تمثّل خاصيّة التكثيف قدرة الدماغ على التعبير عن فكرةٍ ما من خلال الصورة؛ وذلك بأقلّ التكاليف وأقلّ مادة ذهنية متاحة. حيث يستخدم الدماغ رموزاً وصوراً شديدة التعقيد تحمل معانيَ مركَّبةً وقابلةً للتشعُّب والاختزال الشديدَيْن. تخيَّل، مثلاً، أنَّ لديك عشر أوراق شفَّافة مرصوصة، بعضها فوق بعض، وتحمل كلّ منها صورة وجه شخص ما. ولدى رؤيتك الوجه الأخير لهذه الأوراق يظلُّ بإمكانك رؤية وتحديد ملامح الأشخاص العشرة من خلال الصورة الأخيرة.

إلى ذلك، تُعتبر الأحلام الليلية من أكثر العمليات العقلية استخداماً لهذه الميزة. في كتابه "تفسير الأحلام" يعرض فرويد مثالاً تظهر فيه خاصّية التكثيف بأوضح صورها، وهو حلمٌ راودَ إحدى مريضاته أثناء علاجه لها: فتاة ثلاثينية حصلت خطبتها على شابّ مراوغ وبخيل. وكانت كلَّما طالبته بشراء مستلزمات الزفاف بادر إلى التملُّص من الحديث في الأمر عبر مغازلتها، كأن يقول لها: أنتِ أجمل امرأة في العالم، أنتِ حبّي الوحيد... إلخ. وفي اليوم الذي قرَّرت فيه فسخ خطوبتها منه حلمت بالحلم التالي: "كنتُ أُوضِّب باقةً من الزهور وسط طاولة مستديرة (بحسب قولها: زهور مميّزة ذات ثمن باهظ) وذلك استعداداً منّي لمناسبة ما".

هذا الحلمُ جاء قصيراً بسبب إفراطه في عمليات التكثيف. وجزء من تفسيره أنَّ الطاولة المستديرة ترمز إلى الأعضاء التناسلية النسوية. والمناسبة التي تستعدُّ لها الفتاة هي مناسبة زفافها غير المتكافئ، بحسب المحاكمة العقلية التي أجرتها من خلال الحلم.

أمَّا الزنبق الأبيض، فحاله حال البنفسج، يرمز إلى الطهارة، حتى أن بعض الناس يُطلق عليه مُسمَّى "أزهار العفاف". فلسان حال الفتاة يقول عبر هذا الحلم: أنا أهبُ عفافي لشخصٍ لا يستحقُه فهو لم يدفع ثمنه غالياً.

ميزة التكثيف تظهر هنا من خلال عنصر زهرة البنفسج (violet) (اغتصاب = viol)، حيث التطابُق مع معنى الحلم ومع الحالة الوجدانية التي أدَّت إلى إنتاجه. وذلك يُبيّن لنا السبب الذي جعل الجزء الدماغي المسؤول عن إخراج الأحلام يستحضر عناصرَ محدَّدةً، لخدمة مشروعه، دون سواها. فهذه العناصر مختلفة عن غيرها كونها حمَّالةَ وجوهٍ عديدة وقابلة للقسمة على أكثر من عدد إن صح التعبير. وتُدعى هذه العناصر بعناصر "التحتيم"، وذلك لإلزامها الدماغ بحتمية استخدامها. كمثل زهرة البنفسج في المثال، والتي استخدمها "العقل اللاواعي" كمفتاح إنكليزي متعدّد الاستخدامات. ولا تقتصر هذه الميزة فقط على النشاط اللاواعي، فهي تبدو منتشرةً في الكثير من

الأعمال الإنسانية الواعية، وتبرز بشكل واضح في أعمال المصوّر والرسَّام والمخرج السينمائي.

&باحث سوري في علم النفس التحليلي.