&

إلى أيّ مدى يمكن القول إن رواية: (المعلم ومرغريتا) للروائي الروسي (ميخائيل بولغاكوف) جسّدت نموذجا فريدا لمخيّلة شرسة، في مواجهة أوضاع وعقائد، وتصورات، جرى تعويمها؛ كي تجعل من الإلحاد الممزوج بالقمع والتفسُّخ حالة عمومية لهوية حديثة في (موسكو)، إبّان الحقبة الستالينية ؟
هذه الرواية التي أعادت طبعها ، هذا العام ، دار " التنوير" في بيروت بترجمة عربية من توقيع (يوسف حلاق)،" كُتبت على مدى 12 عام " 1928 ــ 1940" ولم ترَ النور، إلا بعد وفاة صاحبها، في أول طبعة كاملة بموسكو عام م1973" لاتزال إحدى علامات قوة الإبداع الإنساني الحر، وقدرته على هتك النظام والذاكرة الرسميَّيْن ، من خلال هوية سردية متماسكة، نجحت في السخرية من القناع الحديدي لعقيدة الإلحاد المسنودة بتراتبية نظام سياسي بوليسي، حاول اختراع ذاكرة مادية جديدة للمجتمع، برسم قرارات سلطوية، نتج عن ردود فعلها تفسُّخٌ كبير في الحياة السياسية &والثقافية للموسكوفيين.
لقد كان فضح طبقات ذلك التفسُّخ الذي ضرب الحياة الثقافية، في موسكو، هو ما أراد(ميخائيل بولغاكوف) تصويره في رواية (المعلم ومرغريتا) وعكس الدلالات الرمزية لآليات تحكم النظام الستاليني البوليسي على حياة الناس،من خلال استعارة سردية عميقة الدلالة لبنية الواقعية السحرية.&
فما بدا نقاشا هزليا حول : الله ، ويسوع والشيطان، بين النخبة الثقافية الملحدة والمتنفّذة في موسكو ــ كما كان يمثلها في الرواية ؛ المثقف المتنفذ : (ميخائيل برليوز)رئيس مجلس إدارة تجمع (ماسوليت) الأدبي، والشاعر (بيزدومني) ــ مع أستاذ أجنبي زائر: البروفيسور المشعوذ (فولند/ الشيطان) هو الوجه الآخر للهزل من العقائد المادية المعمّمة،والتي لم يكن نقاشها ممكنا، في ذلك الوقت،إلا على هذا النحو من تقنيات الواقعية السحرية.&
تبدأ وقائع الرواية على إثر إطلاق البروفيسور المتخصص في السحر الشيطاني (فولند) نبوءة صغيرة حول مصير (برليوز)، أثناء النقاش معه ، ومع صديقه الشاعر (بيزدومني)، فلا يلبث هذا الأخير أن يرى رأس صديقه (برليوز) تتدحرج تحت عجلات الترام، بعد ساعات من نقاشهما مع البروفيسور (فولند)، حول وجود الله ويسوع والشيطان ؛ لتأخذ الرواية مسارا غريبا لوقائع سحرية تظهر، بعد ذلك في موسكو، لمدة ثلاثة أيام ، وتبدو فيها الأحداث تذكيرا مخيفا بعودة العقائد القديمة إلى حياة الناس، لاسيما بعد أحداث الحفل الشيطاني الذي أقامه البروفيسور (فولند) على مسرح (فارييتيه) بموسكو.&
فحين لمّح (فولند)عبرإشارات مخيفة، عن طبيعته الفيزيائية العابرة للزمن ــ أثناء النقاش الفلسفي مع (برليوز) و(بيزدومني) ــ "حسبها هذا الأخير في البداية هرفاً لا معنى له" حدث بعد ذلك مباشرة ؛ما جعل الشاعر (بيزدومني) موقنا بأن البروفيسور (فولند) هو الشيطان ذاته الذي شهد صلب المسيح، في مجلس الحاكم الروماني للقدس (بيلاطس البنطي) ، قبل أكثر من ألف عام، وهو أيضا مَن جلس مع الفيلسوف الألماني " كانط " على مائدة الإفطار، وناقشه حول براهينه الخمسة عن وجود الله، قبل مئتي سنة، فيما لا يزال موجودا، الآن وهنا ، معهما في أحد مقاهي منطقة (يتريرشي رودي) في مدينة &(موسكو)؟!
هكذا تأخذ الرواية من طابع الواقعية السحرية عناصر مشوِّقة في السرد المركَّب والغني بالمعاني الدينية والأسطورية؛لتكشف عن أقنعة الواقع المتفسِّخ في حياة الناس،داخل الاتحاد السوفياتي، إبّان حقبة النظام الحديدي، لجوزيف ستالين، في ثلاثينيات القرن الماضي.
تندمج في الرواية حكايات عديدة،عن فساد الحياة البيروقراطية، في مجتمع النخبة الأدبية بموسكو،لكن في جميع تلك الحكايات ثمّة ما يحيل إلى ظل النظام، كشبح أعظم يهيمن على حياة الناس ، لاسيما من خلال الموضوعات التي كثّف (بولغاكوف) الحديث عنها ، كموضوع حيازة العملة الأجنبية المحرَّمة، آنذاك، والذي كان نظيرا موازيا للحديث إلى الأغراب في موسكو.فالأجانب- بحسب سردية النظام الستاليني،في ذلك الوقت- كانوا ، بالضرورة، جواسيس محتملين لقوى أجنبية معادية للدولة.
لقد جرى التوظيف السردي لعمل الشيطان كقرين لخراب النفوس،وإحداث الحرائق في الممتلكات العامة في المدينة المسحورة،عبر أفعال مساعدي (فولند)؛ (كورفييف) ــ (فاغوت) ، والقط الأسود (بيغموت) إلى جانب الحفلات الشيطانية، التي لم تستطع بيروقراطية موسكو ونظامها المادي إلا وصفها بـ: (حفلات غير قانونية) داخل الشقة رقم 50 في البناية 302 من شارع (سادوفايا) بموسكو؛ حيث تجري أحداث وحفلات السحر المريعة، والقتل والاختطافات، دون أن تترك أثرا ماديا ذا دلالة على تلك الوقائع الغريبة التي يرويها كلٌّ من دخل تلك الشقة من المواطنين.
تتضمن الرواية، في إحالاتها &التاريخية والدينية ، فصولا عن حياة (بيلاطس البنطي) (الحاكم الروماني للقدس ، الذي أصدر حكم الإعدام على السيد المسيح) متوزِّعة داخل الرواية، كما داخل فصول رواية (المعلم)، حبيب (مرغريتا)، إذ تقوم هذه الأخيرة بالتحالف مع الشيطان (فولند) فتموت من أجل استعادة حبيبها المعلم من المصحّ العقلي " أدخلت فيه السلطات كلَّ من آمن بأحداث السحر الشيطاني في موسكو،كالشاعر بيزدومني " فيختطف (فولند)، روحه من المصحّ العقلي؛ لاستكمال روايته عن (بيلاطس البنطي) في الأبدية، بعد نهاية أيام عروض السحر في موسكو.&
بدت تقنية " القناع " واضحة في هذه الرواية، عبر توظيف (بولغاكوف) لأحداثها في إطار من الواقعية السحرية؛ دون أن يعني ذلك غياب اهتمام (بولغاكوف) بالإيمان الديني في الوقت نفسه ؛ فالنزعة الطهورية كانت ظاهرة في تجديد وصف (بولغاكوف) لمساعدي (فولند) مثل : (كورنييف) ـ (بيغموت) ـ (أزازيلو) ـ (غيلا) حين يتجسّدون في هياكل بشرية تصدر منها روائح العفونة. وكذلك حين يروي (بولغاكوف) وقائع حفلة الدم الكبرى، عند اكتمال البدر الربيعي التي يستعيد فيها (فولند)، بقواه الشيطانية، أرواح طائفة كبيرة من الطغاة والمجرمين والعباقرة في التاريخ من قبورهم؛ ليقدموا التحية في حفل موت (مرغريتا) داخل الشقة 50 من بناية شارع (سادوفايا)، والتي يتزامن موتها مع موت المعلم في الغرفة 118 من المصحّ العقلي.&
الشخص الوحيد الذي عرف أن موت (المعلم ومرغريتا) مِن فعل الشيطان (فولند) هو الشاعر (بيزدومني) عندما شعر بالسكون في الغرفة رقم (118)المجاورة له في المصحّ العقلي، وعندما رفضت الممرضة أن تجيبه في ذلك المصحّ، حين سأل عن وجود نزيل الغرفة (118)
&بعد الأيام الثلاثة لزيارة الشيطان لموسكو، بوقت طويل، أغلقت السلطات التحقيق حول ما جرى في تلك الأيام الثلاثة ؛ على أنه فعل عصابة أجنبية من المنوَّمين المغناطيسيّين، وقد هربت هذه العصابة، دون أن يقبض عليها أحد. فيما غاب أكثر المتنفّذين من رموز السلطة الثقافية في موسكو، لاسيما أعضاء مؤسسة مسرح (فارييتيه)، إما بالموت،وإما بالتقاعد، وإما بالنفي.&
إيفان نيقولايفيتش (الشاعر بيزدومني سابقا) سيظل "على علم بكل ما جرى،إنه يعرف كل شيء، ويفهم كل شيء .. يعرف أنه كان في شبابه ضحية منوَّمين مغناطيسيّين مجرمين، وقد عولج وشفي، لكنه يعرف أيضا أنه لا يستطيع السيطرة على شيء ما، وهذا الشيء هو البدر عند اكتماله في الربيع، فما إن يبدأ القمر يقترب من اكتماله، يغدو إيفان نيقولايفيتش قلقلا متوترا يفقد شهيّته ورغبته في النوم، ويأخذ في انتظار اكتمال البدر. وما إن يكتمل البدر حتى لا يعود في وسع شيء في الوجود إمساكه في بيته، فيخرج مع المساء ويتوجّه إلى " بيتريرشي" &برودي". " صفحة 407" .
هكذا ،وحده الشاعر (بيزدومني) "الذي أصبح فيما بعد بروفيسورا في معهد التاريخ والفلسفة،تحت اسم مستعار (إيفان نيقولافيتش)" كان يرى في كل عام ، عند اكتمال البدر الربيعي، &وبعد أن يتحرك من مجلسه، في المكان الذي لقي فيه برليوز لآخر مرة، قبل مقتله، في بيتريرشي رودي ؛ يرى " كهلا وقورا ملتحيا يضع نظّارة أنفية، ذا ملامح تشبه ملامح الخنزير شبها طفيفا، جالسا على مقعد، وهو يسمِّر نظره للقمر .. يعرف إيفان نيقولا فيتش أن الجالس سيحوّل عينيه ، بعد أن تتملّيا من منظر القمر، إلى نوافذ المنور لا محالة، وسيسمّرهما عليها، كأنه يتوقع أن تنفتح على مصاريعها، ويظهر على حافة النافذة شيء ما خارق" ...
&يحدث هذا كل عام للشاعر (بيزدومني) ؛ فـلا يعرف ذلك الشخص "الذي يقطن هذه الدار، لكنه يعرف أن لاجدوى من مغالبة نفسه، عند اكتمال البدر، ويعرف إلى ذلك، أنه سيرى في الحديقة خلف السور الشيء نفسه""صفحة 407" ؛ ذلك الشيء هو علامة حفل (الشيطان / فولند) الذي قال (لمرغريتا) : " ليلة اكتمال البدر ليلة عيد، وأنا أتعشّى فيها مع نخبة قليلة من المقرَّبين والخدم" ! " صفحة 288 ".
لكن ما أراد " بولغاكوف " الكشف عنه، ليس الشيء ذاته، بل دلالته الرمزية التي تعكس تأويلا مجازيا عميقا لحقيقة الرعب الذي لفّ حياة الناس في الحقبة الستالينية. إن دلالة القناع المعبِّرة هنا عن الرعب، في الشيء الذي يراه الشاعر (بيزدومني) كل عام، عند اكتمال البدر الربيعي، تبدو في مشهد آخر من الرواية؛ فـ"الشيء الذي يوقظ العالم، ويوصله إلى إطلاق الصراخ البائس، في ليلة اكتمال البدر الربيعي، واحد لا يتغير. فهو يرى سفّاحا غير طبيعي لا أنف له، يطعن برمحه، وهو ينطّ، ويطلق صوتا مدوِّيا، هيستاس المعلَّق إلى الخشبة، والفاقد للصواب في قلبه. ولكن لم يكن السفّاح مرعبا قدر ما كانت الإضاءة غير الطبيعية في الحلم، الناتجة عن غيمة تغلي وتفور، وتهوي على الأرض، كما يحدث في أوقات الكوارث العالمية فقط" " صفحة 409".
فـ( هيستاس) الذي يظهر في حلم &الشاعر (بيزدومني) ــ والذي هو أحد اثنين من عامة الشعب الذين صلبهما ( بيلاطس البنطي) إلى جوار يسوع ــ ليس سوى شخصية رمزية في الرواية ، استعادها (بولغاكوف)في إطار رمزي معاصر من التأويل؛ لتحيل بمجازها إلى الواقع الذي عاشه الفرد في الحقبة الستالينية. &
وإذ لا ينجو (بيزدومي / إيفان نيقولايفيتش) في تلك الليلة، من كل عام، إلا عندما (يصحو عند الفجر مطلقا صرخة أليمة، وسيأخذ في البكاء والتقلُّب على جنبيه) ولا يسكن إلا بعد حقنه بإبرة المخدِّر،من قبل زوجته التي تنتظره بها في تلك اللحظة، فإن الشخص الجالس (نيقولاي إيفانوفيتس) &(انظر إلى دلالة الاسم المعكوس) الذي يراقبه (بيزدومني) في ليلة اكتمال البدر الربيعي، من كل عام ، من مكان خفيّ وراء السور، حين يسمع صوت زوجته : " أين أنت يانيقولاي إيفانوفيتش ؟ ما معنى نزواتك هذه؟ أتريد الإصابة بالملاريا ؟ تعال اشرب الشاي!" " صفحة 408" يعود إلى الواقع من حلم اليقظة؛ ليجيبها "أردت أن استنشق بعض الهواء ياروحي ، الهواء هنا رائع" عندها يغمغم (بيزودمني) مبتعدا عن السور : " يكذب إنه يكذب، أيتها الآلهة ما أكذبه!" &" ليس الهواء الذي يشدّه إلى الحديقة، بل إنه يرى شيئا على البدر ليلة اكتماله الربيعية " " صفحة 408"&
ويختم (بولغاكوف) الرواية ، في آخر مقطع منها بفقرة شديدة الدلالة على الإيحاء السياسي الرمزي المعاصر؛ فبعد ذلك الحلم الذي يعيشه (بيزدومني) إثر عودته من مراقبة ( نيقولاي إيفانوفيتش) "يصحو في الصباح صموتاً ، إنما في كامل هدوئه ، وعافيته. ذاكرته المثلومة تهدأ وتستكين. وحتى اكتمال البدر التالي لن يزعج البروفيسور أحد، لا قاتل هيستاس الأجدع، ولا حاكم اليهودية الخامس الظالم الفارس بيلاطس البنطي" " صفحة 410" &
إن تقنية الواقعية السحرية على النحو الذي صوره " ميخائيل بولغاكوف " في هذه الرواية &كانت قناعا فنيا متماسكا .&
وإذا كانت إحدى أهم تقنيات " الواقعية السحرية " &: تصوير علاقات الواقع والالتفاف عليها بمجاز يكون التعبير فيه &أكثر تعقيدا وغرابة من الواقع ذاته ، بتوسل أقصى قوة للرمز والسحرية المتصلة بذلك الواقع على نحو ما، فإن ما يتجلى &من طاقة التعبير الخيالي وإحالاته إلى الواقع &، في تلك التقنية ، يكون &أشد كشفا وفضحا لتعقيدات ذلك الواقع وغرابته .&
وهذا بالضبط ما استطاع "ميخائيل بولغاكوف" &النفاذ إليه في هذه الرواية البديعة. والمفارقة هنا : أن البنية الدينية والأسطورية لعالم الرواية بدت تحديا غريبا، ونقيضا تاما في تصويرها لوقائع العالم المادي الإلحادي الذي توخته الدلالة الرمزية للرواية ، أي لقد كان موضوع الرواية الأكبر والذي حاول " بولغاكوف " صياغته سرديا في &الرواية هو الإجابة على التساؤل الذي طرحته الناقدة الأمريكية &" إلنديا بروفير " : (ماذا يحدث حين تجبر ثقافة بأكملها على إنكار وجود الله ، لكنها تلتقي بالشيطان مجسداَ) ؟&
تحتشد الرواية بالإحالات الدينية والفلسفية والرمزية والطقوسية والتاريخية على نحو تأويلي بديع &يعكس الثقافة العميقة لميخائيل بولغاكوف ، كما يعكس ، في الوقت ذاته ، الجهد الكبير الذي بذله في &كتابة هذه الرواية على مدى 12 عاما .
رواية (المعلم ومرغريتا) رواية غنيّة بالإحالات الرمزية المنتجة لمستويات مختلفة من القراءة والتأويل، للحقبة الستالينية، أيام الاتحاد السوفيتي لاسيما حقبة " التطهير الأعظم 1936 ــ 1938" التي تميزت بسلسة من حملات القمع والاضطهاد السياسي ؛ ما جعلها من أهمّ روايات القرن العشرين.
&