يمكن للمرء ان يتساءل بعد هذا العرض لرؤى الباحثين وفرضياتهم، هل، فعلاَ، كان موجوداً ذلك "المصدر" الالهامي لهيئة الملوية، الذي ذكره باحثو المجموعتين، في بيئته المبنية وقتذاك، وباشكاله "الاصلية" المتخيلة، كي يستطيع معمار سامراء ان يتخذ منه مادة للايحاء والالهام؟

(روابط الأجزاء الأول والثاني والثالث من حلقات هذا الموضوع)

مئذنة الجامع الكبير "الملوية" في سامراء: المبنى.. والمعنى
مئذنة الجامع الكبير "الملوية" في سامراء: المبنى.. والمعنى (2)
مئذنة الجامع الكبير "الملوية" في سامراء: المبنى.. والمعنى (3)

الجواب بكل بساطة: كلا ؛ لم تكنا لا "الزقورة"، ولا "طربال غور " كلتيهما في حالة بنائية تدلل على هيئتهما "الاصلية" المتخيلة، ليتمكن المعمار السامرائي اتخاذهما مرجعا لعمله التصميمي. فإيـاً من الزقورات المشار اليها سابقا، وكما هو ثابت في علم الآثار والتنقيب، لم تكن معروفة لدى مجايلي بناة الملوية.

في احسن الاحوال كانت تلك المآثر المعمارية ركاماً، وجزءاً كبيراً منها مخفي في باطن الارض لا احد يعرف عنها شيئا. وفيما يخص "طربال غور" فقد كان هو الآخر كومة من الآجر والحجارة بدون شكل واضح، ولعل في وصف الرحالة والجغرافي العباسي "ابو القاسم الاصطخري" (المتوفي في 957 م. ) في مؤلفه "المسالك والممالك" (المطبوع في ليدن 1870 بهولندا) شهادة موثوقة عن خراب هذا الاثر المعماري ودماره قبل ظهور الملوية منذ آماد طويلة؛ حيث يسجل في كتابه الانف الذكر ما يلي: ".. واما جور فانها من بناء اردشير، ويقال ان مكانها كان ماء واقف كالبحيرة، فنذر اردشير ان يبني مدينة على المكان الذي يظفر فيه بعدوه ويبتني فيها بيت نار، فظفره هناك... وفي وسط المدينة بناء مثل الدكة يسمى الطربال ويعرف بلسان الفرس "بإيوان وكياخره" وهو بناء بناه اردشير ويقال انه كان من الارتفاع بحيث يشرف منه الانسان على المدينة جميعها. ورساتيقها وبنى اعلاه بيت نار واستنبط بحذائه من جبل ماء حتى اصعده الى اعلى هذا الطربال كالفوارة ثم ينزل في مجرى آخر وهو بناء من جص وحجارة وقد استعمل الناس اكثره وخرب، حتى لم يبق منه الا اليسير...". (المسالك والممالك، ص. 123 -124).

كنيسة "سان ايفو ديللا سابينسا" (1642 -1660) في روما، المعمار: "ف. بوروميني"، تفصيل

بهذة الشهادة التى يعود زمنها الى زمن ليس ببعيد كثيرا عن زمن الملوية، تثبت بان "الطربال" اياه كان هو الاخر "كومة" من الحجارة حينذاك، لا يعرف شكله الاصلي.

اما الوصف بانه ذو شكل مربع ويرتقى اليه عبر سلم يدور حوله، فهذه "سرديات" جديدة لباحثين حديثين حاولوا من خلالها شرح هيئة الطربال "الاصلية" المتخيلة، وبالطبع فانها كانت مجهولة وقت ظهور الملوية.

ونخلص من هذا كله، بان لا شكل "الزقورة" <المفترض>، ولا هيئة "الطربال" <المتخيلة>، كانتا، وقتها، معلومتين او حاضرتين في مشهد البيئة المبنية، حتى يمكنهما ان يكونا مرجعاً تصميمياً لمعمار ملوية سامراء اثناء إجتراحه لهيئتها الفريدة. ونضيف نحن علاوة الى ذلك، ما الضيّر (فيما اذا كانت واقعة "التعلم" والالهام اياها واقعة فعلا) عندما يبدي المعمار السامرائي (حاله حال كثر من المبدعين)، نوعا من اجتهاد وفطنة وادراك تصميمي تجاه اعمال الآخر، اياً يكن هذا الآخر. ففي هذة الحالة يتعين "قراءة" ذلك الاجتهاد ونوعيته بمثابة احد تمثلات ما يسمى بـ "التناص المعماري" Intertextuality، والذي يرتقي ليكون، هنا، سمة ايجابية تسعى وراء اثراء مهني يصب في مقدرة ذلك المعمار ويضيف الى ذخيرته الابداعية اضافة معتبرة وجديدة. بمعنى آخر، حتى لو حدث مثل ذلك <التأويل> (وهو احد اساسيات التناص)، فيتعين إدراكه كاسهامة معرفية جادة يمكن لها (..وبها ايضاً) فتح آفاق لمسارات تصميمية جديدة.

كنيسة "مخلصنا" (1752)، كوبنهاغن، المعمار: "ل. دي تورا"، تفصيل

وفي النتيجة، فنحن ازاء انجاز متقن شديد المهارة امتلك الكثير من المزايا الخاصة التى اكسبته فرادته، وميزته حتى من بين مجموعة من الانجازات التصميمية الاستثنائية التى كان حافلاً المشهد المعماري السامرائي وزاخراً بها وقتذاك. علينا ان ندرك أهمية خصوصية المكان ونشيد بقيمته المعتبرة، هو الذي وُلِد فيه هذا المنجز التصميمي وترعرع. فالمناخ الابداعي السائد في مدينة سامراء، والرفع من قيمة العمارة ، وانتشار ممارستها في اوساط مجتمعية واسعة، فضلا على الاحترام والتبجيل الذي يكنه الجميع لمنتجها (كما فصلنا ذلك من قبل في متن هذة الدراسة)، هو الذي افضى لبزوغ تلك المآثر المعمارية وظهورها في المشهد، بضمنها مأثرة "مئذنة/ ملوية الجامع الكبير" ذات اللغة التصميمية المبتكرة والمدهشة.

وكل ما قيل وذكر، سابقا، من محاولات جاهد مروجيها اضفاء نوع من نظرة "موضوعية" مفترضة عليها، والتدليل بان "هيئة" العمل السامرائي المبتكر والفذ قد تكون "مستنسخة" او انها "تقليد" لاشكال مبان واقعة خارج الحاضرة العباسية؛ تبدو لنا مساع غير مجدية، مثلما تبقى بعيدة عن الواقع، نظرا لجملة الاسباب التى اوردناها وفصلناها في متن هذة الدراسة.

نصب "الاممية الثالثة" (1919)/ موسكو، الفنان: "ف. تاتلين"، نموذج/ماكيت

ونعتبر بإن تلك المحاولات وان تظاهرت وبدت مغلفة بصبغة "علمية"، فانها ترمي، اساساً، الى تبخيس قيمة المجترح السامرائي وتجريده من دلالات ابتكاره وبراعته، لإعتبارات نراها بعيدة عن مقومات المنهج العلمي الرصين وإشتراطات الموضوعية. وعموماًـ فأن ما نراه، امامنا، من عمل تصميمي بارع لذلك الشكل المميز للملوية، المتضمن لخمسة كتل اسطوانية، الواحدة فوق الآخرى، هي التى يتناقص حجمها من طابق الى آخر (لتحديد ورسم مسارات الارتقاء نحو الاعلى، ولمنح الشكل التصميمي "خفة" بصرية، بالضد من جسامة كتل الاسطوانات وضخاماتها)، وما نشاهده من عمل فني محدد ومحصور بين قاعدته المربعة وقمته الاسطوانية المرسومة على اسطحها حنايا مصمتة، يسعى المعمار بهذا وذاك من مميزات العمل التصميمي الى تكريس هيئة الملوية بالمشهد، والاسهام في ترسيخها وحفظها في ذاكرة المتلقي البصرية لفترات طويلة.

وتبقى طريقة استنطاق الشكل الاستثنائي للملوية وفرادة هيئتها التشكيلية التى اشتغل عليها المعمار السامرائي بحرفية وباتقان عالييّن، ممتزجة بتماه عال مع رغبة بلوغ لغة تصميمية استثنائية، تبقى تمثل احدى اللحظات الابداعية النادرة والفارقة في تاريخ منتج العمارة الاسلامية (وكنت أود ان اقول في منتج العمارة العالمية .. ايضاً!). فالتصميم المجترح عدا كونه معبأ بحمولة دلالية، فانه يتسم على إختزال تشكيلي مكثف، معبر عنه باقل ما يمكن من ادوات، كما ان معماره ينزع لان يكون صنيعه المكتمل بمثابة "منزلة بين منزلتين": فعمله هذا "تابولوجياً" متماثل معمارياً، كما انه، نوعياً، متلامس نحتياً.

انه، في المحصلة النهائية، شغل معماري، لكنه متاخم، ايضاً، للنحت ومجاور له؛ ومن هنا بلاغة التشكيل المتحقق وبراعته في الوقت نفسه. وأخال ان معمار الملوية المجتهد، المسكون بشغف الكشف، والمولع بالجديد وغير المسبوق، اعتمد على إحساس دفقة الابداع الاولى المفرزة بمهارة الصنعة التى يمتلكها؛ ما اتاح له بلوغ حذق الاصطفاء التشكيلي ورائدية العمل التصميمي في آن معاً.

كنيسة الشكر (1976)، دلاس، المعمار" ف. جونسون. منظر عام

معلوم ان الدنو من تلك "المنزلة" التصميمية اياها، ما كان له ان يتحقق بتلك السلاسة العذبة، والآهلية المهنية، ما لم يكن المناخ الابداعي في تلك المدينة المهيبة سائدا ومطلوباً ..ومشاعاً. ولنتذكر، في الاخير، ان الصنيع المعماري لملوية الجامع الكبير، في تلك المدينة العامرة، كان بمثابة "راية" تصميمية مبدعة، من ضمن "رايات" ابداعية عديدة حفل بها مشهد البيئة المبنية في الحاضرة العباسية.

وكما اشرنا سابقاً، فان حدث ابتداع "مئذنة/ ملوية سامراء"، لا تكمن قيمته فقط في انجازه غير المسبوق، على الرغم من تلك الاهمية القصوي التى يتمتع بها ذلك الحدث الفريد؛ وإِنَّمَا امتلاكه لإمكانيات كبيرة وقدرته الحيوية لجهة فتح آفاق واسعة نحو فهم جديد للعمارة واستيلاد وتطوير مقاربات اخرى ذات مفاهيم فكرية مشرعة ومفتوحة على نشاط ابداعي مستقبلي حافل بجملة من التفسيرات والاكتشافات والتأويل.

وها نحن شهود على نماذج تصميمية عديدة تعود لمعماريين ذوي خلفيات متنوعة: إثنيا، او ثقافياً، او جغرافياً يسعون وراء إعادة قراءة صنيع الملوية، ويطمحون الى خلق تأويلات مفاهيمية لتشكيلاتها المميزة في سياق مقارباتهم المعمارية. وبالمناسبة فان نُهُوجٌ (جمع نَهج) اولئك المعماريين كانت متنوعة ومختلفة اسلوبيا، وجغرافياً، وزمنياً. فنرى في هذا الكم الواسع من "الموؤلين" والمعجبين في "هيئة" الملوية معماريين يعودون زمنيا الى الحقب الكلاسيكية الماضية، مثلما نرى منهم معماريين ينتمون الى الحداثة، وحتي ..الى ما بعدها، ما يشي بقيمة المجترح واتقانه وجدواه.

متحف غوغنهايم" ( 1943 – 1959)، نيويورك، المعمار"ف. ل. رايت"

كما نرى ذلك في نموذج المعمار الايطالي "الباروكي" Baroque، على سبيل المثال: "فرانجيسكو بوروميني" (1599 – 1667) F. Borromini، في تصميم كنيسته "سان ايفو ديللا سابينسا" San Ivo della Sapienza (1642 -1660) في روما بايطاليا، والذي استعار شكل الملوية لقمة مبناه، والاخيرة كانت ملهمة، ايضاً، الى المعمار " لاويتز دي تورا" Lauritz de Thurah . في اضافته المميزة سنة 1752 الى قمة كنيسة "مخلّصنا" <Our Saviour> في العاصمة الدانمركية كوبنهاغن. ويمكن ان نشير، ايضاً، الى "نصب الاممية الثالثة" (1919) الشهير، المبتدع من قبل الفنان السوفيتي "فلاديمير تاتلين (1885 -1953) V. Tatlin، (هو الذي أًعتبر من انجازات تيار "الكونستروكتيفزم "Constructivism الطليعي) والذي يمكن ان نلمس بهيئته المميزة، إستحضاراً ذكياً لشكل صنيع المعمار السامرائي البارع.

كما ان فيليب جونسون (1906 -2005) Philip Johnson "المعمار الحداثي ..وما بعد الحداثي ايضاً"، استوحى "فورم" الملوية لمشروعه "كنيسة الشكر" (1976) Thanksgiving Church، في دلاس/ تكساس بالولايات المتحدة، وكذلك نرى ذلك بوضوح في قراءة المعمار العالمي الشهير "اي. أم، بي" (1917 – 2019) I M. Pei لشكل الملوية وتوظيف نتائج تلك القراءة في مبناه "متحف الفن الاسلامي" (2008)، بالدوحة بقطر، بالاضافة طبعا الى تأثيرات هيئة الملوية وشكلها النافذ على رؤية فرنك لويد رايت (1867 -1959) F. L. Wright في اعداد تصميمه الشهير "متحف غوغنهايم" ( 1943 – 1959) Guggenheim Museum في نيويورك؛ واخيراً المشروع المعد من قبل مكتب "ان بي بي جي" NBBJ الامريكي في سنة 2021، والمخصص للمقر الجديد الى شركة "امازون" في ارلينغتون بولاية فريجينا Amazon’s new Arlington headquarters, Virginia ، حيث تحضر تأويلات شكل الملوية في صميم الحل التصميمي لهذا المبنى؛ وغير ذلك من الامثلة التصميمية الاخرى المتأثرة بـ "فورم" الحدث المعماري السامرائي المبهر، والمنتشرة في مناطق عديدة من العالم.

المقر الجديد لشركة "امازون" (2021) في ارلينغتون، فريجينا، المعمار: مكتب "ان بي بي جي"

ومع أن تغييرات لافتة حصلت لاحقاً في اساليب تنطيق مفهوم "العمارة التناصية" وفي مقاربات التأويل انطلاقاً من ادبيات النقد الحداثي (..وما بعد الحداثي ايضاً)؛ فان مواكبة تلك المتغييرات افضت الى تنويع الذائقة الفنية والجمالية. ولكن مع هذا يظل شغف استحضار بعض تلك القيم والمبادئ وحتى الذائقة، التى حثت فيما مضى على ظهور وتأسيس الملوية، رائجة في المشهد المعماري، ونراها حاضرة بقوة في تلك النماذج التصميمية، التى تدين بظهورها لتلك الممارسة المميزة والفطنة التى شهدتها عمارة سامراء.

جدير بالذكر، ان كثراً من المعماريين او المكاتب الاستشارية، التى تقدم مشاريعها للملأ لا تعترف احيانا (غالباً؟) ولا تشير الى مرجعيتها التصميمية (.. خصوصاً اذا كانت تلك المرجعيات خارج نطاق الثقافة التى ينتمون اليها <حتى لا نقول بان هذا مقتصر على "التمركز الاوربي" لوحده!>).

لكن ذلك الانكار والتغييب لا يعنيان شيئأً كثيرا للمعرفة، مثلما لا يمكنهما التقليل من اهمية وقيمة المجترح المرجعي، او بخس اهميته. فما نلاحظه (..ما لاحظته شخصيا) من انتشار "سرديات" الآخرين في هذة الناحية الجزئية، تبدو، في مجمل طروحاتها، غير واقعية ولا موضوعية، تسعى وراء تهميش ما تحقق في سامراء لجهة تكريس ذرائع عديدة تبرر ذلك التغييب وإنكار صلته مع المرجع التصميمي.

ونأمل (.. مثلما نرى) بأن الموضوع التأويلي وإعادة القراءة والاجتهاد في التفسير لمجمل ما تحقق في سامراء، يمكن أن يكون ذات نهايات مفتوحة، بمقدوره أن يستوعب اضافات تأويلية أخرى لم تذكرها الدراسة، ونعول في هذا المجال على مهتمي العمارة الاسلامية ومحبيها في تكريس هذا الجانب التحليلي وتوسيعه ليشمل كافة المجالات. وفي كل الاحوال فليس المطلوب، تصميمياً، إعادة شكل الملوية وتكرار حلولها التكوينية، وإنما المنشود تقصي "جوهر" الابداع الكامن في عمارة الملوية، والحفر عميقا في ماهيتها الخلاقة واستحضار روحها واطيافها القابلة للاستدعاء!