تسترعي هيئة المئذنة/ الملوية الفريدة وشكلها الذي لا يضارع، كثيراً من الاهتمام، وتلفت نظر كثر سواء كانوا مشاهدين عاديين ام مهنيين ذوي اختصاص. وهذا الاكتراث البصري الذي يثيره شكلها الاستثنائي والذي لا نظير له، خلق لدى الكثير من مشاهديها وزوارها المحليين والغرباء الرغبة في البحث والتقصي عن مرجعية هذا التصميم المدهش، وفيما اذا كان من ثمة مصدر او "منبع" تصميمي اوحى للمعمار فكرته التصميمية.


(رابطا الجزء الأول والثاني من حلقات هذا الموضوع)

مئذنة الجامع الكبير "الملوية" في سامراء: المبنى.. والمعنى
مئذنة الجامع الكبير "الملوية" في سامراء: المبنى.. والمعنى (2)



لا تقدم كتابات المؤرخين البلدانيين القدماء شيئاً ملموسا وواضحاً في هذة المسألة؛ بل بالعكس نرى عزوفاً غير مبرر (يبقى يمثل امراً غامضاً وملتبساً وحتى مثيرا للغرابة)، لجهة عدم التصدي اولئك البلدانيين لذكر شكل الملوية والحديث عن هيئتها غير المسبوقة، رغم انهم تناولوا في كتاباتهم احداثاً بدت اقل قيمة من ظهور هذا الحدث المعماري المبهر.

وباستثناء تلك الاشارات العابرة التى اتينا على ذكرها، للملوية، فان كتاباتهم ظلت خلواً من اي تفصيل جاد يخصها او تسجيل ملاحظات ثاقبة وحصيفة تليق بمنجزها التصميمي الرائع. لكن ملوية جامع سامراء الكبير، وعلى عكس الباحثين القدماء المسلمين، حظيت بعناية كبيرة واهتمام واسع من لدن كثر من الاوربيين الذين مروا عند منطقة سامراء، وكذلك من قبل اولئك المهتمين بالعمارة الاسلامية.


(رسم تخيلي يعود الى 1827 للحظة اكتشاف "زقورة اور" القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد"، الناصرية/ العراق)

وفيما يخص الدارسين العرب وغيرهم من الدول الاسلامية الاخرى، فان كتاباتهم الحديثة، نوعا ما، في هذا الموضوع اتت بمعظمها تعيد وتكرر ما قاله او ما توصل اليه زملائهم الغربيين. بالطبع، اسعى، شخصياً، وراء طرح رأي ذاتي في هذة الموضوعة المثيرة التى تباينت الافكار حولها تبايناً كثيراً. على اني افضل في البدء عرض ومناقشة افكار ورؤى الذين تصدوا لظاهرة "حدث الملوية" سواء كانوا عرباً ام اجانب، حتى يكون المتلقي على بينة من امره فيما يخص تلك الطروحات، ويستطيع، بالتالي، ان يفصل بينهما.


وكما اوضحنا للتو، فان الاوروبيين وبحكم اهتماماتهم بالمنطقة وتراثها الحضاري، كانوا من اوائل الذين تصدوا لدراسة سامراء العباسية، وتوثيق وتحليل نماذجها المعمارية وامثلتها العمرانية.
ورغم إختلاف التقييمات تجاه شواهد المكان وتباين مقارباتهم النقدية في تحليل وتقييم النماذج التصميمية فيها، إلا ان وجهة نظرهم كانت، في الغالب الأعم، متماثلة تجاه الآخر / المختلف، بل واحياناً معبئة بقيم فكرة ما يسمى بـ "المركزية الاوروبية" Eurocentrism، هي التي انتشرت مفاهيمها المجحفة تجاه غير الاوروبيين وقتذاك وسعت وراء التقليل من اهمية انجازات "الآخر" الابداعية والنيل منها ومن قيمتها التصميمية (خصوصا ونحن نتحدث عن زمن تلك "الطروحات" التى تعود الى القرن التاسع عشر وما بعده، والتى في حينها هيمنت تلك الافكار عميقا في اوساط مهنية أوروبية واسعة).



(آثار زقورة خورسباد (717 -705 ق. م.)، الموصل/ العراق.)

لسنا، هنا، في وارد الحديث باسهاب عن اسباب ظهور وتبعات هذة النزعة الاوروبية/ الغربية، لكن علينا الاشارة بأنها كانت مقاربة شديدة الوضوح في الاعلاء من شأن الذائقة الاوروبية والانتماء لها، وفي كرهها للاخر وعدم الاعتراف به وتشويه نجاحاته الابداعية والتقليل من قيمتها الجمالية. وكانت "مبادئها" الراسخة لدى معظم الدارسيين الاوروبيين بمنزلة أداه نقدية اساسية لقياس منتج العمارة الاسلامية وانجازاتها في سامراء. وقد تجلت تلك المقاربة النقدية وتوظيف معاييرها في تقييم عمارة مئذنة / ملوية الجامع الكبير وتقدير أهميتها على وجه الخصوص.


يقتضي، في رأينا، واقع التحري والبحث عن ظاهرة ما، التمعن بعمق والنظر بشمولية الى بيئتها الثقافية المحيطة والتعرف على خصوصية نشاط تلك البيئة، بكونها الحاضنة والمؤثرة على وجود تلك الظاهرة. واذا اردنا تسمية من بين اهم الظواهر الثقافية المؤثرة بقوة في الوسط الحضري السامرائي حينذاك، والتي يمكن بها عكس، بأمانة وإخلاص، خصوصيتها، فلم نجد افضل وادق من كلمة "عمارة"، كتمثيل واقعي لتلك الظاهرة وكتعبير عن خصوصية نشاطها. فالفعل المعماري يدرك هناك، في الحاضرة العباسية، بكونه مبدع شواهد البيئة المبنية المتنوعة، وهو حاضر في تفكير غالبية سكنة سامراء و مالِىء هواجسهم وهو مادة لاحاديثهم و"سردياتهم"، وعنوان تطلعات مدينتهم المستقبلي! فليس من ثمة عمل، يعلو على "العمل المعماري" وليس من ثمة نشاط فعلي: مهم ومبدع وشائع ومحبوب كالنشاط المعماري!
وربما في اهتمام وولع الخليفة "المعتصم" (796 -842 ، حكم مابين 833 -842)، مؤسس مدينة سامراء وصاحب القرار الاول لاهم مبانيها؛ وشغفه في الشأن العمراني، والذي يذكرنا به الجغرافي البغدادي "ابو الحسن المسعودي" (895 -957) في "مروج الذهب"، عندما كتب "كان المعتصم يحب العمارة ويقول إن فيها أموراً محمودة؛ وأولها عمران الارض التى يجبي بها وعليها يزكو الخراج وتكثر الأموال وتعيش البهائم وترخص الأسعار ويكثر الكسب ويتسع المعاش" (المسعودي، مروج الذهب 3/ ص. 461.


منظرٌ عام لبرج "طربال غور" (240 م.)، فيروز آياد/ ايران، (رسمة القرن التاسع عشر).


وانظر ايضا: احمد صالح العلي، سامراء، ص. 85 -86)؛ ربما في هذا تأكيدا وإثباتاً لصدقية ما ذكرناه. ولعل مخرجات الفعالية المعمارية ونتائج انشطتها الحيوية، الماثلة بجلاء في نماذج تصميمية مبهرة جعلت من بيئة تلك المدينة المبنية، الواقعة على ضفة دجلة بالنسبة للكثيرين بمثابة: "سر من رأى": بالتسمية الفعلية.. والمعنى المجازي!
فنحن إزاء نشاط معماري، ليس فقط لم تعرفه المدن المجاورة، وإنما ليس له نظير في كل مدن العالم وقتذاك، من حيث إنجازاته المتمثلة في ضخامة الاعمال التصميمية وتنويعاتها الوظيفية. وتدلل عمارة المساجد الكبيرة ومقاساتها الرحيبة، وكذلك المشاريع الاسكانية والترفيهية في سامراء التى بلغت مستويات قياسية في ابعادها وتعدد مكونات احيازها، تدلل على ان الحدث المعماري امسى ظاهرة أساسية متجذرة في المناخ الابداعي ومترسخ في بيئة العاصمة العباسية الثانية؛ كما بسط تأثيره على فئات مجتمعية واسعة. وقد ساهم هذا المناخ الابداعي الى فرز وظهور مجموعة مبدعة من المعماريين اللامعين اشتغلت بجد وابتكار على المسألة المعمارية. وانا، هنا، أؤكد على قيمة وأهمية خصوصية المناخ الابداعي الذي خلقته وارسته "سامراء" ووهبته الى معمارييها العاملين فيها ، وتأثير ذلك ايجابياً على تنوع مقارباتهم التصميمية، بغض النظر عن اصول اثنية اولئك المعماريين السامرائيين او انتماءاتهم الجغرافية.

وهذا التأكيد نراه امراً ضروريا ، حتى لا يعزو الاجتهاد التصميمي الحاصل، و نَسَبَه الى اثنيات بعينها او اسناده الى ممثلي مناطق جغرافية محددة، (مثلما يسعى كثر من الدارسين، الآن، إثبات ذلك لدواعي تمجيد اثني، او الرفع من مكانة منطقة جغرافية). وكلما كان منجز المعماريين السامرائيين بارعا ومبتكراً ومبهراً، كلما لقى اسناداً وتعاضداً واحتراماً من قبل الجمهور التائق للجديد ومن قبل الحكام الذين لطالما نال دعمهم و مُؤَازَرَتهم ولم يبخلوا عليه بكل انواع التأييد.


منظرٌ جوي لآثار زقورة بابل "معبد مردوخ" (القرن السادس قبل الميلاد، بابل/ العراق.


ما يثير الانتباه عند معظم الذين تعاطوا مع حدث ظهور الملوية (إن لم يكن لدى جميعهم!)، هو الحضور الواضح لنزعة "تغييب" الملوية عن "مكانها"، وعن خصائص ذلك المكان! ثمة إهمال (.. هل كان متعمداً؟!) رفع لواءه عالياً كثر من الدارسين لهيئة الملوية إن كانوا عربا ام غربيين (وخصوصاً غربيين!) لطبيعة البيئة المبنية واغفالهم لنوعية سماتها عند تحليلهم لهيئة الملوية.
فالغالبية من اولئك الدارسين، وبمجرد "الوصول" الى ذكر الملوية، ومحاولة التقصي عن عوامل ظهورها والكلام عن شكلها الاستثنائي، حتى يبرز، فجأة، مسار جاهز آخر ينحو الى "الغاء" المكان و"تغييبه" واهماله والذهاب باتجاه مسعى لايجاد نوع من "مرجع" مفترض ومحاولة البحث عن مصادر الهام في شغل المعمار السامرائي (في احيان كثيرة يشار الى فعل "استنساخ" بدلاً من الالهام)؛ زيادة في التقليل من شأن العمل الابداعي.

وفي اعتقادنا فان هذا "التغييب" للمكان، من قبل غالبية الدارسين، كان يرمي الى تسويغ فكرة التقليل من قيمة المنجز السامرائي، والتشويش عليه وإخفاءه، والتمني بوجود مصدر آخر للابداع، اذ لا يمكن، حسب غالبية آراءهم ولاسيما تلك الآراء المثقلة بفكرة "التمركز الاوروبي" ان تكون سامراء الاسلامية منبعاً وموئلاً لمثل هذة الانجازات التصميميةّ البارعة.


تنقسم اطروحات المتابعين لعمارة مئذنة/ ملوية الجامع الكبير في سامراء والباحثين عن مصدر "ملهم" لتصميمها خارج مدينة سامراء، الى مجموعتين اساسيتين:الاولى، تنادي بان شكل الملوية <مقتبس> من هيئة "الزقورة" في بلاد ما بين النهرين (والزقورة، كما معروف وبعجالة، هي ابنية متدرجة، لها وظيفية دينية، وكانت تشيّد في بلدان عديدة وفي الاخص في بلاد ما بين النهرين. ومن اشهر تلك الزقورات: <زقورة اور> التى يعود تاريخها الى العصر البرونزي <القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد>، واعيد ترميمها واضيفت طبقات لها بحلول "القرن السادس قبل الميلاد"، وكذلك زقورة "خورسباد" (دور شاروكين) التي امر سرجون الثاني ببنائها ما بين (717 -705 ق. م.)، ثم "زقورة عقرقوف" بالقرب من بغداد، التى يعود تاريخها الى (اوائل القرن الخامس عشر واوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد)، وبالطبع هناك "زقورة بابل" الشهيرة (وهي معبد مردوخ <إيتيمينانكي> Etemenanki المشيد في القرن السادس قبل الميلاد). اما المجموعة الثانية من الدارسين فترى ان هيئة الملوية مشتقة من "برج "طربال غور" على مقربة من فيروز آباد في ايران؛ وهو برج شيده في مدينة "جير" (فيروز آباد لاحقاً) الملك "اردشير الاول" (180- 242م.) مؤسس السلالة الساسانية، وبحسب بعض الدارسين فان البرج الذي كان يتوسط المدينة وصل ارتفاعه الى 30 مترا.


آثار زقورة عقرقوف (القرن الخامس عشر قبل الميلاد)، بغداد/ العراق

واول من نادي ضمن المجموعة الاولى بتشابه الزقورة مع هيئة الملوية هو البارون والديبلوماسي الالماني "ماكس فرانز جيدو فون تيلمان" (1846 – 1929) Baron Max Franz Guido von Thielmann، في سنة 1875، بكتابه الذي ترجم الى الانكليزية وكان بعنوان"جولة في آسيا بالقوقاز وبلاد فارس وتركيا "Journey in The Caucasus, Persia, and Turkey in Asia, London, 1875. حيث وصف فيه الملوية بانها "..برج لاثر عظيم ظاهر، ذات شكل فيه تقليد لبرج بابل القديم" (الكتاب اياه، ص. 140، وانظر كذلك: طاهر العميد، العمارة العباسية في سامراء، بغداد، 1976، ص. 217)؛ وقد تبعه كثر من المهتمين في عمارة سامراء في تبني هذة الاطروحة، أمثال: دي بيليه، كوتيل، مس بيل، ريفورا، بيجون، كونل، بتريسا، وكريسويل (العميد، المصدر السابق، ص. 217 - 218).
في حين ان اول من لفت انتباه الدارسين بتشابه هيئة ملوية سامراء مع شكل "طربال غور" (وهو برج "مينار"، وتعني بالفارسية <ركيزة>، وقد اطلق العرب المسلمون عليه اسم "طربال غور" Tirbal)، ضمن المجموعة الثانية، هو العالم الالماني والمهندس المعماري "ارنست هرتسفيلد" (1879 -1948) (الذي يورد اسمه كثيراً في متن هذا الكتاب، لدوره الهام والجوهري .. والرائد بكونه كان اول الباحثين الاكاديميين والمهتمين في اعمال تنقيبات سامراء)؛ وسار على منواله كثر من الدارسين. (وللمزيد في تفاصيل اراء الباحثين في كلتا المجموعتين، ينظر الى كتاب : طاهر العميد، العمارة العباسية في سامراء، بغداد، 1976، ص. 217 -231).