تقديم - إيمان البستاني


الكتاب في الواقع مجرد كأس صغيرة من الجعة، هكذا تصفه الكاتبة (أجاثا كريستي) كتاب صغير يحفل بالأعمال والأحداث اليومية ويجيب على سؤال كثير ما كان يُطرح عليها : أنتِ، إذن، تنقبين في سورية، أليس كذلك ؟ أخبرينا عن الأمر ....كيف تعيشين ؟ في خيمة ؟ الخ .....الخ، معظم الناس على الأرجح، لا يرغبون في معرفة الجواب، فالأمر بالنسبة اليهم مجرد تجاذب لأطراف الحديث، ثم يظهر بين الفينة والأخرى، شخص يعنيه الأمر بالفعل
أجاثا كريستي....الكاتبة البريطانية الملقبة بملكة روايات الجريمة كانت قد صاحبت زوجها الخبير الآثاري الكولونيل (ماكس مالوان) في تنقيباته في سورية والعراق وعاشت مطولاً متنقلة بين التلال والمواقع التاريخية، مع شغفها المتواصل بالكتابة اليومية لذا نراها ترصد في كتابها هذا وقائع الحياة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا، ذلك بكثير من التفاصيل المعاشية الخاصة بالمجتمع السوري بإثنياته المتعددة؛ العربية والآشورية والسريانية والكردية، بعيداً عن ذكر تفاصيل التنقيبات الآثارية من مكتشفات وما الى ذلك، الكتاب صادر من دار المدى بترجمة انيقة من أكرم الحمصي ب (296) صفحة
تعالوا معي ننتف ريش مذكراتها ونتعرف على ما صادفته من بشر وحجر خلال رحلة عمل زوجها، حيث تبدأ قبل سفرها بقائمة تحضيرات منها حملة تسوق ضخمة اولها قبعات سفاري وملابس قطنية بمقاسات كبيرة وكم هو مهين ان يلاحظ الناس ان قياسك منفر كبير هكذا تصف معاناتها، ثم تأتي حقائب السفر الحديثة ذات سحاب، السحاب هذا الاختراع الذي عندما يعطل ينقلب الحال الى وضع مؤسف واقلام حبر تكون مهذبة فقط في لندن وعند اخذها للصحراء ترشق الثياب وكل ما حولها بالحبر بشكل عشوائي، و اربع ساعات يدوية مدورة كالقمر عادة ما يهديها (ماكس) لرؤساء عماله، يرفضون اخذها بادئ الامر وبعد تركيز مؤلم يقررون اخذها
يحرص (ماكس) عند توظيب حقائبه ان يحشوها فقط بالكتب ويود كثيراً لو لم يترك خلفه اي كتاب لذا يدخل غرفة زوجته يسألها إن كان هناك متسعاً في حقيبتها لكتاب او كتابين، تصبح عملية غلق الحقيبة صعبة بعد ان امتلأت فتظطر(أجاثا) للجلوس على الحقيبة المتورمة عسى ان يكون وزنها كفيلاً بسلامة اغلاق سحابها
يتذكر(ماكس) ان عليه شراء قمصان وبضعة جوارب قبل ان تغلق المحلات ابوابها بأقل من ساعة، يعود كما خرج دون ان يشتري لوازمه، توبخه زوجته ويعلل ذلك لأنشغاله الوحيد بالكتب، منضدته تشبه تل آثري الكتب كيفما اتفق، اكوام من الفواتير والرسوم والغبار واعداد لا تحصى من الكسر الخزفية، يجلس في مكتبه بينما تذهب (أجاثا) لتنام ليلتها ليسافرا صباحاً في قطار الشرق السريع في رحلة من باريس الى اسطنبول وحلب وبيروت
في محطة فكتوريا، يتحلق حولهم الأصدقاء لوداعهم يتبادلون العبارات الحمقاء المعهودة، تقول لها شقيقتها وعيناها مغرورقتان بالدموع بأنها تشعر انها لن تراها ثانية، لا تكترث (أجاثا) لما قالته شقيقتها لكثرت ما سمعته منها في كل مرة، تسألها ايضاً نفس السؤال عما يجب ان تفعله اذا اصيبت أبنتها (روزاليند) بألتهاب زائدة، لا يستدعي اصابة بنت ذات أربعة عشر ربيعاً بألتهاب الزائدة، والأجابة الوحيدة التي ترد عليها هي (لا تجري العملية بنفسك!)، يستقلون عربة نوم في القطار المتجه لأسطنبول مستمتعين بالمناظر التي يمرون عليها في سويسرا وايطاليا ويوغسلافيا
عند وصولهم إسطنبول، يصعد موظفو الجمارك الأتراك الى متن القطار ويسألوها لماذا لديها كل هذا العدد من الأحذية ؟! تجيب بأنها لا تحمل سكائر لأنها لا تدخن فلماذا لا تصطحب بضعة أزواج أضافية ! يقبل موظف الجمارك هذا التفسير، ويسألها عن المسحوق في ألعلبة الصغيرة، تقول انه مسحوق للحشرات، لا يصدقها رجل الجمارك وتقوم بتمثيل مسرحية بانتومايم امامه بحك جلدها ثم تقبض على المتطفل و ترميه وترش على مكان الحكة المسحوق، يقتنع رجل الجمارك يضحك ثم يغادر
يصلون بيروت ليلتحق بهم المهندس المعماري (ماك) القليل الكلام والمتجهم دائماً، يقضي الامسيات بتدوين مذكراته في دفتر وقد قرفص ساقيه على سجادته الصغيرة التي يفترشها ويحرص على نظافتها مما يثير فضول (أجاثا) عما يكتبه، وهناك (حمودة) رئيس العمال الذي عمل معهم في أور
تبدأ الأستعدادات بتوظيف طاقم عمل جديد، (عبدالله) السائق له شبه بالجمل يبدو غبياً مما أسعد (ماكس) لأنه لا يمتلك من العقل ما يجعله غير نزيه وتبين لاحقاً أنه اسوأ سائق، كما وظفوا (عيسى) طاهياً له ملامح سودواية وهو أخرق تماماً، تم تأجير سيارة أطلقوا عليها أسم (ماري كوين) اضافة الى سيارة اخرى نوع سيتروين بسائقها وهو رجل أرمني أسمه (أرستيد) بارع في سياقته لكن سيارته متهالكة وله عيب واحد ولعه في السرعة ويطلق بوق مركبته على الطريقة السورية
الفريق يتجه الى الحسكة ونهر جغحغ، الحسكة مكان يفتقر الى الجاذبية يضم شوارع وبضعة متاجر ومكتب بريد المكان الذي يترددون عليه يومياً لأستلام رسائل من لندن او حوالات مالية يعانون المر من تحويلها لنقود وهي المبالغ التي تدفع لهم حكومياَ لتأمين نفقات رحلات التنقيب
في هكذا رحلات تشيلهم فنادق رخيصة وتحطهم خيم بائسة ليصابوا بما يسميه أهل مصر(أسهال مصري) أو في بغداد يسمى ( أسهال بغداد) حرارة وحمى ويكتفي المصاب بقدح شاي وأسبرين
أجاثا كريستي لا تشرب الكحول ولا تدخن وتخفي كأسها اذا ما دُعيت لحفلة، تقول لزوجها مدافعة عن قرفها من الكحول بأن بعض المشروبات تمتاز بطعم اكثر رداءة من طعم سواها والكل له طعم الخل، لذا توجب على (ماكس ) ان يخوض معركة طلب الماء لها في المطاعم التي تعتاد على تقديم المشروب اولاً
كانت تحفظ اللقى الآثرية في جيوب معطفها للحفاظ عليها ريثما يعودوا من تل التنقيب الى مقر سكنهم، يجمع (ماكس) القطع التي يختارها لأهميتها ويضعها في كيس صغير من الكتان ويربطه بأحكام يسميه كالعادة بأسم التل الذي تم العثور عليها فيه، يقول (ماكس) بأن الخريف افضل من الربيع دائماَ في التنقيب عن الآثار، لأن الربيع ينشر نباتاته ويغطي كل شيء
في زيارتهم الى (تل الحلف) هنالك شيء من وقار الحج الى مقام ديني، موقع جميل يلتف نهر الخابور حوا أعقابه، في طريقهم الى نهر جغجغ تطّلب السفر سبع ساعات قيادة شاقة في سيارة (ماري كوين) التي تنغرس في الطين ويتم جرها بحبل ويتولى الجميع أمر دفعها من الخلف قيادة حملة الأنقاذ تكون بأشراف أجاثا لينقذوا السيارة بعد ان يخرجوا وقد غطاهم الطين بالكامل
تل براك على بعد ميلين من نهر جغجغ وساعة من الحسكة، أما تل (شاغر بازار) اي سوق السكر باللغة الكردية يقع جنوب القامشلي، هو تل تحوطه مجموعة صغيرة من المنازل، ينزل الفريق في فندق له سلالم طويلة قذرة والمطعم سطوح طاولاته مصنوعة من رخام تعلوه طبقة سميكة من الشمع والثوم والدخان، ينامون ليلتهم غير آبهين بالبراغيث وفي الصباخ يٌقدم لهم الشاي والبيض ليغادروا من جديد
عبدالله السائق سيد الأشياء المزاجية ومصابيح النفط على الرغم من ان الطبيعة حرمته من الذكاء، وعلى الرغم من أنه سائق أخرق ومعوق عقلياً في كل شيء تقريباَ لكنه أصلح سخّان الماء بلمحة بصر بعد ان فشل المهندس المعماري (ماك) ونشفّ قلوبهم وهو يتفرس السخّان ويرسم خرائط وكأن الأمر يخص مركبة فضائية
أقترب الشتاء وتحتم قضاء عطلة الشتاء حيث لا عمال مأجورين ولا تنقيب حتى الربيع القادم لذا توجه لقضاء أجازته (ماك) في فلسطين ومصر كانت وجهة أجاثا و زوجها منقبّ الآثار ماكس مالوان
يعودون الى بيروت مع حلول ألربيع لينطلقوا الى حلب حيث هناك المتاجر وجهتهم لشراء احتياجاتهم واستئجار سائق من أجل (ماري كوين) لكنه هذه المرة ليس سائقاً (أقتصادياً) بل رجلاً أرمنياً طويل ألقامة تشي ملامحه بالقلق وكان قد عمل سابقاً مع مجموعة مهندسين ألمان، لكن نقطة ضعفه هو صوته المرتفع المشوب بنبرة عويل مزعجة
يلتقي الجميع في (عامودا) رئيس العمال حمودة والمهندس المعماري (ماك) مع أجاثا و زوجها ليستقلوا (ماري كوين) التي فقدت لقبها الملكي واصبحت تُعرف ب (ماري الزرقاء) بعد ان تلقت طبقة طلاء أزرق شنيع، قاموا بتأجير منزل تم تنظيفه وتبييضه بالكلس
تحكي أغاثا كريستي عن كثير من التفاصيل الحياتية خلال مكثها في سوريا، تلك الفترة ومن بين ما تقول عن الطاهي الجديد (ديمتري) الذي يستمر في قلب الفوضى من أجل أعداد وجبة طعام، أما مهمة ترتيب المائدة من أشواك وملاعق وسكاكين حسب الأتيكيت السائد فهو مصدر صداع مزمن له
وبعد العشاء، يعلن صديقهم الكولونيل، باعتزاز، أنه علم ديمتري صنع فاتح شهية. توزع عليهم أطباق في كل طبق منها شريحة صغيرة من الخبز العربي المطهو بالدهن الحار مذاقها كالجبن إلى حد ما، ثم توضع على الطاولة بعض الحلويات التركية وفاكهة مجففة لذيذة من دمشق
الليلة الأولى في (عامودا) في ذلك المنزل لا تنسى لأسراب الفئران التي هاجت لحظة أطفائهم المصابيح بعد أن أندس الجميع في فراشهم لهذا جلبوا (هر) محترف ويعرف المهمة التي تم تكليفه بها بأسلوب تخصصي، بعد (٥) أيام لا أكثر لم يبقى فأر واحد، ظهرت بعدها مشكلة البراغيث لكن روتين الحياة عاد حيث ينطلق (ماكس) الى الأكمة مع فجر كل يوم وتصاحب الفريق (أجاثا) لترميم الخزفيات وتسميتها وحين يعودون للدار تجلس أمام الآلة الكاتبة لتمارس عملها الروائي
يتوافد العمال الذين يتم استأجارهم بأجور يومية من القرى المجاورة، هكذا يجتمع الأكراد و رجال قادمون من تركيا وبضع يزيديين الذين يُطلق عليهم أسم (عبدة الشيطان) وهم رجال دمثون الأخلاق يتمتعون بمظهر سوداوي على الدوام كي يكونوا ضحايا لأضطهاد الغير، العمال الآرمن هم الأكثر ذكاءاً بكافة ألمعايير لكن نقطة ضعفهم تكمن في سلوكهم الأستفزازي فهم ينجحون بأستمرار في إثارة حفيظة الأكراد وألعرب وألشجارات بينهم لا تتوقف حتى يصيح بهم (ماكس) بأنه سيتم تغريم كل من تشاجروا، ويقول لهم : حلوا مشاكلكم خارج ساعات العمل
يصطحبون العمال طعامهم معهم، وهذا الطعام (المكون عادة من كيس من الدقيق وبضع حبات من البصل) ينفذ عادة بعد عشرة أيام فيستأذن العامل في العودة إلى بيته لأن طعامه قد نفذ
تستذكر من خلال أقامتها في العراق الأيزيديين وتصف مقامهم الذي زارته وتعجبت من جمال طبيعة ما يحيطه : يقع مقامهم المقدس، مقام الشيخ عدي، في التلال الكردية بالقرب من الموصل، وقد زرناه ذات مرة، عندما كنا ننقب بالقرب منه، أعتقد أنه لا يوجد مكان في العالم بجماله أو بسكينته، يتجه المرء صعوداً في التلال بين أشجار البلوط والرمان على خطى مسيل جبلي، الجو هناك منعش ونظيف ونقي… يقال إن الطبيعة البشرية هناك على درجة من النقاء يمكن معه للنساء المسيحيات أن يسبحن عاريات في الجداول
يتوافدن النساء على (أجاثا) ظنناً منهم أنها طبيبة نسائية، وما أن يلتقوا بها حتى ينهالون بأسئلتهم : كم عدد الأطفال الذين رزُقت بهم؟ كم عدد الأطفال الذين أجهضتهم؟ وتصف النساء الكرديات بالجمال و روح المرح، تتميز أثوابهن بالألوان الفاقعة ويضعن على رؤوسهن عمائم برتقالية وتزدان أثوابهن بالأخضر والأرجواني والأصفر، رؤوسهن منتصبة فوق أكتافهن بأستمرار وهن يتمتعن بطول القامة وبوقفة تميل الى الخلف مما يجعلهن يبدون شامخات، يتمتعن بوجوه برونزية ملامحها منظمة و وجنات حمراء وعيون زرقاء عادة، أما الرجال الأكراد لهم وجوه حمراء قرميدية وشوارب بنية كثة وعيونهم زرقاء ومظهرهم عسكري صارم
تصف النسوة العربيات بأنهن متواضعات على الدوام ومنكمشات ويَشِحن بوجوههن بعيداً عندما تتحدث إليهن، ملابسهن متواضعة سوداء او ذات ألوان قاتمة ولا يمكن لامرأة عربية أن تتقدم من رجل وتخاطبه ! أما المرأة الكردية، فلا ريب أنها كالرجل تماماً، إن لم تكن أفضل ! فهن يغادرن بيوتهن ويمازحن أي رجل ويتمتعن بود كبير ولا تتردد المرأة الكردية في مخاشنة زوجها، الأمر الذي يصدم بعض العمال القادمين من جرابلس الذين لا يعرفون الأكراد جيداً
تتم محاسبة العمال يومياً في الساعة الرابعة تقريباً ويقفون على شكل طوابير بعضهم يتلقى البقشيش اذا ما عثر على قطعة لها قيمة آثرية ويضعون في السلال ما يتم أكتشافه من اللقى
شهر كانون الأول يقترب وبهذا تحل نهاية الموسم، في الأجواء لمسة من الحزن، ربما بسبب الخريف وهم المعتادون دائماً على الربيع او ربما بسبب الشائعات المتداولة والتحذيرات من اظطرابات أوربية، هنالك إحساس هذه المرة بأنهم قد لا يعودون
يغادرون بيروت بالسفينة، تقف (أجاثا) عند حاجز السفينة تنظر الى جبل لبنان الذي ينتصب بعيداً شاحباَ أزرق يناطح السماء، تتذكر دارها ذو القبة الذي يبدو كأنه مقاماً مكرساً لأحد الأولياء! ، الهر المحترف، وجه المهندس (ماك) المتجهم وكم تمنت لو عرفت ماذا كان يدون في مذكراته اليومية، النسوة الكرديات اللواتي يشبهن زهور التوليب، تتذكر تلك الأيام بكل تفاصيلها وشخوصها وتلتفت الى زوجها (ماكس) قائلة : كم إنه أسلوب جميل للحياة