بقلم وديع شامخ

"عندما ينظر الله في المرآة" ـ مختارات من الشعر الأسترالي، الناشر: ديار للنشر والتوزيع ـ تونس. وللوهلة الأولى يضعنا المترجم الشاعر شوقي مسلماني في مقدمة الكتاب في تناصين أو شبهتين حول مهمة الترجمة: الأولى كونها خيانة، حسب المثل الإيطالي، والثانية بوصفها كذبة في عنوان التقديم " كذبَ المترجمون ولو صدقوا" تماهياً مع الحديث النبوي "كذبَ المنجّمون ولو صدقوا ". وهو مهاد عميق يشير الى المهمّة العسيرة لناقل الشعر وليس "كناقل الكفر". يقول في مقدمته المعنونة - كَذبَ المترجمون ولو صدقوا- "لم يخطر ببالي وأنا أُترجم قصائد لشعراء أستراليين، أصولهم من جنسيات مختلفة، سأضمّنها يوما في مختارات شعرية.. ولكن بالنهاية أنا الذي أخترت، ولم أختر إلا ما وافقني، وقد نشرتها سابقا في جريدة النهار اللبنانية تباعاً، كي أحقّق رغبة أصدقائي الذين أثنوا على الترجمة، ورغبتي في تقديم بلدي الثاني أستراليا للمهتمين في بلدي لبنان وبلاد العرب شعراً يعكس بعضاً مما يعتمل في أنفس كريمة، حدودها العالم، والتأكيد أنّ الوجه ينفرج ويكفهر وينفرج، والأكيد أنّ في القلب دائماً حباً أكثر ".
يمارس شوقي غواياته الشعرية في إستلال العنوان من شطر شعري "أحلمُني متسائلاً ماذا يرى الله في المرآة" للشاعر بيتر باوسكي الذي جاء ترتيبه الأخير في المختارات، بين نهاية لعنونة ومقدمة مفتوحة سوف نقرأ المختارات، بعد أن ترك باب التأويل والقراءة المنتجة للقارىء. ولا بدّ أولاً من الوقوف تقديراً لهذا الجهد الجمالي للشاعر شوقي، وهو تجربته الأولى في إصدارات كتاب مترجم ضمّ في دفتيه نخبة طيبة من شعراء وشاعرات أستراليا من ثقافات وأصول عرقية مختلفة تمثل طيف قوس قزح والتعدد الثقافي للمجتمع الأسترالي في حقل الشعر، ولكننا نلاحظ عدم وجود أي صوت شعري من إصول عربية، وهذا ما يبعث التساؤل حول جدية الشعراء والشاعرات من الأصول العربية في تجربة الكتابة باللغة الإنكليزية وجدواها في حقل الشعر المهجري. الشعر الذي إختاره مسلماني يندرج إجناسيا تحت خيمة قصيدة النثر، ولعلّ سياحة القارىء المنتج سوف تصل الى عدّة أبعاد ومحاور في توصيف هذه الرحلة التي أمتدّت الى 188 صفحة من القطع الوسط وبواقع 21 شاعر وشاعرة وبنصوص متفاوته في الطول.
تتمتّع نصوص المختارات بوصفها قصائد الخبرة اليومية وتفاصيلها المتشعبة، وسوف يكون لي خياري في قراءتي للنصوص، والمرور على أهم ما يميز المبدعين من اشتغالات إسلوبية وجمالية في إطار قصيدة النثر، وليس بالضرورة ذكر كلّ المنتخبين في هذه المختارات، لتشابه الاشتغالات. فنرى عند "غرانت كالدويل" بساطة وعمق في نحت الصور الشعرية من المألوف اليومي، فيما نجد عند " مايكل شاركي " روح المفارقة السوداء بشعرية الهمّ الإنساني. لكن "فضاء اللاجئين الشائك" عبر شعراء مثل "كولين. ز. بورك، بينولي غرايس، جاكلين بازويل، وتيريل جورج".. نتلمس نصوصاً إنسانية ولافتات حمراء تشير بأصابع واخزة الى محنة الوجود الإنساني المقذوف بقسوة الى المهاجر النائية، وضياع الهوية الإنسانية في معسكرات الإحتجاز لللاجئين القادمين من أنهار الدم وبحار الموت الى الفردوس الموعود. "فيل دُويل" يذهب في نصوصه الى إشارات تهكمية وجرأة في مساءلة المقدّسات مع مفارقات عميقة، ونقد سياسي بطريقة شعرية. في "زمجرة الغوريللا" نجد عند " أنتوني. ج. بينيت" غرابة في العنونة ورثاء مرّ للواقع من خلال تفكيك شعري للواقع سياسياً، دينياً وفكرياً وجمالياً. أما "آدم آتكِنز" نطالع زفرة إنسانية شعرية في نبذ العنصرية بصور شعرية مبهرة عبر نص "كاجو افريقي". عند "دايفيد وانزبرو" تظهر روح السوريالية بنسيج شعري شعري مغمس بالافكار العميقة. كما نتلمس مشاهد التحولات النفسانية وحوارات الريف والمدينة في صياغة فكرية باسئلة كونية .
حين نصل الى "إيما لو" في نصها - حواء مشاكسة - سنتكشف بعدا كونيا في حكاية حواء بوصفها عنوانا مفارقا اولا ومشاكسة للحكاية الأصلية. عند "آن فيرون" سيختلف الامر تماماً، إذن نحن أمام توليفة شعرية خالصة، ففي نصّها "ظلال التين والزيتون" نتلمس وجود مقاطع من نصوص شعراء فلسطينين "سميح القاسم، محمود درويش، فدوى وإبراهيم طوقان، مي صايغ، توفيق زياد، وختام التوليفة للشاعر ابي الطيب المتنبي. وهنا نتلمس المناخ العربي الشعري لكن من خلال شاعرة غير عربية. وعند الشاعرين "جون ميليت، وغراهام رولاند" ستكون الصرخة الإنسانية عالية من خلال نقد صارم لآلة الحرب والعالم الراسمالي، وللدكتاتوريات عامة بصور شعرية بسيطة ولغة عميقة . يُعمّق "ل. إ. سكوت" نصوصة بفرادة أسلوبية وأقنعة مختلفة وإستعارات عميقة، بينما نرى الشاعرة "مورين تِن" تغوص في محلمة الحب الآلهي في أسئلة وجودية تطلقها بفضاء الشعر الكوني، بشكل ومضات شعرية مبهرة. وسوف نجد الصرخة الإنسانية مائلة في نصوص "آن ديفيس"، من خلال الإحساس بالتمييز العنصري، والتماهي مع الآلآم الإنسانية وصولا الى الحلم بمستقبل مشرق بالحب .
الشاعر "كيفن هارت" يبرق لنا بومضات شعرية خاطفة على شكل سطر واحد لكل مقطع، وهذا تعبير أسلوبي جديد على نمط كتابة النصوص في هذه المختارات . وفي نصوص "بيل تيبن" نقرأ تأريخ أستراليا عبر سيرة السجناء البريطانيين، أوائل البيض الذين وصولوا الى استراليا كسجن ومنفى لهم بعد أن تحولت الى حياة آمنة . وعند "جي. جي. إنكرنكاو" نجد أريحية ومفارقات شعرية عميقة ووعي عالٍ في فهم العلاقة مع المقدس – الله - ومسك الختام مختارات من شعر الشاعر "بيتر باكاوسكي" ومن نص له استل شوقي مسلماني عنوان الكتاب " عندما ينظر الله في المرآة"، حيث نرى العمق الدلالي للنصوص وموضوعاتها المبتكرة، بصياغات شعرية مدهشة، مEتوجاً نصوصه بعناوين ماكرة.
وهنا قصائد من المختارات:
(نيران كثيرة في أفواه كثيرة)
أريدُ قصيدتَك
أن تحوّل بطاقتي بالقطار إلى كنار
أن تدوّي كرصاصةٍ في ديرٍ للراهبات
أن تكون عزاءً للبائس
الذي لا يتخطّى بصرُه حافّةَ كأس بيرة في يده
أن تجعل الحاجبين نملاً يحمل رِقّاً
أن تعزف على القيثارة في كوابيسي الليليّة
أن تضرمَ النارَ في مصيدةِ النظامِ الطبقي الإنكليزي
وسأرقص مع مثل هذه القصيدة تحت ثريّا مِنَ الأسماك.
**

(وهبونا)
وهبونا سربَ أسئلة تدور وتدور
بينما الشمس تصعد في السماء
لتقرِّر يوميّاً أن تكون راعية أو أن تكون مستبدّة
وهبونا كوْمةَ أطفال يتعلّمون الفارق
بين إشاراتِ الوقوف وإشارات الرغبات
رؤوسُهم اليافعة ترضّها أصوات كثيرة
تدّعي حيازةَ الحقيقة
وهبونا بعضَ موسيقيين رائعين
فتّقوا عزائمَهم على المسرح
نافخين سلّمَ النوتات في الهواء القلِق، وآخَرَ وآخرَ
متسلّقين السلالم لكي يقولوا لنا ما يرونه مِنْ فوق
انغسلتْ أرواحُنا الخاطئة بالموسيقى، نزلوا متردّدين
راجعين إلى الرصانة، الإنكسارِ والحزن
وهبونا كلمات رائعة، مثل الحلم، الثقة والرحمة
لنغطّي بها قلوبَنا
وهبونا الحظّ والموت اللذين لم يفهمهما
لا أينشتاين ولا عصفور الدوري
من أجل تحريضنا على تجارب في الشجاعة.
**

(قمرٌ)
تتلوّى حيّةُ الكوبرا من أجلك
أنتَ يا من تجعل مِنْ كلِّ طيف رسولاً
تحشو الرؤوسَ النائمة بأفكارِ المسدّس
يا كاهنَ الضوء المستوحِد انتهى زمانُك
أنتَ تُقبِّل جلدَ المحيط واهناً
كلُّ ما تبقّى في سماء الليل قشْرةُ حسدِك المرّ.
**

(رسالة)
لم أفهم يوماً معنى القوّة ولا الحاجة إليها
أريد أن أقول شيئاً عن هذا العالم، أن أصف عازف بيانو
يصنع إطاراً رائعاً للصمت
كيف تدغدغ الريحُ أضلاعَ بركة ماء
كيف يعومُ الحبُّ مبتعِداً عن قفصِ المعجم
عندما تسقط وريقةٌ في بحيرة ماذا تقول للإوزّة؟
يا طاووس الجند إنّك تظنّ إنّنا أقل مِنْ بيضة في صحنِ فطورك؟
إليك أهبُ صراخي موسيقى، وأنت تتشهّى دمَ الأمم.
**

(قزم برأس جميل وأحلام كثيرة)
أحلمُ بقزمٍ رأسه جميل، بكآبةِ البهلوان
ببسمةِ الزاني البلاستيكيّة، بما يفكّر به شنّاق
بنواطيرِ المنارات، بخفرِ الصرَعِ الأزرق
بإطفائيين يخمدونَ النيران بمواء قِطّة
بالشيطان يعبّ الجعة
براعي بقر يحطّم كرسيّاً فوق رأسِ إيغور سترافنسكي
أحلمُ بجاندارك تضحك، بقساوسة يقامرون
بزوارق ملأى بعصافيرِ الدوري
بنزيفِ هزّاتٍ أرضيّة
يقعُ الفقيرُ أيضاً فريسةَ أنيابِ الطبيعة
أحلمُ بشهامةِ الإوزّ الفريدة
بالذي اخترعَ النابالم، بطفلٍ يشتري مسدّسَهُ الأوّل
ببلطة قاطعِ الرؤوسِ الملطّخةِ بالدمّ
بمُشعِلِ الحرائق مغنّياً
أحلمُني أعبر النرويج، أحلمُني أبكي في بيتٍ للمجانين
أحلمُ بالسماء تمطر دماً فجأةً والجميع يصرخون في الشوارع
أحلمُ بمآلِ الإنتحارِ المفجِع تاركاً القطيع في دائرةٍ مشتعلة
بقبلاتِ شوكٍ مِنْ أسف القطيع، بالمتخفّين في وسائل النقل
بآكلي النار، بالنسّاك في الجزائر، بإيمانِ الألباتروس
بدمعة نابليون الأخيرة، بمشرَّدين ينامون على درج "بنك"
برصاصات قتلتْ رجالاً أيديهم كانت تمسك بالمحاريث
وبأيدي الصبايا الراقصات، أحلمُ بكلِّ الدموع
التي ذُرِفتْ في روسيا، إيرلندا وبولندا
بأطفال يتقافزون بين الألغام
بالرجل الذي يضع رأسَ أفعى في فمه
بالرجال الذين يضعون فوّهات البنادق في أفواهِهم
بزفرات متسكّع مهيض الجناح
بما يفكّر به صبيّ الصحف الأبكم
أحلمُني متسائلاً ماذا يرى اللهَ في المرآة؟
أحلمُ بحبّ يكون بسيطاً كرشّاشةِ الزرع
بحبٍّ يرفرفُ متسامياً فوق الشرح
بحبٍّ مثيرٍ كالحريّة
بالموت فيما المطر يقصّ عليّ قصّة
بالموت ناسياً لغةَ الندم
بالموت مثل شجرة
نافضاً الخريفَ، ببساطةٍ، عن كتفَي
بموتٍ بسيط وليس بشظيّة
كم أتمنّى أن أموت وقد نقلتُ إليكم
كلَّ الأشياء الجميلة التي في قلبي
كي تدور وتشتعل