&بلغة ِالخيبة ، لا بلهجة العناد استعيدُ تفاصيلَ حكاية هَمَلتْ من أعلى التصوّر، أقفُ من دون رغبة مُتفرّجاً ، أنظرُ في لعبة تافهة تجري بين فريقين، أعرفُ أن أحدَهما سيتقهقرُ ، تنكسرُ شوكتُه ، أنا لا أنحازُ لأحد، محضَ عابر جئتُ ، شظيةٌ من حلم أخذتني ، رغماً عني ، من وقفتي الساذجة. لكنّ أحدهم على ميسرتي استرعى انتباهي، تُرى مَنْ يكونُ؟ اللعنةُ على ذاكرتي، حين تخبو وتغدو عتاماً. نظرني، أراد أن يقتربَ مني ويقول شيئاً ،لكنّه تأنّى،ثمّ انسحبَ ، ترك لي خياله المُضبّبَ، غادرتُ مكاني.
أنا أعشقُ أنْ أهيمَ في دروب مجهولة، تكتشفني، أغوصُ في حناياها المُعقدة.. حتماً، في زمن ما كنتُ هنا، والّا، لمَ أرغبُ في احتضان ملامحه؛؛ ثلاثةُ أهداف سجله فريقُ الأطفال ، غامروا، مكروا، سرعتُهم المهولة أشبهُ بومضات أو إشارات. تركتُهم ومضيتُ، لن ادعُ مكاناً واحداً يحتفظُ بي. جوّالٌ مُتمرّسٌ ، كلُّ أفق في حنايا الزمن طوعُ ارادتي. استغربُ وضعي: كيف أقطعُ كلّ تلك المسافات الغائصة في أزمنة المستحيل ؛؛
جارتُنا العجوز تظهرُ فجأة ً ، تمدُّ يدها نحوي تُناولني شمعةً ، استسخفُ تصرفَها، فجأةً تهبطُ الظلمةُ ، غشيتنا عتَمة عميقة. هززتُ رأسي ، لا استخفافاً لوضعي، بل كنتُ أرثي حماقتي وبلهي ، فكلما تمرُّ بي أزمة ٌتخطفني وتمنحني فسحة معرفة وعقل. أقولُ: لا ينبغي أن تستخفَ بحق المجهول والفرص ِ المُتاحة. فما يمرُّ بنا من أحوال نتاجُ التمرّد على الجمود . وما دامت لي قدمان فعليّ أن أجتاب دروب الماضي، أسوقَ كياني من زمن الى زمن. وكلُّ مكان يؤويني هو موئلُ مصادفة سابقة سبقَ أن ضيّفني وأطعمني وآواني، ثمةَ التقي أناساً أشبهُهم ولا يشبهونني. تُرى من أين تجيء ذي المصادفاتُ لتصدمني وتقرع باب راحتي، تكسرُ مرآة عقلي، تجعلني رهن رغبتها؛؛؟ بيدَ أني عنيدٌ أخترقُ زجاجَ الأفضية اتنقّلُ في شعاب المسافات. والوقتُ غامض ، متماه ٍ، بلا ملمح أو عاطفة، هو محضُ عاصفة تأخذنا على حين غفلة. تجولُ بنا في المدائن المستقبلية الغافية.في ظلّ الوهم والتيه ...كيف تُمضي وقتَ فراغك؟ يسألني صوتٌ غامضٌ لا أدري من أين يتناهى اليّ، وأين يختبييء ُ صاحبُه؛؛
سأركبُ متنَ المخيّلة لتمضي بي ، عابرة من جبهة الى سواها، وكلّ الجهات مجهولة بلا ملمح لا وجودَ لها في أيّما خارطة.. أضحكُ حتى يكادُ شدقاي يتمزّقان. أرى حُثالات، وخيالات وأصدقاء قُدامى طواهم الغيابُ الأبدي، وآخرون يتسكعون في أزقة الشيخوخة، وقد تنزلق بهم أقدامُهم فيتهاوون. تلك الأزقةُ تحملُ رائحة طفولتي، فقري اليافعَ، حبّي الطوباوي، المُلطّخ بفوضى العدمية . هنا على ميمنتي مسجدٌ كنتُ أمدّ يدي وأقطف تمرات نخلاتها بعيداً عن نظرات جبوري البوليسية الصارمة. كنتُ أصلي أحياناً مع المصلين في أماسي شهر رمضان، لعلي أحظى بعشاء مجاني ، أعودُ الي غرفتي شبعان مرّة ، وغرثان مرّات كثيرة. وأنتظرُ نقود ابي الأبعد من نجوم السماء. مرّة أرسل اليّ خمسة دنانير داخل رسالة مُسجلة. عرف موظفُ البريد بالغنيمة الفقيرة، فتحها بخبرته واستل منها ورقة الدنانير الخمسة، وقبل تسلم الرسالة فتحها أمامي واذا بها خاوية ، احتججتُ صرختُ ، شكوتُ مُدير البريد ، الا أنهم أغلقوا فمي ورموني خارج الدائرة. كان لقبُ الموظف : المدفعي. تذكرتُ تأريخ هذه العائلة العريقة ، كيف ينطوي على سارق ؟ ابانئذ ٍ عرفتُ أن العدالة والنبل وعزة النفس خارج هذا الزمن. بكيتُ، صرختُ أحتججتُ ، ثم آواني بكائي في غرفتي الفقيرة. تحملتُ جوعي وفقري والظلم الذي لحق بي. لكني بقيتُ قويّاً...
أبي بعيد‘، لا يعرفُ غير أحضان امرأته. وأخواي غائبان أجهلُ عنوانهما ومكانهما وزمانهما. لم أطلب ابداً شيثاً من أحد ، ولا مددتُ يدي الى براميل القمامة. بيدَ أن صديقي غفوري كان يعيش مع والده فيدعوني أحياناً الى غرفتهما حيث يطبخ الأبُ مرقاً ورزاً من أطيب ما ذقتُهما .
أُمضي جلّ وقتي في سوق السراي ، أتصفحُ الكتب القديمة ، وان اسعفني الحظُّ استعيرُ كتاباً من أصحاب المكتبات . أحياناً أقومُ بتنظيف أرفف الكتب من الغبار وترتيبها فيُسمَح لي أن أختار أيّ كتاب لأقرأه واعيده .
يتدحرجُ الزمنُ ، يذهبُ بريقُ وجعه ، وأكونُ في مكان آخر بعيد جداً. وأراني كبرتُ أنهيتُ دراستي، تزوّجتُ ، لديّ اولادٌ وسمعةٌ وصيتٌ متألقٌ.

......

بلغة الأمانة والصدق أدوّنُ سطورَ ذي الحكاية الحارقة اريقُها على مسامع الآخرين. فزمنُ هذا البلد غيرُ زماني الغابر، وأطفالُه يحظون برعاية لا مثيلَ لها على سطح كوكبنا. هنا خلَلَ زاوية هادئة في مكتبة ييرفيللا أجلسُ، أختلسُ وقتاً لأدوّن هذا الاعتراف الحزين، لكنّه الأن أحلى من العسل، لأني صادقٌ في مقولتي، كأنّي بي أزفرُ حزنَ وجعي وأبعدُ عني ما يؤرقني ويقضّ راحتي.