بقلم د. ديفيد (خضر) بصون

بمناسبة مرور سبعين عاما على الهجرة الجماعية ليهود العراق – عملية عزرا ونيحاميا، صدر هذا الأسبوع كتاب للباحث الإسرائيلي الدكتور نسيم قزاز بعنوان "تاريخ يهود العراق المعاصر". وقد تولت نشر هذا الكتاب رابطة الجامعيين اليهود المنحدرين من العراق في إسرائيل والتي هدفها، منذ تأسيسها من قبل البروفيسور شموئيل موريه (رحمه الله) في 1980، نشر الاعمال الأدبية ليهود بابل (العراق) والأبحاث التي تتعلق بتاريخهم وتراثهم.
يعّد د. قزاز من أبرز الباحثين في تاريخ وتراث يهود العراق وتعتبر بحوثه وكتبه التي صدرت منذ ثمانيات القرن الماضي من المصادر المهمة التي لا يمكن التغاضي عنها لكل باحث في شؤون يهود العراق فقلما نرى بحث أو كتاب يخلو من ذكره.
أما على الصعيد الشخصي فقد سعدت جدا حين طلب مني المؤلف مراجعة هذا الكتاب وكتابة المقدمة له. فبعد قراءته ومراجعته أستطيع ان أجزم أن هذا الكتاب سيوفر للقارئ باللغة العربية معلومات مفصلة ودقيقة عن تاريخ ومساهمة يهود العراق في بناء الدولة العراقية في النصف الأول من القرن العشرين، وسيفهم القارئ ماهي الخلفية التاريخية والعوامل التي أدت إلى الانتقال من "العهد الذهبي"، في فترة الملك فيصل الأول، إلى مجزرة "الفرهود" في 1941، فالسجون والإعدامات والقتل في نهاية الاربعينيات ثم هجرة ما يقارب 95% من المكون اليهودي من العراق في فترة قصيرة بعد ان عاشوا في بلاد الرافدين أكثر من خمسة وعشرين قرن.
أهدى المؤلف الكتاب للأرواح الطاهرة ل. 180 من اليهود الذين لقوا حتفهم في مجزرة الفرهود ومن ضمنهم والد المؤلف ناحوم قزاز وشريكه مئير خليف والى العشرات من اليهود الذين قضوا نحبهم في العراق الحديث تحت حكم مختلف السلطات الغاشمة.
يعتمد كتاب "تاريخ يهود العراق المعاصر" على مواد كانت قد نشرت باللغة العبرية للمؤلف في كتابه "يهود العراق في القرن العشرين" وعلى مصادر باللغات العبرية، العربية والإنكليزية تضمنت مئات البحوث والكتب والوثائق والصحف والمجلات والمراسلات وكذلك مقابلات شخصية. ومن الجدير بالذكر ان الكتاب يتضمن كذلك معلومات موسعة وجديدة لم يتسن للقاري العربي الاطلاع عليها حتى نشر هذا الكتاب. فمثلاً يتضمن فصل "الفرهود" "يوميات أبراهام توينا" – شخصية من علية القوم عاصرت الأحداث. وفي فصل "الخدمة العسكرية" هناك سابقة أخرى تحت عنوان "يهود عراقيون يخدمون تحت راية الشريف حسين بن على قائد الثورة العربية الكبرى". بالإضافة الى ذلك هناك ملحقين مهمين: الأول حوار صحفي اجراه مراسل صحيفة هعولام في فيلنا في آذار 1909 مع نائب "مجلس المبعوثان التركي" ساسون حسقيل الذي أصبح اول وزير للمالية في العراق. اما الملحق الثاني فيضم مقتطفات من رسالة وجهها أبناء الطائفة اليهودية في العراق الى الكونت برنادوت يتشكون من وضعيتهم ومن اضطهادهم.
بعد عرض نبذة تاريخية عن يهود العراق من السبي البابلي إلى أواسط القرن الثامن عشر يتناول الكتاب "العصر الذهبي ليهود العراق" بعد دخول الجيش البريطاني بغداد في 1917 وفترة الانتداب البريطاني وتأسيس المملكة العراقية وحكم الملك فيصل الأول 1921-1933. ثم يتحدث الكتاب عن بداية التدهور التدريجي لأوضاع اليهود بسبب النشاط القومي وتحالف القوميين مع النازيين وحدوث مجزرة الفرهود في عام 1941. يصف الكتاب بعد ذلك الفترة التي تلت الفرهود والى الشرخ الذي حدث حين فقدت قيادة الطائفة الإسرائيلية آنذاك قابلية التأثير على أحوال ومصير أبنائها حيث انضم معظم الشباب إلى التيارين الشيوعي أو الصهيوني. تنتهي هذه الفترة بتبوّء الحركة الصهيونية السرية القيادة الفعلية وعملها في تهريب أكثر من 12,000 يهودي عراقي الى إسرائيل (مصادر أخرى تتحدث عن 15,000). ثم يتطرق الكتاب الى العوامل التي أدت الى صدور ما يعرف "بقانون التسقيط" في آذار 1950 والذي سمح لليهود الراغبين بالخروج من العراق ان يهاجروا مقابل فقدانهم الجنسية العراقية.
بعد صدور هذا القانون وضد كل التوقعات وفي خلال سنة من صدوره سجلت الأغلبية الساحقة من يهود العراق للخروج والتخلي عن الجنسية العراقية ومغادرة موطنها. تحت سرية تامة سنت الحكومة العراقية بعد يوم من نفاذ هذا القانون في أذار 1951 قانوناً آخر يسلب ممتلكات كل من سجل للخروج حتى وان لازال في العراق ينتظر مغادرته. ثم قامت الحكومة بعدها بسن قانون أسقط فعلياً الجنسية واستولى على ممتلكات كل يهودي عراقي كان خارج العراق أيضا أن لم يعد في غضون أشهر. كانا هذان القانونان بمثابة "الفرهود الثاني".
خلال 18 شهر تم نقل حوالي 105,000 يهودي عراقي إلى إسرائيل في أكبر عملية نقل جوية في التاريخ سميت بعملية "عزرا ونيحاميا”. وحين يضاف الى هذا العدد الهجرة الغير شرعية فان مجمل الذين وصلوا الى إسرائيل في تلك الفترة يصل لقرابة ثلاثة اضعاف عدد الذين عادوا من بابل الى اورشليم (43,000) بعد احتلال بابل من قبل الفرس حسب رواية سفر عزرا ونيحاميا.
أما اليهود الذين صمدوا في العراق لمدة لم تتجاوز العقدين بعد الهجرة الجماعية (ومن ضمنهم عائلتي) فقد فقدوا أيضا الأمل في البقاء في العراق بعد أشرس حملة من الإعدامات والقتل تعرض لها اليهود بعد مجيء البعث للسلطة في عام 1968 فهرب معظمهم في أول فرصة أتيحت لهم عن طريق كردستان العراق إلى إيران ومنها إلى إسرائيل ولدول أخرى من بداية صيف 1970 او بعد الحصول على جوازات سفر بداية خريف 1971. وقد وصف المؤلف في كتاب سابق له بعنوان "نهاية الجالوت – اليهود في العراق بعد الهجرة الجماعية 1951-1974) ما حدث للأقلية اليهودية الي بقت بعد الهجرة الجماعية.

نبذة عن المؤلف د. نسيم قزاز
ولد د. قزاز في بغداد عام 1930 في محلة ططران في قلب منطقة الأحياء اليهودية. كان لوالده ناحوم قزاز وشريكه مئير خليف حانوت لبيع خيوط الإبريسم والكلبدون في سوق القزازين في بغداد. وكان المؤلف شاهد عيان لفقدان والده وشريكه في اليوم الأول لمجزرة الفرهود في 1 حزيران/ يونيو حين أوقف جمهور هائج من الغوغاء الباص الذي كان يقل الوالد وشريكه والمؤلف (ابن الحادية عشر) وانزلوا عنوة شريك الوالد. تسلل الوالد من الباص إلى الشارع آملا في طلب النجدة وإنقاذ شريكه ولكنه اختفى هو ايضاً بدون أثر في جمهور الغوغاء المتعطش للدماء. حاول المؤلف القفز من الشباك للحاق
بابيه ولكن سرعة رد فعل سائق الباص الذي أسرع في السياقة قبل استطاعة المؤلف القفز أنقذته من موت محقق.
في عام 1946 نجح المؤلف بالهروب من العراق والتحق بإخوته الذين سبقوه إلى الديار المقدسة. وفي إسرائيل وبعد إنهاء الخدمة الإلزامية في جيش الدفاع استمر في الخدمة لسنين عديدة في صفوفه وتقلد مناصب رفيعة. شغل المؤلف لسنين طويلة منصب المستشار للشؤون العربية في ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية.
بعد تقاعده من الجيش بدأ مساره الأكاديمي حيث تلقى علومه في اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية في أورشليم القدس وعين بعد ان حاز على شهادة الدكتوراه محاضرا في جامعة بن غوريون في بئر السبع، في النقب، وتخصص في تاريخ يهود العراق. له دراسات وبحوث أيضا عن بدو النقب ويعتبر من العالمين في لهجات البدو وعادتهم.
شارك د. نسيم قزاز مع المرحوم البروفيسور شموئيل موريه في تأسيس رابطة اليهود المنحدرين (النازحين سابقاً) من العراق في إسرائيل وبقى عضوا فعالاً فيها زهاء أربعين عاما وهو عضو في مجلس ادارتها.

نبذة عن فصول الكتاب
يعود تاريخ وجود اليهود في بلاد الرافدين الى السبي الاشوري لمملكة اسرائيل في القرن الثامن قبل الميلاد والسبي البابلي لمملكة يهوذا على يد نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد. هكذا يبدأ الكتاب بنبذة تاريخية عن السبي الاشوري والسبي البابلي (وهو الأهم من الناحية التاريخية لتطور الديانة اليهودية) ثم يتناول حال اليهود تحت حكم الفرس، وتحت ظل الاسلام والدولة العباسية، ومن ثم عهد المغول والتتار وأخيرا تحت حكم الاتراك العثمانيين (الفصل الأول). ثم ينتقل تدريجيا وبتفاصيل أكثر عمقا ليصل إلى بداية الاحتلال البريطاني للعراق في عام 1917 ويطلع القارئ على الكيان القانوني للمكون اليهودي في العراق (الفصلان الثاني والثالث).
أما الفصل الرابع فيتحدث عن الاحتلال البريطاني ثم تأسيس المملكة العراقية في عام 1921وبداية حكم الملك فيصل الأول "والعهد الذهبي" ليهود العراق في العصر الحديث. وفي الفصل الخامس يتطرق المؤلف إلى توجه أعلام يهود العراق نحو الوطنية العراقية ومساهمتهم الكبيرة في بناء صرح الدولة العراقية الحديثة. ثم يغور المؤلف في الفصول الخمسة التالية الى اندماج اليهود في الوظائف الرسمية والاقتصاد، الخدمة العسكرية، اليهود في التجارة والمؤسسات المالية، النشاط السياسي والحزبي، اليهود والصحافة.
يبدأ الفصل الحادي عشر بوصف وضع الأقليات في العراق تحت حكم عروبي – قومي ثم يتطرق في الفصل الثاني عشر إلى تصاعد القومية العربية وتأثيرها على بداية تدهور وضعية يهود العراق. أما الفصل الثالث عشر والفصل الرابع عشر فيتحدثان عن يهود العراق في ظل الصراع الصهيوني العربي ودور مفتي القدس حاج أمين الحسيني والى دور المفوضية الألمانية في تشجيع اللاسامية (هنا بمعنى معادة يهود العراق) والفاشية وتمويل النوادي والصحف القومية المعادية لليهود. في الفصل الخامس عشر يتطرق المؤلف إلى الطائفة اليهودية والصهيونية.
أما الفصل السادس عشر فيتحدث بالتفصيل عن مجزرة الفرهود في 1و2 حزيران 1941 والصدمة التي أحدثتها في صلب الطائفة اليهودية وتبعياتها. ويعقب ذلك الفصل السابع عشر ليصف المؤلف كيف توجه الشباب اليهود الى الصهيونية او الشيوعية بعد الفرهود. الفصل الثامن عشر، المعنون باللاسامية الرسمية، يصف كيف اتخذت الحكومات العراقية موقفاً عدائياً ضد اليهود بعد قرار تقسيم فلسطين في عام 1947 ومشاركة الشباب اليهودي (الشيوعي) مع أبناء الشعب العراقي في مظاهرات "الوثبة" المناوئة للحكومة. وفي الفصل الأخير، التاسع عشر، يتطرق المؤلف إلى سن "قانون التسقيط" والهجرة الجماعية ليهود العراق والاستيلاء على ممتلكات اليهود، ويدحض ما اعتيد تداوله في بعض الأوساط الإعلامية العربية والكتب عن أن يهود العراق دفعوا الى الهجرة بسبب "إلقاء الصهاينة قنابل" لإرعابهم. ويختم المؤلف كتابه ببعض الاستنتاجات والعبر والآراء الشخصية.

كلمة أخيرة
من يقرأ الكتاب سيدرك مدى المام المؤلف بالتفاصيل التاريخية والاجتماعية والسياسية التي سردها وكيف نقلها بصدق وموضوعية. أتأمل أن يكون هذا الكتاب نموذجاً حياً عن كيفية إجراء البحوث في مواضيع شائكة والتمسك بالحقائق التاريخية المعتمدة على المستندات في سرد حوادث (لاتزال في ذكرى الكثير من الأحياء الذين واكبوها) واطلاع الأجيال التي لم تعاصر يهود العراق على هذا المكون الذي أول من فقد من مكونات العراق الأثنية والدينية.
أنا متأكد أن الكتاب سيكون مصدراً ثميناً للباحثين في تاريخ يهود العراق إن كانوا من المحيط الأكاديمي في الجامعات العراقية والعربية والعالمية او كباحثين وكتاب مستقلين.
رئيس رابطة الجامعيين اليهود المنحدرين من العراق