مرجعًا، آخذًا عن المسيحية المحبة والفرح والثورة حين تكون وسيلة للسلام. كما درس الإسلام وفقهه، فحببه الإسلام في أن الله رب العالمين أجمعين، وفي أن الزكاة عطاء مما وهب الله، وفي أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وفي أن عرش الله مصنوع من خشب أرز لبنان، وفي أن الرسول قال: "إثنان ماتا من وفرة ما أحب الواحد منهما الآخر يدخلان رأسًا إلى الجنة".
أنشأ في العام 1962 جائزة شعرية من ماله الخاص قدرها ألف ليرة لبنانية، وكانت حينها مبلغًا كبيرًا، تمنح لأفضل صاحب أثر يزيد لبنان والعالم حبًا وجمالًا.
إرث خالد
في العام 1935، نشر عقل "بنت يفتاح"، وهي مأساة شعرية وأولى مسرحيات الأدب الكلاسيكي اللبناني رفيع المستوى. نالت مسرحيته جائزة الجامعة الأدبية حينها.
وفي الثلاثينات ايضًا، قال مطولته الشعرية التاريخية المشهورة "فخر الدين"، مبرهنًا بالدليل القاطع على قدرة الشعر على التأريخ، من دون أن يخسر رونقه الأدبي.
سنة 1937، أصدر "المجدلية" التي غيرت وجه الشعر في الشرق. وسنة 1944، نشر مسرحية "قدموس"، لتكون لونًا جديدًا من الملاحم. في سنة 1950، نشر ديوان "رندلى" الغزلي، وبعده سميت مئات البنات اللبنانيات بهذا الاسم. وفي سنة 1954 صدر له كتيب نثري "مشكلة النخبة"، ليصدر في سنة 1960 كتاب "كأس الخمر"، أدرج فيه مقدمات وضعها لكتب منوعة. وفي هذه السنة ايضًا، أصدر "لبنان إن حكى"، ناشرًا فيه امجاد لبنان باسلوب قصصي يتأرجح بين التاريخ والاسطورة، وكتاب "أجمل منك؟ لا... " الغزلي.
وصدر له في سنة 1961 كتاب "يارا"& الشعري باللغة اللبنانية، ثم في سنة 1971 كتاب "اجراس الياسمين" الشعري في الطبيعة. وفي سنة 1972 أصدر "كتاب الورد" وهو نثر شعري عن الحب. ثم أصدر في سنة 1973 كتاب "قصائد من دفترها" وكتاب "دلزي" أكمل فيه نهج "رندلى".
في سنة 1974، صدر له كتاب "كما الأعمدة"، ثم كتاب "خماسيات"& باللغة اللبنانية والحرف اللبناني في سنة 1978 ، فكتاب "خماسيات الصبا" بالفصحى في سنة 1992.
في سنة 1981، صدر لعقل ديوان " الذهب قصائد" بالفرنسية، يحمل خلاصة ما توصل عقل من فكر. وله أيضًا عدة دواوين مخطوطة وجاهزة للطبع.
قبسات من شعره
لا يمكن لمّ أفضل شعر عقل، فما كتب من الشعر إلا أفضله. ومنه هذه الأبيات من ديوان "أجمل منك؟ لا":
أخبرتها أخبرتها النجوم
انك لي،
طوقت خصري، بحت للكروم
بأنني كأسك والهموم
أقلعت عبر الصحو والغيوم
في هدبي الحلو المزلزل!
رددت من شعرك ألف شيء
اني غوى النظر،
نبض الصبا، بلورة السحر
أن على يدي
يلهو القدر،
وإن أنا أسقطت من علي
ثوبًا، فما شمس وما قمر؟!
وكدت كدت من هوًى أطير
قطفت أقحوانةً تمد
عنقًا، ورحت بيد أعد:
"يحبني، يحبني كثير،
يجن بي، يصدقني، يجد،
يكذب…لا؟... بلى" وأستجير
بالورق الأخير…
وخوف أن أصد
وأقحوانتي تقول
أنك لا تحبني، للعمر، للأبد
آخذها بيد
وبيد أنثرها بدد
ويحي! وتطوي سرك الحقول!
وفي غد أن أنا لم
أكن غرامك الوحيد
أضم
أضم، وحدي، وأشم
وكان نيسان جديد…
لا لن ترى الزهر
مجرحًا بديد
قلبي غفر
قلبي الذي يذكر ألف شي
أني غوى النظر…
نبض الصبا.. بلورة السحر …
أن على يدي
يلهو القدر
وإن أنا أسقطت من علي
ثوبًا، فما شمس وما قمر؟…
ومن ديوان "كما الأعمدة":
من الينابيع، من عيني صوتك، من ضوع البنفسج، أضلاع له وحني
سر الرنين، وهل إلاك يفضحه؟ يا ناقر العود، منه العود في شجن!
والكون، قله رنين الشعر، قله صدًى لكف ربك إذ طنت على الزمن
ما العمر؟ ما نحن؟ ما هذي التي كتبت قوس الغمام وغنج الزنبق الغرن؟
تشظيات نجوم عن يد فجرت حبيبة الشيء، وجه الله منه دني
فنحن هذون، لما نبق في سفر على الرنين، نجومًا رحل السفن
حببت فيك البليل البث، لا يبسًا لليل غنى، وغنوا للضحى الخشن
من لا يضج، ويبق الآه سيدةً على الكلام، يؤخ الطير في الفنن
نسج التنهد لكن لا يهلهله سهل، ففي خيطه من شمخة القنن
ضوء خصصت به، بعض الذي احتفظت ببعضه الشمس إذ هلت على عدن
من شاعر؟ من تظل الريح دارته ترمي بأبراجها في الأفق لم تشن
حجارها شرف! فاسمع تنفسها بالنبل، قلت: به قبل الجمال عني
أكيدةً من هنا، من مقلع وقعت عليه ريا غصون الأرزة اللدن
الله نحن! أما نحيا لأغنية نشوى بها لفتة العقبان من الوكن؟
إن شدنا البحر، لا ملآن، بعد، بنا نفرغه منه أن أسكن أو بنا أنسكن!
جبالنا هي نحن: الريح تضربها نقوى وما يعط قصف الرعد نختزن
عشنا هنا لا نهم، الفقر مر بنا ومر من شبر أرض غره ففني…
للفقر قلنا: أسترح، للمستبد: أشح غدًا علىالرمل لا يبقى سوى الدمن
التعليقات