تقديم - إيمان البستاني


قبل سبع سنين حين أهداني (سيرة الرماد) كتابه الأول، عرفتُ انه يلقي حجراً في بركة راكدة في (اللطلاطة) قرية الصابئة المندائيين الغافية على النهر جنوب العراق، تدوينه لألتقاطات حياته المبكرة قلب رماد سنينه التي احترقت بذنبه او ذنب غيره، حسبتهُ فرض يؤديه كغيره، بكتاباته سيكون قد شلح عنه وجع الذكريات للدار الأولى، لحنين انتمائه، لمشتركات مع أخوة وأخوات، حبله السري للحياة; أمه التي ترى الأشياء رغم عماها وقد خصص لها نصيباً اوفر في السرد من أبيه، شقاواته، وعيه الحزبي، دراسته للفن، تلمذته على يد رواد الفن التشكيلي في بغداد عندما كان عددهم يعد على الاصابع، تخرجه من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1966، أكماله الماجستير في الكرافيك عام 1970 في يوغسلافيا، والدكتوراه في علوم الفن من معهد البحوث النظرية موسكو 1984، تنقله بين الدول، سوريا، بعدها إلى ليبيا للعمل أكاديمياً في إحدى جامعاتها، ثم إلى عمّان مؤقتاً ومنها إلى النرويج وتونس
قبل أيام وصلني منه (الشوق) ظننته بادئ الأمر كتاب شعر، لأن (يحيى الشيخ) له شخصيات يتنقل بينها بحرية متمكن من أدواتها دائماً، فهو بالأساس رسام له خامات تنوعت بين الكنفاس والكرافيك وصوف اللباد وريش الطيور، واحياناً تجده شاعر له مزاميره كما في (ساعة الحائط) حين جعل النثرُ يقترب من تخوم الشعر، أو كاتب مسرحي في مسرحيته (الدسيسة) جعل فيها نوح يحرق سفينته علها النار تطهر ما عجز عنه الطوفان، او تلقاه قاصاً يمزج الواقع بالخيال كما في (بهجة الأفاعي)، يقول (يحيى الشيخ) عن نفسه :لا تكفيني شخصية واحدة! لا تكفيني حياة واحدة! لا يشبعني أسلوب واحد! ربما لا يكفيني موت واحد

تبين في كتابه الأخير (الشوق) انه عاد ليكون سيري مرة ثانية و يروي سيرة حياته بتكنيك جديد خطر على باله، وهو المعروف عنه أختلافه مع السائد، استحضر روح أبيه من رماده جعله قرينه يحاوره ينتظر منه أجوبة لكل تساؤلاته، أباه الذي مات غريباً ضائعاً فقيراً، و دُفن بعيداُ عن أهله في جزيرة نائية، وهو في الستين من عمره . دُفن بلا طقوس تؤهله للموت وتزين طريقه، حلموا به أهله بأنه يطلب ماءً وجائع، أقاموا من أجله طقساً سرياَ من أبخرة وأدعية وستاَ وستين فطيرة ماسخة مع وليمة من سمك وجوز ولوز وبندق و زبيب وبهذا أرتقت روحه الى عالم آخر ....وقالوا إنه سيظهر لمن يُحب في معراجه، فظهر ليحيى لأبنه كما اراد الأبن من كتاباته للسيرة أن يروي ظمأ الشوق لأبيه ويتبرأ من ذنب انه لم يوف حقه، يبدأ الكتاب بمقدمة ( قال اللّه لداودَ: لا تسألني أن أهبك الشوقُّ...قال داودُ : وما الشوقُّ يا ربُّ ؟) سيحكي هنا (يحيى الشيخ) عن هذا الشوق
ترد على لسان الأب المعجب بالإيغال في التشبيهات وضرب الأمثال وسرد حكايات من عوالمه التي عاشها، صائغ ذهب بارع، تعلمّ الكار من أخواله في البصرة كانوا يبعثوه حاملاً صندوقاً معبأ بالحلي الفضية إلى الميناء ليفترش الرصيف ويبيع الحليَّ على القادمين من خلف البحار، صعد إلى البواخر بعدها وعاد بغنائم كبيرة اضافة لمعاشرته النساء كان يعود دائماً محملاً بقناني الخمرة والشكولاتة و درزن لغات اجنبية تعلم لسانه التحدث بها، عاشر زوجة ضابط إنجليزي اكتشف علاقته وأودعه السجن بتهمة التجسس لصالح الآلمان، توسطوا الآخوال لإخراجه حيث تم ارساله للعيش في فلسطين التي بدأت تعاني من الطاخ والطيخ لهجرة اليهود اليها فتركها وعاد الى بيته كما خرج منه ثم تتسع عوالم الأب ليهاجر الى البحرين
لم يتجاوز (يحيى) الثانية والعشرين حين توفى والده، لم يشعر بفقدانه لكونه كان غائباَ عنه طيلة حياته، لكنه حزن لبكاء أمه وإخوته ...تحمّل (يحيى) مسؤولية الاهتمام بدكان الصاغة بوازع الحفاظ على الإرث، والجلوس حبيساً في مكان ضيق، والتعامل مع غرباء ...وسماع قصص كثيرة وغريبة عن والده منها حادثة موته الرومانسية في فراش خليلته في حضن من يعشق
يبتهج (يحيى) لأكتشافه لعبة محاورة أبيه كأنه حي، تلمس حرصه على اكمال سرد الذكريات خوفاً من فقدان أبيه ثانية، أظن(يحيى)قد دفع ضريبة البهجة وأستحقها بدخوله عتبة ذكرياته بقدمه اليمنى دليل خير فأندلقت التفاصيل عليه مثل شلال هادر، اسماء الشخوص والأمكنة، أنصاف الحكايات التي لم يكملها اصحابها فيعود اليهم (يحيى) في (الشوق) ويجعلهم يكملوا ما استقطعوا، ألتف بروح أبيه كأنها عباءة وأخذ حيفه بقوة من حياة مضت لم تكن على هواه في قسم كبير منها قبل ان يجد كينونته في الفن
في الكتاب يسلط (يحيى الشيخ ) حزمة ضوء قصصية على حياة شبه سرية عاشها أبناء ملته في قرية (اللطلاطة) جنوب العراق ويمزج في حكاياته بخيط فانتازيا كنت قد صادفته في أعمال الكولومبي الساحر (غابرييل غارسيا ماركيز) تذكرتُ ريميديوس الجميلة في (مائة عام من العزلة ) التي طارت بلفحة هواء وضياء، مثل حكاية (يحيى) عن جدته ذات المئة وعشرين عاماً، والتي حظيت بمكانة لم تحظ بها أم من قبل ولقب لا مثيل له (أم الكهنة) كانت تحتضر والكل متأهب لوراثة اللقب السامي، خلال تلك اللحظات كان النمل يعد نفسه لمهمته التاريخية المقدسة ; زحفوا جحافلا وحملوا العجوز وأخرجوها من الغرفة المدخنة بالبخور وهي تسعل، أسجوها على حصيرة من قصب وسحبوها وكأنهم خيول تجر عربة ملكية، في غضون لحظات أختفى كل أثر لها ولهم، او تلك الفتاة التي عشقها الأعمى حيث اعتادوا ان يلتفوا ببعض وسط البساتين، سأل (يحيى) والده عما جرى للعاشقان، رد الوالد : إنه شاعر صعلوك لذائذي أعمى، ابن عائلة كهنوتية عريقة، وهذه ابنة عمه، ولها أخت تكبرها، أشيع أنه عاشرهما معاَ . تزوج الصغرى ولم يعد للكبرى نصيب، لا معه ولا مع غيره من الطائفة، وهربت مع مسلم
أخته الصغرى (مدلولة) ولدت ضريرة مثله، قضت عمرها ما بين النهر والبيت، تنقل الماء . كان النهر يرتفع ماؤه حين تأتيه، عندما كبرت وعجزت، وتعذر عليها العمل; شق النهر شرياناً من تحت البيوت ونبع تحت قدميها
في تبادل للأدوار; يسأل والد يحيى أبنه عن مصير كتاب (الغايات العظمى) بأن (شبيب) قد أورثه كتابه وتوقع بأنه سيصبح خليفة سحره وطلاسمه، يبدأ (يحيى) في سرد واقعة الكتاب المسحور وكيف أستنسخه ومهره بختم ( ليس أنا في المرآة. أنا ابن أمي الطاهرة خارج الزمان والمكان يحملني زيوا على جناحيه الناريين، ويخبئني كيوان في فمه البركاني ........) وأخذ يرسم ويكتب بيد ليست يده ، يسمع شيئاً ولا يراه، يشم رائحة ويهجس كائنات تطوف حوله
تنتهي الرحلة حين شرع أبيه يمشي مهموماً وكأنه تأخر عن موعد، أسرع خطواته خفيفاً، بالكاد كانت قدماه تمسان الأرض، راح صوب الشمس الهادئة فوق الأفق، وكانت تتريث بأنتظاره، دخل قرصها الأحمر، ذاب فيها وغاب ....هو الذي قال في بداية الكتاب : الشمس وحدها تنسج أعمارنا يا ولدي ! أهل الكهف عمروا مئات السنين لأنهم حُجبوا عنها

الشوق ; رواية صادرة عن دار الرافدين في لبنان 2019 بتصميم غلاف للفنان صدام الجميلي ب(96) صفحة ; الشوق تشعر معه بسحر غريب لأنك مع كاتب مختلف مزروع في اقاصي العالم في بلد اسمه (النرويج) كثير من الثلج، قليل من الأصدقاء، كثير من الحكايات