ثنائية لطالما شغلت الجمهور العربي، الذي لطالما كان منقسماً، ولا يزال، بين عِشق أبو وحيد وشجنه وحزنه، وبين الهيام بالعندليب ورومانسيته وحزنه، وهذا الحزن الذي جمعهما ورافق مسيرتهما الحياتية وكان جزئاً من شخصيتهما الفنية، هو الذي وضعهما جماهيرياً ولعقود في مقارنة غير منصفة. ففريد الأطرش موسيقار عظيم مُجَدِّد وعازف عود أسطوري ومطرب متمكن. أما عبد الحليم حافظ فهو مطرب متمكن، ليس لمساحة صوته العريضة فهي محدودة، لكنها جميلة طبعاً، بل لألمعية أداءه وبراعته في التعبير عَمّا يغنيه بأحاسيسه الجياشة. الموسيقار محمد عبد الوهاب نجح في البقاء بعيداً عن هذه المقارنة، لأنه فضل التعبير عن نفسه كموسيقار أكثر مِن مطرب، فترك الغناء وإختار أن يكون صانع المطربين بدلاً من أن يكون واحداً منهم، وهو ما لم يفعله أبو وحيد، الذي كان الغناء جزئاً أساسياً من شخصيته الفنية، وهو ما أزعج العندليب الذي كان يراه منافِساً صلِباً عتيداً لا يقوى على إزاحته من الساحة، أو تغييبه عنها، كما فعل مع محمد رشدي وكارم محمود ومحرم فواد وعبد العزيز محمود، الذين إنزَووا شيئا فشيئا أمام تيار عبد الحليم الجماهيري الجارف، الذي كان يرى هذه المنافسة أشبه بالمعركة التي لا بد أن تنتهي بفوزه، بالإضافة طبعاً الى الدعم الحكومي له من سُلطة الرئيس جمال عبد الناصر، التي كان أشبه بالمُتحَدِّث بإسمها فنيّاً، رغم أن الأخير تدخل أكثر من مرة لتهدأة الأجواء بينهما.
رغم كل ما ذكرته وهو موَثّق، كانت العلاقة بين العملاقين إستثنائية بكل المقاييس، فقد كانا صديقين مُقرّبين جداً، وكانت لقائاتها وسهراتهما شبه يومية أحياناً. هنالك الكثير من الصور التي توَثِّق ذلك، أحصَيت منها أكثر من25 صورة بأوقات وأماكن مختلفة، لم أحصي مثلها لكل منهما مع غيرهما من الفنانين، يبدوان فيها وهما يتسامَران ويُغَنيّان سوية مع باقي زملائهما مِن الوسط الفني، ويظهر أبو وحيد فيها وهو يحتضن العندليب، أو يُطعِمه، أو يجالسه على فراش المرض، لكن كل هذا لم يشفع له عند حليم على خشبة المسارح التي كانا يُغنيّان فيها، أو في حفلة شَم النسيم التي إعتاد فريد إحياءها مدة 25 عاماً، وبعد مغادرته مصر وإستقراره ببيروت لفترة إنفرد حليم بإحياءها، وبعد عودة فريد أصر حليم على أن يتواجد فيها كنِد له، وأن يزاحمه على أسبقية الظهور أمام الجمهور، فالأنا عند حليم كانت طاغية، بعكس فريد الذي كان يعيش للآخرين، لذا كان يؤلِمه ما يفعله حليم، رغم ما يربطهما مِن علاقة استثنائية، ويبدو هذا الأمر واضحاً في اللقاء التلفزيون الذي جمعتهما فيه الإعلامية آمال فريد للصلح بعد ما أشيع عن وجود خلاف بينهما.
مِن الأمور التي لفَتَت إنتباهي في هذه الثنائية، هي قصة أبو وحيد والعندليب مع المُمَثلتين لبنى عبد العزيز وزبيدة ثروت، اللتان شاركتا كل من فريد وحليم أحد أفلامهما، فقد كان لزبيدة ثروت "يوم من عمري" مع حليم، و"زمان يا حب" مع فريد، وكان للبنى عبد العزيز "الوسادة الخالية" مع حليم و"رسالة من إمراة مجهولة" مع فريد، وقد كان للأخيرة قصة طريفة مع حليم تُبَيّن موقفه من فريد وطريقة تعامله الصبيانية معه، رَوَتها بأكثر من لقاء تلفزيوني، آخرها مع الإعلامية راغدة شلهوب، إذ تقول: "بعد أن سمع حليم بأني سأعمل مع فريد في فيلم رسالة من إمرأة مجهولة، سَلّط كل البلد عليّة، أصحابي وأهلي، وألّب الصحافة على الفيلم، وأخذني بيده الى السينما وإصطحب معه عشرة أنفار ليُريني أحد أفلام فريد كي لا أعمل معه، رغم ذلك في النهاية عَمَلت الفيلم، لأن القصة كانت عميقة والدور كان دَسِم وعجبني، وحقق نجاح أكثر من الوسادة الخالية، الذي هو مِن أقل الأفلام اللي بحبها". ولأن رسالة من إمرأة مجهولة حقق حضوراً أكبر وأثراً أمضى من الوسادة الخالية، على الأقل بشهادة بطلته، غَضِب حليم، مما دفع بأستاذه وصديقه الشاعر والناقد الكبير كامل الشناوي لكتابة مقال عن الفيلم بعنوان "ليسَت المسيح لتُحيي الموتى" قصد منه توجيه رسالة للنجمة مفادها "أن فريد ميت سينمائياً وليس نجماً وأنتِ لستِ المسيح كَي تُحيين الموتى"، مما أغضب فريد وقتها، ثم تصالح معه الشناوي بأن أعطاه إثنتين من أروع قصائده ليغنيها، وهي "لا وعينيك" و"عُدت يا يوم مولدي" فأبدع فيهما فريد. وينطبق نفس الأمر على المقارنة بين "زمان يا حب" و"يوم من عمري". بالتالي كان الأسهل للعندليب لو لم يشغل نفسه ويبالغ في التنافس مع فريد، ولو صَفّى النيّة وترك الأمور تسير على سَجيّتها، ففي النهاية الأعمال بالنِيّات والجمهور هو مَن يقرر ولكل إمرء ما نوى، ونيّة حليم كانت منافَسة فريد أو مَنعه مِن النجاح ووضع العصي في عجلة مشواره الفني، في حين كانت نيّة فريد تقديم أعمال جميلة تعَبّر عَن شخصيته وتُسعِد جمهوره، لذا تفوقت أعماله مع نفس المُمَثلتين على أعمال حليم معهما مثلاً. ولا أزال أرى بأنه لو وَفّر حليم جزئاً من رغبة التنافس مع فريد ووظفها للتعاون معه، فرُبما كنا سنشهد أعمال رائعة بلحن فريد وصوت حليم، ولنا أن نتخيل كيف كان يمكن أن تكون هذه الأعمال! كأغنية "يا واحشني رد عليا" التي يقال بأن فريد لحنها لحليم، لكن مماطلة الأخير دفعت بفريد الى إعطائها لمحرم فؤاد ليغنيها، ولتصبح واحدة من روائع كلاسيكيات الغناء العربي.
بعد رحيل الفنان فريد الأطرش، إستَغلّت الصحافة عدم حضور عبد الحليم لجنازته، لتصُب الزيت على نار المنافسة التي إنطفأت بين الصديقين اللدودين برحيل فريد، إلا أن العندليب سارع لتوضيح الأمر في أول لقاء صحفي له بعد رحيل فريد بالقول: "كان فريد فنان عظيم، حفِلت حياته بأروع صور الكفاح، وكان يتمتع بطابع خاص إنفرد به. كان فنان أصيل، إحتفظ بمكانته فوق القمة، دون أن ينازعه فيها أحد". موضحاً بأن آخر لقاء جمعه بفريد كان خلال زيارته الأخيرة للندن للعلاج، بعدها عاد فريد إلى بيروت في نفس اليوم الذي أصيب فيه العندليب بنزيف حاد ألزمه الفراش في المستشفى بلندن، ولم يستعيد عافيته ويعود إلى القاهرة سوى بعد أربعين يوماً على وفاة فريد، لذا لم يستطع حضور جنازته، ولم تتوفر فرصة مناسبة ليتحدث فيها عنه، مشيراً إلى أنه قد حزن كثيراً على وفاته، ومؤكداً أن فريد الأطرش كان من أعز أصدقائه على عكس ما يتصور بعض الناس، وما يُشاع عَن وجود خلاف دائم بيننا.
لا أخفي عِشقي لفريد كموسيقار وعازف ومطرب وحتى كممثل، بل هو رقم واحد بالنسبة لي في عالم الموسيقى العربية، كما هو الموسيقار رخمانينوف في عالم الموسيقى الكلاسيكية. لكن هذا لا يعني أني لا أحب محمد عبد الوهاب وعبد الحليم وكارم محمود ومحمد رشدي ومحمد فوزي ومحمد سلطان والموجي والسنباطي وسيد درويش وأتذوق أغانيهم، كما أنه لا يعني بأني لا أحب شومان وبرامز وباخ وبتهوفن وشوبرت وديبوسي وشوبان وليست ومندلسون وجايكوفسكي وأتذوق موسيقاهم. هؤلاء جميعاً بالنسبة لي عمالقة ورُسُل للإنسانية، أستمِع الى أعمالهم بكل حب وأتذوقها بكل شغف، لكن حينما يتعلق الأمر بالفن فبالنهاية يبقى الموضوع مسألة ذوق، ولكل ذوقه. لذا لابد ان أسَجِّل، والحديث هنا عن حليم، بأن تعَرّفي على فنه، مطرباً وممثلاً، كان علامة فارقة في حياتي، أثّرَت على شخصيتي ورؤيتي للحياة وأثرَتها، وذلك حينما شاهدت له فيلم حكاية حب مع مريم فخر الدين، ثم الخطايا مع نادية لطفي، اللذان أعتبرهما من أروع ما مَثّل حليم ومَن شاركنه تمثيلهما، قصة وأدائاً وإخراجاً. لذا ما أكتبه هنا ليس تَحَيّزاً لفريد عليه، إذ يبقى العندليب رفيق أيام شبابنا، وتبقى أغانيه أنيسة ليالي صِبانا، وتشغل حيّزاً في شريط ذاكرتنا الفنية التي نستعيده بين الحين والآخر، ولا بد دائماً مِن الفصل بين إبداع الفنان وموهبته وكيفية تذوقنا وتقييمنا لهما، سَلباً أو إيجاباً، وبين شخصيته وقناعاته الفكرية ومواقفه السياسية مثلاً. لذلك فَضّلت أن تكون مقالتي في الذكرى الـ44 لرحيل العندليب جديدة بفكرتها، تبتعد عن روتين المديح والإستذكار العاطفي الذي يتجنب الإشارة الى بعض المحطات المثيرة للجدل في حياة أساطين الفن والثقافة الذين نُحِب.
التعليقات