كيف وصف الحسن الوزان بلاد السودان في "وصف إفريقيا "؟هل تمكن من وصف وفهم المجال السوداني والإحاطة بمفاتيحه ؟أم اكتفى بوصف ذاتي بل ذاتاني ،للظواهر والسمات المميزة لمجال بيئي وثقافي مختلف ،عمقيا ،عن المجال الثقافي –الحضاري المتوسطي ؟
قدم الحسن الوزان إفادات هامة عن اقتصاد وأنماط التنظيم الجماعي وثقافات السودان الغربي .
وقد استقى معلوماته،من خبرته الميدانية ،ورحلاته ومعايناته واحتكاكه المباشر بفئات متعددة من أهل السودان .فهو لا يكتفي ،بالمعلومات المتداولة،في كتب الجغرافيا والمسالك والممالك والتاريخ العام والرحلات ،بل يمتح من خبرته ومعايشته الحميمة للمجال السوداني.
(وكنت حاضرا عندما وفد عليه(يقصد عمر أمير مملكة كاوكا) رجل من دمياط وأهدى إليه فرسا في غاية الجمال وسيفا تركيا ، وزردا وبندقية ،وبعض المرايا الجميلة ، وسبحات من المرجان وبعض السكاكين ،يقدر ثمنها كلها في القاهرة بخمسين مثقالا..)-1-
وقد قدم الحسن الوزان معلومات ثرة عن جغرافية وديمغرافيا واقتصاد المماليك التالية :ولاتة ،غينيا ،مالي ،تنبكتو ،كبرة ،كاغو،كوبر ،أغدس ،كانو، كاتسينا ،زكزك ،زنفرى ،وانكرة ،بورنو ،كاوكا،النوبة.
وقد اعتنى بالتوطين الجغرافي للممالك السودانية ،و بالديمغرافيا والمنتجات الزراعية والمبادلات التجارية والعلائق السياسية والتنظيمات الاجتماعية –الثقافية .وفيما يستقصي بعض مظاهر الاقتصاد والنشاط التجاري ،فإنه يلمح إلى غياب حياة اقتصادية منظمة ومهيكلة ،وذات آثار ومفاعيل اجتماعية وسياسية وثقافية قوية .
يجني تجار مملكة غينيا أرباحا كبيرة ،من تجارة قماش القطن مع تجار المغارب ،المتاجرين بالثياب الأوروبية والنحاس والأسلحة.ورغم كل تلك الأرباح ،فإن العمران لم يستبحر في تلك المملكة ،ولم يعرف أدنى توسع.فعدا قرية واحدة ،لا تعرف تلك المنطقة عمرانا يعتد به ،كما لا تعرف رغم الرواج التجاري غير التعامل بالذهب غير المسكوك.
وعرفت مملكة كوبر بنساجي القماش والاسكافيين صناع أحذية مشابهة للأحذية الرومانية القديمة؛وتصدر هذه الأحذية إلى تنبكتو وكاغو.وقد افتقر أغنياء كوبر بعد استيلاء الملك أسكيا ملك تنبكتو على كوبر وفرضه ضرائب ثقيلة على سكانها وأسر واسترقاق جزء منهم.
كما أن موارد مملكة كاغو كبيرة ،إلا أن أثمنة المستوردات فيها مرتفعة جدا،وخاصة :الأحصنة والأقمشة والسيوف والمهاميز والأعنة و أدوات الخياطة والعطارة.ويلاحظ الوزان أن قطع الذهب الخالص أو الذهب غير المسكوك كثيرا ما تنفق في مملكة تنبكتو ومملكة غينيا في شراء سلع غير قيمة محلية أو مستقدمة من آسيا أو أوروبا.
وفيما عدا بعض القرى والمدن ،لم يعرف المجال السوداني ،تحولات عمرانية أو إنتاجية كبرى تذكر.ولذلك كان من الطبيعي ،أن يحتفظ القرويون بأنماطهم التنظيمية وأطرهم التصورية المتوارثة عن عهود ما قبل الحكم المرابطي و التجارة القوافلية والمثاقفة.
(ويتكون باقي المملكة من مداشر وقرى يعيش فيها الفلاحون والرعاة ،مرتدين جلود النعام في الشتاء.أما في الصيف فيمشون عراة حفاة ،غير أنهم يسترون عوراتهم بمئزر صغير ،وينتعلون أحيانا بنعال جلد البعير .)- 2-
يتميز المجال الموصوف بسمات طبيعية وبيئية وتنظيمات اجتماعية وسياسية وبنيات تعبدية ،مخالفة للمعهود في المجال المغاربي و المتوسطي.وينطوي الوصف في "وصف إفريقيا" ،ضمنا أو صراحة ، على مقارنة بين مجال الذات المطبوع بالتحضر وتبلور مؤسسات فكرية وإدارية منظمة ومجال" الآخر "المتميز بمؤسسات وبنيات غير متعضية أو بدائية.
(وجميع الأماكن المسكونة في هذه البلاد(يقصد مملكة كاتسينا ) قرى من أخصاص قبيحة المنظر ،لا يتعدى سكان أي واحد منها ثلاثمائة كانون ، وهنا يجتمع الفقر والدناءة . )- 3-
لم يعرف المجال السوداني ،كما وصفه الوزان أنظمة سياسية قوية ،قادرة على توحيد الممالك السودانية ،وعقلنة استعمال موارد التجارة ،والتغلب على إكراهات وخصائص المحيط البيئي ،وتوسيع العمران وبناء شبكات متطورة للتنقل .وقد عاين الوزان تضرر تجارة مملكة وانكرة ،بسبب صراع ملكها مع أسكيا في الغرب والملك إبراهيم ملك بورنو في الشرق.
ولا تخلو المجاذبات السياسية في المجال السوداني ،من حوافز اثنية و من محركات ثقافية محلية ؛فقد تمكن أبو بكر أسكيا ،ملك تنبكتو ،من إنهاء حكم أبناء سني علي ،وتخليص القبائل والتنظيمات السياسية المحلية من سيطرة الليبيين.
والملاحظ أن المجال الموصوف مطبوع على غرار المجال المغاربي الوسيط ،بثنائية سياسية –ثقافية صميمة ؛ففيما تخضع الحواضر والقرى التجارية للنسق السياسي الشرعي ،فإن القرى والمساحات الطرفية ،تخضع لنسق سياسي عتيق ،لا يلتفت الوزان إلى بناه ووظائفه الاجتماعية والثقافية إلا عرضا .
ليست مجتمعات السودان العتيقة لا سياسية ،رغم افتقارها إلى مؤسسات وبنيات معادلة أو مكافئة للمؤسسات والبنيات المطورة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط ؛فبما أنها تصدر عن نسق ميثولوجي شمولي ،وتعتمد على الرمزي في الفهم وتحديد العلائق والتراتبيات وإدارة العنف ،فإنها سياسية في العمق .ومن المؤكد أن التغافل عن دور الرمزي والأساطير في بناء متخيل سياسي مختلف في المجتمعات العتيقة ،يمنع من إدراك تماسك هذه المجتمعات،وقدرتها على التأقلم والاستمرارية والاحتفاظ بسماتها الأنثروبولوجية ومخيالها الجمعي .
(يسكن هذه البلاد كلها قوم يعيشون كالبهائم،لا ملوك لهم ولا أمراء ولا جمهوريات ولا حكومات ولا عادات ،يكادون لا يعرفون زرع الحبوب ،ويلبسون جلود الغنم.) -4
إن غياب البنيات والمؤسسات السياسية التقليدية المعتادة في المجال المتوسطي أو في الفضاء الثقافي السامي –الإغريقي ،لا يعني بأي حال من الأحوال خلو المجال السوداني-في هوامشه الطرفية تخصيصا- بالكلية من بنيات سياسية أو تنظيمية.فرغم غياب الفكر السياسي أو الفكريات السياسية ،في المجالات العتيقة ،عامة ،فإن" الحقائق السياسية" حاضرة فيها ،كما برهن على ذلك المتخصصون في الأنثربولوجيا السياسية.فقد طورت تلك المجتمعات ،آليات لتنظيم الخلافات و إدارة العنف والنزاعات وتوزيع الأدوار ،والموارد واتخاذ القرارات وبناء التحالفات.
إن التحكم في العنف في بعض المجتمعات السودانية ،دليل على وجود نسق ميثولوجي ،منظم للعلائق الجماعية والاجتماعية .
و الواقع أن هذه المجتمعات تحتكم في إدارة شؤونها إلى إطار سحري –ديني نافذ،ومتسق يربط بين النظام الكوني والنظام السياسي والاجتماعي .وعليه ،فمراعاة النظم والقواعد الاجتماعية والسياسية ، مراعاة للنظام الكوني .إن المواضعات الاجتماعية والظواهر الطبيعية والكونية ، صادرة ، من منظور الميثولوجيا الإفريقية ، عن نفس المصدر.
(يسير أهل البلاد عراة في الصيف بمآزر من جلد،ويتدثرون في الشتاء بجلود الغنم،ويفترشونها كذلك.وهم بشر لا ديانة لهم لا نصرانية ولا يهودية ولا إسلامية ،بل لا إيمان لهم كالبهائم ،يشتركون في النساء والأولاد.)- 5-
والواقع أن الوزان يغفل عن غلبة الطقسنة الكلية للحياة الاجتماعية ومكانة الرمزي في السودان.ولا تتضح دلالة كثير من الممارسات والظواهر المستطرفة أو المستغربة عادة( التلثم والأدامة والقربانية ....) ،إلا بسبر بنية ودلالة المقدس ووظائف الطقسنة في هذه المجتمعات. إن لكل الممارسات والسلوكيات ،في المجتمعات العتيقة ،سندا ودعامة ميثولوجية.وعليه ،فمهما كان الفعل ناسوتيا أو يوميا نافلا (الزراعة والقنص والصيد والأكل والجنس والعمل ...الخ) ،فهو محكوم بخلفية ميثولوجية.
و الملاحظ أن ثمة تماثلا في تمثل الغيرية الإفريقية بين الحسن الوزان ومارمول كاربخال.فكلاهما يصدر في الواقع عن إبستيمية متماثلة .
(باستثناء كاو،لا يوجد في بقية المملكة سوى مداشر يسكنها الفلاحون وأهل البوادي الذين يعيشون في حالة بدائية كالوحوش ،يكتسون في الشتاء بجلود الحيوانات ،ويظلون عراة حفاة في الصيف ،نساء ورجالا ،لا يسترون عورتهم إلا بقطعة صغيرة من الثوب. )6-
وقد أشار الحسن الوزان ،في معرض حديثه عن ديانة قدامى الأمازيغ ،إلى تبلور الفكر الديني لدى الأفارقة السود،واهتدائهم إلى تصورات شبه توحيدية.إلا أنه لم يستقرئ دلالات هذا الاهتداء ،و لم يشر إلى قوة الاستذهان أو التأمل الروحي لدى أهل السودان في الفصل المخصص لفضائهم الجغرافي و الثقافي في سفره.
(ومن المعلوم أن أفارقة نوميديا وليبيا كانوا يعبدون الكواكب ويقربون إليها القرابين ،وأن بعض الأفارقة السود كانوا يعبدون "كيغيمو" ومعناه في لغتهم رب السماء.وقد أحسوا بهذا الشعور الحسن دون أن يهديهم إليه أي نبي أو عالم.) 7-
والحقيقة أن الحسن الوزان ،يبرع ،غالبا ،في الوصف والعرض ؛إلا أنه لا يفلح ،غالبا ،في إنارة مستغلقات الموصوفات ،وفي فهمها أو تأويلها ،وتمثل نظامها ونظيمتها.فخلافا للظاهر ،فغيرية المجال السوداني ،معقدة و لا يمكن سبرها ،دون تجاوز النظرة البرانية،والتخفف من المسبقات النظرية والأطر الفكرية الراسمة لمنظور الذات.
ليس الرحالة مطالبا بالتماهي مع الموصوفات وتسويغها ،بالكلية ،بل هو مطالب ،بوضعها ضمن سياقها الدلالي والتاريخي وفهم نسقها كما تتمثله الثقافة المحلية.
وبينما يكتفي الجغرافي أو الرحالة أو المؤرخ أو الإخباري،بالوصف والإخبار والمقارنة الصريحة أو الضمنية ،فإن الأنثربولوجي يجمع شتات المعاينات والمشاهدات،ويبحث عن الخيوط الناظمة للمعتقدات والسلوكيات والظواهر الطقوسية أو الاجتماعية المرصودة،والنفاذ إلى العالم الدلالي الكامن خلفها.
تجتمع في المجال الموصوف ،المؤالفة والمخالفة، المشابهة والمغايرة،المماثلة والمعاكسة؛وفيما يستعرض الوزان بإيجاز عناصر المؤالفة والمشابهة والمماثلة ،فإنه يركز على عناصر المخالفة والمغايرة والمعاكسة والتمايز. والحقيقة أن إبراز عناصر المخالفة وتثبيت موقع الذات ، هو مقصد كل كتابة عن الآخر .

الهوامش :
1-(الحسن الوزان ،وصف إفريقيا ،ترجمه عن الفرنسية :محمد حجي ومحمد الأخضر،دار الغرب الإسلامي ،بيروت ،لبنان ،الطبعة الثانية 1983،الجزء الثاني،ص.179.)
2-(الحسن الوزان ،وصف إفريقيا ، الجزء الثاني ،ص.170.)
3-(الحسن الوزان ،وصف إفريقيا ،الجزء الثاني ،ص.173.)
4- (الحسن الوزان ،وصف إفريقيا ،الجزء الثاني ،ص.159.)
5-(الحسن الوزان ،وصف إفريقيا ، الجزء الثاني ،ص.176.)
6-(مارمول كربخال ،إفريقيا ،ترجمة عن الفرنسية: محمد حجي ،محمد زنيبر ،محمد الأخضر ،أحمد التوفيق ،أحمد بنجلون،دار نشر المعرفة،1989،الجزء الثالث،ص.205.)
7-(الحسن الوزان ،وصف إفريقيا ،الجزء الأول ،ص.67.)

اكادير -المغرب