كلُّ الطرق تؤدّي إلى الشِعر: مصطلح Found Poetry

ما إن قدحت المستقبلية الإيطالية عودَ ثقاب الطليعة، حتى شبت نيران البحث عن أشكال لم تطف بوهم شاعر من شعراء الماضي؛ أشكال تنتج مضامين جديدة تضع حدا لثقافة الماضي كاسرة كل التعريفات التقليدية لمفهوم العملية الإبداعية. فمثلما اقتضى العصر الحديث تجديد أدوات التصنيع، فإنه اقتضى كذلك تجديد صناعة الشعر. فمشروع الطليعة كان يقوم على الرغبة في تدمير خدع العقل من اجل العثور على نظام غير معقلن؛ وعلى ضرورة التخلص من سلطة الماضي والمعايير الجمالية المرسومة. فمثلا مارسيل دوشامب وضع شاربا لمونا ليزا صادما الذائقة البرجوازية التي جعلت من الفن شيئا مقدسا. وبعد أن أصابت المستقبلية

&يقول الفيلسوف كولينغوود:

إذا كان (ألف) يعتقد أنه شاعر أفضل من (باء)، عليه أن يكفّ عن كتابة التلميحات في مقالة، فالمطلوب منه ان يعيد كتابة قصائد (باء) وينشر النسخة المحسنة موقعةً باسمه!".

بسهامها القاتلة ضوءَ القمر، جبريل الرمزيين، داعية الشعراء إلى مسايرة الحركة الجديدة للحياة اليومية الصاخبة، جاءت الدادائيّة لتؤكد بأن كلّ شيء فن، مانحة الفنان الحديث فرصة ليس لها نظير في صنع اعمال جديدة من صلب أعمال قديمة.
وحين رأى مارسيل دوشامب مبولة في سوق الأشياء القديمة، شعر بأنها عمل فني جاهز لا يحتاج سوى إلى عنوان ملائم، فكتب على جانبها ـ"نافورة" وأرسلها كأحد أعماله الفنية إلى معرض فني جماعي في نيويورك. وتبعه في هذا بيكاسو الذي أخذ موقد مطبخ غازي وثبته أفقيا على لوح خشبي لتبدو وكأنها صورة بدائية للإلهة فينوس، وعنونه بـ"فينوس الغاز". والغرض، كما وضح بيكاسو، كان لإثارة مشاعر جديدة في ذهن المشاهد وذلك بتشويه طريقته المعتادة في التعرف على ما يرى وعلى طريقته في تحديد الأشياء. وسمى دوشامب هذا الانتزاع من سياق مهمل إلى سياق جمالي، بـ"& objet trouvé& شيء عُثر عليه" أو كما سميت بالانجليزية ready made (جاهز الصُّنع). إذ يكفي أن تنظر بعين جديدة إلى أي غرض مرمي في سلة مهملات أو في زاوية البيت أو في سوق الأشياء القديمة؛ أي أن تنظر من وجهة لم يُسبق إليها، حتى يصبح هذا الشيء ذا قيمة جمالية. وكان الشاعر السوريالي جورج هوغنيه على حق عندما وصف دوشامب بأنه هو الذي "فتح حقبة التجربة الشعرية حيث المصادفة وشيء ملموس يكوّنان شعرا يمكنك التقاطه بيدك أو صدّه برفسة"!
هذه المحاولة الدادائية التي فتحت أفقا جديدا واسعا للفن، أغرت عددا من الشعراء المحدثين لتحقيقها في المجال اللغوي، وكأن الكتب النثرية غير الأدبية خصوصا، هي أيضا سوق تعجّ فيه مكسرات اللغة التي يمكن استلالها ووضعها في سياق جديد: إما توزيعا على شكل أبيات وتزويدها بعنوان ثم نشرها كقصائد، أو حصرها بين أقواس مزدوجة، في قصائد لم تكتمل، كعملية اللصق في الفن. وسموا هذه الطريقة بـ"شعر عثر عليه Found Poetry. أي أن تعثر فجأة على مقطع في كتاب لا علاقة له بالشعر، تعتقد أنه ما إن توزعه في شكل جديد، حتى يصبح قصيدة بذاتها! شرط أن لا تغير أكثر من كلمة أو كلمتين، وطبعا يمكنك تغيير ظرف الزمان. وقد وضع الشاعر الأمريكي جورج هتشكوك صاحب المجلة الستينية الأمريكية المعروفة "كاياك"، انطولوجيا لشعر عثر عليه، وضمت قصائد لـ 25 شاعرا عثروا عليها بين الكتب شبه الادبية او اللاأدبية على الاطلاق.
وهناك من يأخذ مقاطع طويلة ويدمجها مع جمل له، دون أية اشارة إلى ذلك، كما فعل الشاعر السكوتلندي هيو ماكديارميد في ديوانه "أغاني كورنويل البطولية" حيث تداخلت فيه مقاطع عديدة وطويلة من كتب رحلات وعلمية غابرة. ويعتبر الديوان الذي قام بانجازه جون بارنيس "حجرة، ورقة، باب" الصادر عام 1945 أول ديوان يضم قصائد عثر عليها في نثر توماس وولف، وإن كل ما عمله بارنيس هو شطّر الأسطر النثرية إلى أبيات. وطبعا نشر الديوان تحت اسم توماس وولف.
&والشاعر الكندي جون روبرت كولومبو الذي يعتبر سيدا في هذا الميدان فله عشرات الدواوين والانطولوجيات التي تضم أشعارا عثر عليها، كتب مقالة لشرح مصطلح "شعر عُثر عليه"، سمّاها "مقدمة عُثر عليها"، لانها أشبه بمونتاج لعبارات وأقوال عدد من الكتاب والشعراء، وقد اعتمدنا، في مقالنا هذا، عليها وعلى دراسة مانينا جونز عنه.
يعتبر الشاعر الايرلندي بتلر ييتس أول من قام "بعملية خيميائية لتحويل أسس النثر الفولاذية إلى قياسات الشعر النادرة". وذلك حين عثر على شعر في كتاب دراسي حول الفن، عندما توقف عند أسطر جذبت انتباهه، في مقالة قديمة كتبها مؤرخ الفن والتر باتر عن ليونارد دافنشي يتطرق فيها إلى مونا ليزا (انظر الصورة رقم واحد)، شعر أن هذه الأسطر قصيدة بكل معنى الكلمة، يكفي فقط تقطيعها إلى أبيات. وبالفعل، استلّها وشطّرها، من دون إضافة أو حذف، إلى 16 بيتا حسب قانون الشعر الحر، ونشرها باسم والتر باتر كأول قصيدة في "مختار اوكسفورد للشعر الحديث" (1936) الذي أشرف عليه، لأهميتها الثورية كما قال:
"إنها أقدم من الصخور التي تجلس بينها؛
وكمصّاص الدماء
ماتت مرات عديدة
فتعلّمت أسرار القبر....
وغاصت في العِباب العميق
وتحتفظ حول مضايقها بنوره الأزرق المُخضَوضَر
تاجرت بأقمشة غريبة
مع تجّار مشارقة
وكانت، كـ"ليدا"، أمَّ هيلين
وكالقديسة آن، أمَّ مريم العذراء
وكل هذا لم يكن بالنسبة لها
أكثر من رنة القيثارة والناي
وأنه لا يعيش إلا في الرقّة
التي وسمت أساريرَها المتغيرة
ولوّنت بخفيف اللون الحواجب واليدين".
هذه السطور تعتبر من أذكى ما كتب عن لوحة دافنشي "مونا ليزا"، فهي تلخص بشكل مكثف وجه الموناليزا كخلاصة لتاريخ العالم المتمثل بالحقبة الوثنية من خلال "ليدا" زوجة الاله زيوس وأم هيلين طروادة، والعالم المسيحي أي الحضارة الغربية، المتمثل بالقديسة آن أم مريم العذراء.
إن حاجة الشاعر إلى "توسيع منطقة الوعي" كما قال الن غينزبرغ، دفعت شعراء الحركات الطليعية إلى اللجوء، من أجل انجاز أعمال شعرية، إلى كل الطرق التي لم تكن مرسومة في خرائط الشعر القديمة. كما لو أنهم يريدون تحقيق ما كان يتمناه مارسيل دوشامب في الفن عندما قال: "أن نتمكن من ابتكار عمل فني هو ليس بعمل فني"، أي ليس عمل فني بالمعنى الأكاديمي للمواد التي تخلق عملا فنيا.
أما الشاعرة الأمريكية المشهورة ماريان مور فشعرها يعج بأقواس مزدوجة من كثرة ما تأخذ من أبيات وجمل من كتب الآخرين. فمثلا قصيدتها "اخطبوط" التي تروي فيها رحلتها الى البارك الكندي، مبنية على جمل مستلة من كتب جغرافية وسياحية ودليل الصخور والحدائق والساحات وكتاب "الفلسفات الخمس الكبرى"، بحيث أصبحت كتاباتها وكأنها "مجموعةُ ذبابٍ في عنبر"، كما قالت هي. لكن هذه القصيدة تعتبر واحدة من أعظم قصائدها لدقتها في الوصف وطرواتها الشعرية. وربما هذا الحصر بين الأقواس المزدوجة يعبّر عن نزاهة ماريان مور وأمانتها، لكنه يدل أيضا على أن ثمة "أشياء قد كتبت بأفضل طريقة ممكنة، فكيف يمكن إعادة قولها بشكل أحسن"، كما بررت ماريان مور اقتباساتها.
قبل عشرين عاما، كنت مهووسا بالرغبة في العثور، في باطن التراث العربي، على قصائد يمكن اعتبارها قصائد نثر بالمعنى الأوروبي للكلمة. وقد تجمع لدي عدد لا بأس به من القطع، والفقرات، قد أنشرها ذات يوم في كتاب تحت عنوان "أنا بآخر". هاك نموذجا اقتطعته من "طوق الحمامة" لابن حزم، فبمجرد اقتطاعها من سياقها، حتى تتجلى قصيدة نثر بامتياز تتدافع فيها الجمل تدافعا تدريجيا ضمن وحدة عضوية، بحيث إن كل جملة تؤدّي بشكل مكثف وظيفة تذهب بها الجملة المقبلة إلى وظيفة ثانية حتى يكتمل الهدف – الوقفة المطلوبة. ولتقوية التأثير الذي تخلقه قصيدة نثر، وجدت أن أفضل عنوان لهذا المقطع المُستل هو "انخطاف":
"كنت بين يدي والدي رحمه الله، وقد أمرني بكتاب أكتبه، إذ لمحتْ عيني جاريةً كنت أكلف بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها، وبُهِتَ أبي، وظن أنه عرضَ لي عارضٌ، ثم راجعني عقلي، فمسحتُ وجهي، ثم عدت، واعتذرت بأنه غلبني رعاف".
إذا كان الشعر وسيلة اكتشاف مناطق جديدة، فإن "الشعر المعثور عليه يكتشف مناجم النثر المجهولة.
فهو أشبه باستخراج طفل من رحم النثر، قطع الحبل السُّرّيّ عن سياقه – تاريخه. ومن هنا، تبقى القصيدة المعثور عليها موسومة بالانزياح السياقي، مهما فعل الشاعر من إخفاء لقيته. لذا، أتوجه إلى هذا الذي قد تغريه فكرة هذا المصطلح الغربي فيغيّر حرفة الشاعر إلى حرفة العاثر، أقول له: لا تقرأ كتابا بنيّة أن تعثر على قصيدة جاهزة، محجوبة بين سياقات وإنشاء. فييتس لم يقرأ والتر باتر لهذا الغرض، على الاطلاق... وإنما قرأه إعجابا بثقافة باتر الفنية وقدرته على التحليل الثاقب.. وكان عثوره على قصيدة سمها "الجيوكندة"، مجرد مصادفة. لا تتجلى القصيدة المخفية إلا أثناء قراءة عفوية. فـ"اللُقية" لها قانون مصادفتها، فهي التعبير الخفي الذي يدل على شخصية التي يعثر عليها. هل هو ناضج، مبتدئ، لص أم محظوظ... واعتقد أن ما كتبه اليوت في مقالة عن فيليب ميسينجر، ضمها كتابه النقدي "الغابة المقدسة" الصادر عام 1920، سيشرح ما أعني: "الشعراء غير الناضجين يقلّدون؛ الشعراء الناضجون يسرقون؛ الشعراء الرديئون يشوهون ما يأخذون؛ الشعراء الجيدون يحولون ما يأخذون إلى شيء أفضل، أو على الأقل إلى شيء مختلف. يلحم الشاعر الجيد سرقته لتكون مجموعَ شعورٍ فريدا ومختلفا كليا عن ذاك الذي اقتطعت منه؛ الشاعر الرديء يلقي بها في شيء لا انسجام لهّ!

&
قصيدتان عُثرَ عليهما في كتاب "نهجُ البَلاغة"

المُطلَق

لا يُقالُ لَهُ متى
&&&&&&& ولا يُضْربُ له أمَدٌ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& بحتّى
فلا هو شَبَحٌ فَيَتَقَضَّى
ولا مَحجُوبٌ فَيُحْوَى.

&

الخَفَافيش
يقبُضُها الضِّياءُ الباسطُ لكلِّ شيءٍ. ويبسطُها الظَّلامُ القابضُ لكلٍّ حيٍّ. عشَيَتْ أعينُهُا عنْ أنْ تستمدّ من الشَّمسِ المُضيئَةِ نُوراً تَهتدي بهِ. فهي مُسدِلَةُ الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلةُ الليلِ سراجا تستدلُّ به. فاللَّيلُ لها نهارٌ ومعاشٌ، والنهارُ سَكَنٌ وقرارٌ. لها أجْنِحَةٌ من لحْمِها تَعرُجُ بها عند الحاجَةِ الى الطَّيَرانِ كأنها شظايا الآذان، غيرَ ذَواتِ ريشٍ ولا قصَبٍ. إلا أنّك ترى مواضِعَ العُرُوق بَيّنَةً أعْلاماً. تَطيرُ ووَلدُها لاصِقٌ بها... يَقَعُ إذا وقَعَتْ، ويَرتَفِعُ إذا ارْتَفَعتْ. لا يُفارِقُهَا حتَّى تَشتدَّ أركانُهُ. ويَحْمِلَهُ للنُّهُوضِ جَنَاحُهُ.
الخفافيشُ تكتفي بما تَكتَسب مِن فيءِ ظُلَمِ لياليهَا.

&