&بقلم&حسن عبد السلام أبودية
&
مريم مشتاوي، شاعرة لبنانيّة تقيم في لندن ، لها عدد من المجاميع الشعرية منها: «حبيب لم يكن يومًا حبيبي» ، «ممر وردي بين الحب والموت»، «هالوين الفراق الأبدي» ،«حين تبكي مريم». تدخل عالم الرواية عبر 157 صفحة من الحكاية الموسومة بـ " عشق" صدرت عن دار المؤلف / لبنان. و بين خطيئة معنوية وبين أخرى ماديّة حسيّة، &خطيئة لم تجد من يفكّر في التكفير عنها، و أخرى فرض القدر كفارته .. أو عقوبته ... تمر عشق البطلة، و عشق الرواية.
&اختارت الكاتبة أن تُحمّل &الرواية اسم شخصيتها المحورية، وهي عتبة لا يمكن القفز عليها، فقد توحي للقارئ بأن الرواية تسجيل لحياة شخصية ما، ولمّا كانت الرواية تتقاطع في بعض تفاصيلها مع حياة شخوص حقيقيين رأت الكاتبة أن تشير في العتبة الثانية إلى أنّ الشخصيّة الرئيسة خياليّة تماماً؛ لئلا يماهي النقاد بينها وبين المؤلفة، سيّما أنّ مجاميعها الشعرية تحمل عناوين تتقاطع مع أحداث الرواية بشكل لافت للنظر.&
"عبدلله الأبيض رجل أربعيني صلب البنية قوي يسمّونه في الحيّ "الأستاذ أبو عضلات".. وهو مهندس إلكتروني ، مدير عام لشركة "ثري أم" في الشرق الأوسط، ومدير مدرسة شويفات.. لا يبدو رومانسياً ، لكنه شاعر وله عدد من الدواوين الشعرية، وكاتب فذّ له مقالات أسبوعية في مجلة المنبر الأدبية" هذه الشخصيّة الفذّة التي تنتمي لأسرة استقراطيّة ارتكبت أولى الخطايا عندما ترك زوجه في شهرها الثالث من الحمل وهاجر، هذه الزوجة الريفيّة التي خضعت لإغراءات شقيقته ذات الشخصية القوية تخليصاً له من تعلقٍ بامرأة لم يرُق لأسرته تعلقه بها. فكان ثمرة هذا الزواج " عشق " بطلة الرواية، التي بدورها خذلها صديقها " كريم " و عندما حاول العودة إليها كانت قد هاجرت إلى لندن.&
جمعت الكاتبة الصديق الجبان "كريم ".. و الأب الهارب "عبد الله" في لقاء صدفة في امريكا، ليبوح عبد الله بسر هروبه من بيروت .. و كأن الكاتبة في جمعها لهما أرادت أن تسدل الستارة عليهما و على ما اقترفا من خطيئة. أو كأنها أرادت أن تفسح مجالاً للأب الهارب ليقدّم دفاعه وتبريره الحقيقي لفِعْلة كانت ثمرتها هي و معاناة أمّ في تربيتها و تنشئتها وسط ظروف لبنان الاستثنائية المليئة بالقتل والخوف والحرب، ليظهر للقارئ أنّ عبد الله هاجر هروباً بعد ورود اتصال له ينبئه أن اسمه على " اللائحة السوداء"، رغم أنّ هذا التبرير لم يقدّمه لابنته عندما زارته و سؤالها له بشكل مباشر " كيف تركت أمي وحدها بمدينة بيروت بظروف قاسية و سافرت عأمريكا....؟"، فقد اكتفى بالاعتراف بخطئه، و برر سفره بالهروب من فشله و من حبه لأسماء، زاعماً لها بأن عذابه كان أكبر من عذابها .. و أن بعده عنها "كان مثل الموت البطيء".&
الفصل الأول من الرواية شكّل رسماً لشخصية "عشق"، و محيطها البشري والتاريخي، فقد صوّرت الكاتبة فيه بعض مشاهد الحرب القذرة، و بعض التفاصيل الصغيرة المؤثرة .. فكان تمهيداً ناجحاً لبقية فصول الرواية، وإذا كانت أحداثه أثمرت عن خطيئتين أسفرتا عن " عشق " و رمتا بها إلى أحضان الغربة في لندن حاملة في أعماقها مرارة الخذلان، فإنّ الليلة الأولى لها هناك شهدت خطيئتها الخاصة التي ستمدّ الرواية بأحداث درامية، وتترك بصماتها محفورة في أعماقها؛ فقد رافقت صديقتها لاحتفال بمناسبة ( هالوين) فأكثرت من احتساء الخمر لتجد نفسها في الصباح عارية تماماً في سرير لا تعرفه و كان ثمرة هذه الليلة جنين ينكره أبوه، و لم تستطع تقبّل فكرة إجهاضه، يكبر الطفل ويُصاب بالسرطان، و إذ تكتشف ذلك " تصرخ : معقول هيدا تمن الخطيّة، تمن إني سكرت و نمت مع رجل غريب؟ بس ليه جاد؟ ليه جاد يدفع تمن خطيئتي أنا ..." و لعلّ تربيتها الدينية التي تلقتها على يد أمها و صلاتها يومياً أمام تمثال العذراء ظلت قابعة في أعماقها و تمنعها من تقبّل فعلتها، رغم أنها بعد استيقاظها عارية في السرير الغريب أخذت تتأمل جسدها بإعجاب، و اعتبرت ما جرى خلاصاً نهائياً من طيف " كريم".
العلاقة بين "عشق" والشعر تعتبر الخيط الناظم لمعظم أحداث النص، ففي اللقاء الأول لها مع "نور" الصحفيّة اللبنانية المهاجرة سألتها " كيفك و كيف القصيدة؟ " فكانت الإجابة " تركت القصيدة ببيروت" لكنّ الواقع أنّ القصيدة انتقلت معها وكانت وسيلة الإصرار على الحياة، و سلاحها في حربها مع السرطان الذي أصاب ابنها، و يصيب أطفالاً كُثر.. وهكذا يبرز الشعر في علاقته مع الشاعرة البطلة كأنه شخصيّة من شخصيات هذا النص، شخصية تلعب دوراً إيجابياً كتفاً إلى كتف مع الصديقة " نور" و " محمد سلام " المثقف العراقي الهارب من القمع، الذي يلعب دوراً رئيساً في ثقافة " عشق" و إنضاج تجربتها الشعرية حتى غدت مشهورة . و تجلّى ذلك في مقولة " نور " لها :" عشق ما تخلّي شي يزعلك حتى لو خسرت كل شي .. رح تبقى القصيدة .."
جغرافيا الرواية تبدأ في بيروت، وسط مآسيها وحربها، و امتدت إلى لندن، و أمريكا، لكن بيروت تعود مرة أخرى بمآسٍ جديدة إذ تعود إليها بعد أن أصبحت شخصية مرموقة فقد وجهت لها دائرة اللغة العربية و آدابها دعوة لحضور حفل تخرّج الطلاب و لتكريمها خلال مراسم التخرّج، لتفاجئ ببيروت التي شفيت من الحرب من جهة إلّا أنها مصابة بكمّ هائل من المشاكل الجديدة و أبرزها مشكلة تراكم النفايات، و كأن بيروت تصرّ على دفع أبنائها للهجرة وعدم العودة. في بيروت، وفي الجامعة فشلت " عشق " في استعادة مجرد ذكريات لحبّها القديم، رغم الحنين الذي كان يشتعل في أعماقها لبيروت التي لم ترد مواجهتها بمفردها فاصطحبت معها صديقتها " نور" و الأستاذ " محمد" ، ولم تكن تدري أنها كانت ذاهبة لإعادة جسد " نور" لتراب وطنها، فقد توفيت إثر حادث. و لا يمكن القفز عن هذه الواقعة، فلماذا اختارت الروائية لصديقتها المخلصة اسم "نور" وجعلت نهايتها في الوطن؟ فالاسم يحمل دلالات إيجابية عميقة، بدءاً من الوضوح والمحبة والأمل و التفاؤل، إضافة إلى الدلالات الإيمانية الدينيّة، و جعلت نهايتها في بيروت بعد لقاء صادم مع مدينة لوثتها جبال من النفايات على جانبي الطريق .. أتراها هنا كانت تعبّر بطريقة ما عن نهاية ما بقي في القلب من حنين ؟؟!!! و اختارت أن يكون لها مرور للدير لمقابلة " العدرا" فـ"ارتمت تحت رجليّ التمثال تقبّله و تغسله بدموعها" ، &وفي لحظة تمرّد أمام التمثال تعلن &" ما رح صلي بعد اليوم ... ما بح صلي بقى .." ورغم التمرّد الخطير على كلّ ما تلقته من تربية دينية فإنها تسمع صوت العذراء " أنا بحبك يا عشق .. أنا بحبك" لكنّ إيمانها لم يكن قوياً – برأي المسؤولة عن الراهبات – لتتمكن من رؤية الزيت الذي يرشح من تمثال العذراء قالت الراهبات أنهن يرينه.
& و تنتهي جغرافية الرواية في لندن على سرير في مشفى ترقد عليه عشق في رحلة علاج من مرض نفسي " التوهّم " الذي تعاني منه و جعلها تعيش قصة حبّ خياليّة جارفة مع مذيع تونسي اسمه "هادي " بل و تعيش حالات العذاب من فراقه لها ليومين، و هواجس الفراق، و لعلّها لجأت في اللاوعي للتعويض عن فقد ابنها "جاد" الذي توفي بالسرطان.
وهكذا تمر أحداث الرواية في ثنائيات دائمة: بين حالة الخطيئة و بين التكفير، بين الانهيار و بين الأمل، بين وطن يدفعنا لوأد حنينا إليه وبين غربة تفتح ذراعيها لإنسانيتنا، بين أب و صديق جبان اقترفا خطيئتين أوصلا عشق للندن وبين خطيئتها الخاصة التي دفعت ثمنها معاناة فقدان ابنها بمرض السرطان ..
برأيي وُفقت الروائية مريم مشتاوي في بناء الحدث الدرامي في الرواية، فجاء مترابطاً منطقيّاً، بلغة سلسة بسيطة، إلّا أن رغم براعتها في سرد أحداث الرواية، وتألقها في لغة الوصف، فجاءت كثير من المقاطع لوحات فنيّة باذخة الجمال، رغم بعض الهنّات التي وقعت فيها لغة الكاتبة كقولها في وصف احتساء " عشق " للنبيذ " راحت تشربه كمن يشرب كأس العصير بسرعة عجيبة، وكأنها تنتقم من الصور العالقة في ذاكرتها .. كأس تنطح أخرى" فتعبير كأس تنطح أخرى لا أراه يتناسب مع اللغة السامية التي غلبت على المقاطع الوصفيّة، إلّا أنّها لم تكن على ذات الدرجة من التوفيق في الحوار الذي ورد في النص، فقد كان طويلاً من ناحية، والرواية فنّ سرديّ قبل كلّ شيء، و جاء بأكمله باللغات المحكيّة لأبطال الرواية على اختلاف جنسياتهم ( اللبنانيّة، العراقية، التونسيّة)، على الرغم من أنه بعضه جاء على ألسنة الأبطال المثقفين، و أظنّ أننا لو قرأناه باللغة الفصحى لنلنا قسطاً أكبر من المتعة.&
قبل أن أختم هذا التجوال بين سطور الرواية لا بد لي من التساؤل حول اختيار اسم "عشق " لبطلة الرواية رغم أنه ليس اسماً شائعاً في البيئة التي وُلدت فيها البطلة، أيمكن أن نجازف بقولنا إن عشقنا لأوطاننا يتعرّض لهزّات إثر خيانات وخيبات نتلقاها ممن نحبهم فيها، مما قد يوقعنا في علاقة خاطئة مع غربة لا تهتم بما تفعله بنا، و إذ نحاول العودة للوطن و لة على سبيل الزيارة فإننا في عودتنا ندفن بعض ما يتبقى فينا من " نور" ...&
&
ختاماً .. هذه هي المحاولة الروائية الأولى للشاعرة مريم مشتاوي، و نبقى بانتظار إبداعها الروائي القادم ...
&
كاتب وشاعر فلسطيني مقيم في أبو ظبي
&
التعليقات