مد يده نحوي لأنهض بعد أن أسقطتني عثرتي أمام المارة في طريق السوق المزدحم , و من حولي لا يبالون بمن تعثرت وكادت أن تكون تحت أقدامهم , أعطيته يدي وعدت إلى وضعي قبل مروره واقفة وعيني تتحدث مع الأحجار الصغيرة التي تمددت بجانب بعضها لتكون أرضاً مفروشة لأي قدم حتى ولو كانت غريبة عن هذه الديار .
سألني : " من أنت ؟ " , فأجبته : " أنا ما تبقى من ذلك النور الذي وجد نفسه في قلب العذرا ." , فسأل عن حلم يغزو قلب أي أنثى : " و أين وليدك ؟ " . . فقلت : " في فم الغيب .. فلم ينطق بأمره بعد " . فرفع رأسه ونظر إلى السماء وقد كانت الشمس لا تترك مكاناً لغيرها و لا دليل لظهور القمر كي يلمع في صدر سماء مدينتنا , ثم قال : " هل يمكن ملامسة النجوم ؟ " . فأدرت وجهي لأخفي ابتسامتي عنه , ثم أجبته : " إن تمكنت من الصعود إليها بقلبك .. فستتمكن من ضمها إلى صدرك أيضاً " .
أعاد غطائي الذي حاول التمرد بالسقوط إلى مكانه فوق رأسي وهو يسمي ظننت للحظه بأنه عابد متصوف , ثوبه الأبيض وحزامه الأحمر الذي يظهر من تحت ردائه وتلك العمامة البيضاء التي يخفي تحتها شعره , همس بإذني إن كان بإمكاني أن اتبعه بصمت , ولم يوضح لي سبب ذلك , ولم يذكر لي كم سيطول بنا الطريق , لكنني تبعته و أنا أعد أحجار الطريق الذي طال و أقرأ ما كتب على جدران الممرات الضيقة التي أدخلني بها , يدخل حارة بعد أخرى و يخرج دون أن يفعل شيء يمر كالعابر لكنه لا يترك أثراً خلفه كي يذكر به , تضيق تلك الممرات بطولها و تكبر تخطفني ابتسامة طفل و يسرق مني أحد المارة نظرة , و يفزعني صراخ أحد العاملين الصغار في دكان خاو من بضاعته , أنادي عليه ولا يجيب , يضرب الطفل ولا يلتفت .. يساق بدمه نحو نهايته ولا يقف , من هذا الذي أتبعه ؟
أكملت لاتبعه نحو ما يأخذني إليه علني أفهم شيئاً , وأنا لا أرى منه سوى رداءه , يسير أماي وكأنه يفتح لي الطريق بخطوة سريعة , قابض على كفه , صمته حاضر يقلب أفكاري على راحتيه , و صبري يمسك بيدي حتى لا أحمل نفسي نحو طريق آخر , ردائي الأبيض أصبح يمرر نوراً من حولي لا اعرف مصدره , وعيني لازالت عليه لم أعد أبالي بضيق الممرات و رائحتها و ظلامها , و لم تعد تضايقني زحمة السكك و كلمات المارة , فقط أريد أن اعرف إلى أين أيها العابد الذي لا اعرف من أي سماء هبط لاتبع خطوته , حتى توقف بين مسجد رفع فيه الآذان للتو و بين الكنيسة التي توقفت أجراسها احتراماً للصوت الذي جاء ينادي حي على الصلاة , التفت نحوي سائلاً على ماذا يفز قلبي على الصوت الذي جاء من المئذنة أم على صوت أجراس الكنائس ؟
فوضعت يدي على غطائي ارتباكاً ثم قلت له : " ستجدني تحت تلك النخلة التي توسطت الدارين انتظرك ." فأمسك بكفي سائلاً وخلف عينيه سماءاً تسقط بردها على ذلك الجمر في صدره : " بمن تؤمنين ؟ " . فاقتربت منه و وضعت كفي على صدره لألامس ذلك النبض الفزع بقلبه قائلة : " بنور قلبك .. فأنا فتاة تؤمن بكل خيط نور ".