إيلاف: رغم أنه أمضى الشطر الأكبر من حياته بعيدا عن وطنه مصر، فإنه ظل مرتبطا به ليظل حاضرا بقوة في جلّ ما كتب من روايات حظيت بشهرة عالمية. ذاك هو الكاتب ألبير قصيري المولود في القاهرة عام 1913، والمتوفى في باريس عام 2008.

ويمكن القول إن الحوار المسهب الذي أجرته معه "المجلة الأدبية" الفرنسية في عددها رقم 325 الصادر في أكتوبر 1994، وثيقة مهمة للغاية عن مسيرة وحياة وفلسفة هذا الكاتب غريب الأطوار، وغريب الأفكار أيضا. هنا ترجمة لهذا الحوار للتذكير به، والتعريف بعالمه الروائي البديع.

وفي مقدمة الحوار، جاء ما يلي:" يعيش ألبير قصيري حياة غريبة أثارت اهتمام الصحافيين الذي لقبوه بـ "ألبير قصيري الرائع" مركزين بالخصوص على لياقته التي حافظ عليها حتى بعد أن تجاوز سن الثمانين. وهو محافظ على نفس النظرة الحادة حين يغادر في الساعة الثالثة ظهرا فندق "لوزيان" في شارع "السين" الذي فيه يقيم منذ قدومه إلى فرنسا قبل نحو45 عاما لكي يذهب إلى مقهى "الفلور".

ولا يحب ألبير قصيري أن يهتم الناس بحياته الليلية، بل بأعماله التي تتميز بفرادة قوية للغاية. ففي سبعة كتب ، تمكن من أن يبتكر عالما مثنسجما مع الشرق الذي قدم منه، وفيها يمكننا ان نعثر على القاهرة، وعلى الاسكندرية، أو على دمياط، وعلى الصحراء، وعلى خصائص الحياة على ضفتي النيل. وفي كتبه هو يبلور أيضا رؤية فلسفية خاصة به مشيرا إلى أن الطموح هو سبب كل مآسي البشرية منذ القدم. لذلك سعى دوما للتخلص من كل ما يمكن أن يحول دونه ودون الاستمتاع بملذات الحياة في بساطتها. وفي روايته:" شحاذون ومتكبرون"، يترك جوهر عمله رافضا استراتيجية الوظيفة الدائمة، ويُظهر " ذلك الانبهار أمام سهولة عبثية بساطة الحياة. كل شيء تافه وسهل. ويكفي أن ينظر من حوله لكي يتأكد من ذلك. والبؤس الذي يُحاصره من كل جانب لم يكن له أي طابع مأساوي. وهو يبدو وكأنه يتضمن رخاء عجيبا، وكنوزا لثروة هائلة ولا موجب للشك فيها"(..)

وكان ألبير قصيري قد أثار اعجاب كل من الأمريكي هنري ميللر، وصديقه البريطاني لورانس داريل.

الحوار:

كتبك تدور أحداثها في وطنك الأصلي، مصر. مع ذلك أنت تعيش في فرنسا منذ نهاية الحرب الكونية الثانية...أليس هذا تناقضا؟

ليس هناك تناقض لأنني أعود بين وقت وآخر إلى مصر... كانت لي عائلة هناك. ومن عائلتي الخاصة لم يتبق أحد. وأنا هنا وحيد. لا يزال لي أحفاد وحفيدات ، إلاّ أن أخي الأخير توفي قبل سنة...

كيف لواحد مثلك ولد في مصر، لكنه يكتب بالفرنسية؟

كان هذا أمرا طبيعيا لأن المدرسة التي فيها دَرَستُ كانت مدرسة فرنسية. وكل المواد كانت تُدرّس باللغة الفرنسية. كان أخوتي عند الآباء اليسوعيين، أما أنا فقد كنت عند الاخوة" صال"، ثم في المعهد الفرنسي، وفيه كنا نتكلم الفرنسية إلاّ مع والدتي التي لم تكن تتكلم لغة أخرى غير اللغة العربية، وكانت أمّيّة تماما. وكان والدي يقرأ الجريدة فقط، لكنه لم يقرأ ولو كتابا واحدا في حياته كلها. لكن في ذلك الوقت كان الذكاء محصورا في الأدب، ولم تكن الفلسفة آلة تقنية. وأنا لم اقرأ أي كتاب من كتب الأطفال. وحالما شرعت في القراء، أقبلت على قراءة الكلاسيكيين لأنهم كانوا موجودين في المكتبة. وكان إخوتي الكبار مثقفين، وكنت اقرأ ما يقرأون، وأقرأ أيضا كل ما يقع بين يدي. وكما تلاحظون كانت الصدفة رائعة...وفي سن العاشرة، بدأت أكتب روايات

هل تأثرت بالسينما؟

نعم تأثرت بها لأنني كنت أرافق والدتي إلى قاعة السينما في حيّنا، وكانت قريبة من بيتنا. وبالنسبة لوالدتي كانت السينما مُهمّة للغاية. لم تكن تحب الذهاب إلى المقاهي مثل نساء أخريات. وكنت أترجم لها الحوارات التي كانت بالفرنسية. وأظن أن ألبير كامو يروي الشيء ذاته بخصوص والدته التي كانت أمية أيضا. وأنا كنت صديقا لكامو... ونحن ولدنا في نفس السنة.

هل تعرضت لصعوبات وأنت تكتب بالفرنسية عن مواضيع تخصّ بلادك؟

لا أبدا... كان لا بد من ابتكار أسلوب معين... لكي أتحدث عن الواقع المصري، كان عليّ أن أتجنب استعمال عبارات فرنسية قحّة. وذاك كان عملي في مجال اللغة...أي أن أكون أمينا للوقع المصري، وللشخصيات المصرية حتى وأنا اكتب بالفرنسية...لذلك لا يشعر القارئ أني كاتب فرنسي يكتب عن مصر ...

هل كتبت بالعربية؟

أبدا. لقد نسيت لغتين، العربية والانجليزية. في باريس، مع من تريدون أن أتكلم العربية؟ وفي زياراتي إلى مصر، لا يتدرب لساني على الكلام بالعربية إلاّ بعد بضعة أيام. وحين يأتي اخوتي إلى باريس، نتكلم الفرنسية. وفي مصر، كان اسم الشارع فرنسيا. وكان هناك حضور فرنسي قويا. وكثير من الوزراء دَرَسُوا عند الآباء اليسوعيين.

هل درست اختصاصا ما؟ وماذا درست؟

لم أدرس أيّ شيء. جئت إلى فرنسا بدعوى الدراسة لكني لم أدرس أيّ شيء...

لم أشتر الدبلوم

هل اشتريت ديبلوما مثلما فعل تيمور في روايته "مؤامرة المهرجين"؟

لم أكن بحاجة إلى ذلك لأنني كنت واثقا من أنني سوف أكون كاتبا. وعندما جئت إلى باريس قبل الحرب، كنت قد كتبت قصصا بالفرنسية صدرت في مجلات في القاهرة وأنا في سن السابعة عشرة والثامنة عشرة. وتلك القصص جُمعت في ما بعد في "المنسيّون من الله" وعندما صدر الكتاب بالعربية وبالإنجليزية والفرنسية، ووصل إلى بريطانيا، وأمريكا، والجزائر، اكتشفه الناشر ادموند شارلو، ومعه أمضيت أول عقد حال عودته إلى فرنسا بعد الحرب. كان شارلو انسانا جيدا، لذا أفلست دار النشر التي أنشاها. أنتم تعلمون أنه عندما يكون الانسان نزيها فإنه يُفلس بسرعة.

عندما عدت إلى باريس عام 1945 قررت البقاء ...لماذا؟

بالنسبة لكاتب يكتب بالفرنسية، من الأفضل أن يعيش في فرنسا لأسباب عدة لست مستعدا لتوضيحها. لكن باريس في ذلك الوقت لم تكن باريس بملامح أمريكية مثلما هو حالها اليوم...ولو كانت على هذه الصورة لغادرتها منذ زمن طويل. وأنا قررت البقاء لأني كنت في سنّ لا أبالي فيها إن كان هذا الأمر يعجبني أو لا يعجبني... ولم أكن أنتظر ايّ شيء. لكن باريس التي أعيش فيها الآن لم تكن باريس التي كنت أعرفها كل مساء وحتى الصباح في الحي اللاتيني... وكنت عرفت "مونبارناس" قبل الحرب، و"سان جارمان دي-بريه" بعد الحرب. والفترتان المذكورتان كانتا أجمل فترات باريس. لذا أنا لست نادما على ايّ شيء. ثم هل تعلمون لماذا نحب بلدا ما؟ نحبه بسبب مثقفيه. وفرنسا بالنسبة لي هي ستاندال، ولوي فارديناند سيلين ، وهما أعظم كاتبين فرنسيين بالنسبة لي...

هل هناك كتّاب فرنسيون آخرون مهمون بالنسبة لك؟

عندما جئت إلى باريس كان هناك حوالي عشرة أو خمسة عشر كاتبا فرنسيا مهما. ربما جان جينيه هو آخر العظماء أو جوليان غراك. في ذلك الوقت كنت أنتظر بفارغ صبر صدور كتاب جديد لواحدين منهما ثم أقتنيه فور توزيعه في المكتبات.

لديك قاسم مشترك مع جان جينيه...مثله أنت تقيم في فندق. لكن عكس جينيه الذي يغيّر أحيانا الفندق، أنت تقيم دائما في نفس الفندق وفي نفس الحي في قلب باريس...

إنه الحي الذي يروق لي وفيه أتلهّى وأعبث... في الشارع الذي فيه أقيم، هناك محل يبيع الأكل والشراب حتى الثانية صباحا. ونفس الشيء بالنسبة للسجائر. في حيّ آخر، سأكون بمثابة منفيّ ذلك أنني لا أنام قبل الثالثة صباحا (قبل كنت أنام في الخامسة أو السادسة صباحا)...

لا أحب أن أملك شيئًا

لكن لماذا الفندق؟ كان بإمكانك أن تعثر على غرفة خاصة بك...

لا ... لا أحب أن أملك أيّ شيء. أكره ذلك كرها شديدا. ولو لم أكن كذلك لكنت غنيا. لقد تعرفت على كبار الرسامين والنحاتين. وقد أهدوني أعمالهم لأنهم كانوا على يقين أني سوف أبيعها في اليوم التالي فأنا لا أحب أن أحتفظ بأي شيء...

ما هي موارد عيشك؟

أصدر كتبا مترجمة إلى كل اللغات الأوروبية... ويمكن اقتناء كتبي في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة، وفي مصر(في مصر لا أحصل على حقوقي). أمر غريب أن أكون كاتبا مجهولا غير أن كتبي يعاد طبعها أكثر من مرة. وقد عملت قليلا في مجال السينما أيضا إذ أني أعدت كتابة بعض السناريوهات، وكتبت أخرى. وقد تعاملت بالخصوص مع السينما الجزائرية في بداية الاستقلال عندما كانت هناك شركة وطنية للإنتاج السينمائي. وعلى أية حال، حياتي بمال أو بغير مال هي نفسها. يكفي أن أكون قادرا على السير... الشيء الوحيد السيء هو المرض...وهذا أمر خارج عن ارادتنا... أما القمع الذي يحاول الناس اخضاعه لنا عبر أفكارهم فهو بلا معنى وبلا جدوى. الأمر الوحيد الذي يزعجني هو ألاّ أكون قادرا على مغادرة الفراش، والتجول في الشارع. باستثناء هذا، ليسي هناك ما يمكن أن يؤثر فيّ...

هذا تحول راديكالي في حياتك إذ أنك تنتمي إلى عائلة غنية...

ليست غنية إذ أن عائلة غنية يعني أنها تملك المليارات. كنا نعيش حياة مُترفهة. كان والدي يعمل في العقارات لكنه لم يعمل أبدا. وكذلك جدي ففي الشرق عندما نكون في مأمن من الخصاصة فأن العمل يكون بلا فائدة. حتى هنا في فرنسا، عندما يكون الانسان ثريا فإنه يواصل العمل من أجل المزيد من الثراء. وعليّ أن أقول بإن إخوتي وأخواتي وأنا أيضا لا نقول :" سوف نكسب أموالا"، بل نقول:" أين توجد الأموال؟"...كلمة" نربح" لم نكن ننطق بها أبدا.

ماذا يمثل الشرق بالنسبة لك؟

الشرق هو الفلسفة. في الشرق الناس يتمتعون بوقت يسمح لهم بالتفكير. أبسط شحاذ له فلسفة وحكمة رائعتان لأنهم ينظر إلى العالم وهو يمر. الأمر بسيط في بلاد حارّة. الطقس هناك يلهو كثيرا. وليس هذا كسلا بل استغراقا في التفكير. لهذا السبب أنا لا أؤلف كتابا في كل سنة، بل أمضي ستة أشهر من دون ان أكتب منتظرا حدثا مثيرا. ألاّ أقوم بأيّ عمل، يعني أنني أقوم بعمل داخلي. لذا أقدر أن أقول بإنني أعمل طوال الوقت. وعندما أكون وحدي في المقهى، يأتي لي الجرسون بالجريدة ظانّا بأني أعاني من الضجر فأقول له: لست وحدي يا سيدي ...انا مع ألبير قصيري...

أكتب سطراً كل أسبوع

هل تكتب في المقهى؟

لا أبدا... من تظن أن أكون ...أنا أكتب سطرا واحدا كل أسبوع...إذا ما كنت صافي الذهن، فإنه يتوجب علبك أن تعلم أن الكتابة أمر في غاية الصعوبة...أنا لا أصلح مخطوطاتي لأني لم أكن أبدا راضيا بما أفعل...أحاول قدر المستطاع أن أبذل أقصى ما أملك من جهد لكني لا أكون راضيا عن نفسي أبدا. يمكن أن أكتب عشرين سطرا دفعة واحدة، ثم أمضي شهرين في إصلاحها. كل جملة تخضع للمراجعة والشطب. لذلك لا توجد جمل زائدة عن اللزوم في كتبي. إنه عمل يستغرق وقتا طويلا، ويتطلب جهدا مضنيا. وعندما أسافر، أو أكون في فندق-لأني لا أذهب مطلقا عند الأصدقاء-أكتفي بقراءة الجريدة لأني لست مرتاحا. أحتاج إلى طقوس خاصة لكي أكتب.

هل لك هدف معين من خلال الكتابة؟

أنا لا أكتب روايات لكي أروي قصصا. القصة تعني بالنسبة لي أن أقول ما أفكر، وإذن أنا كاتب ولست روائيا. الشخصيات موجودة لكي تقول أفكاري. وهذه الشخصيات أناس كنت قد تعرفت عليهم، ولهم نفس الأفكار عن العالم وعن الحياة. هناك حب كثير في كتبي، إلاّ أن كتبي لا تروي قصة حب بين رجل وامرأة لأني لا أؤمن بمثل هذه القصص. لهذا السبب لم أعد أذهب إلى السينما إذ كيف تريدني أن أهتم بسيد يحب سيدة ، وله مشاكل معها، وهذه المشاكل لا نهاية لها وإلاّ فإن الفيلم يتوقف. لكن لماذا؟ إذ لم تهتم بي امرأة أتركها وأذهب في حال سبيلي لأن العالم رحب والنساء كثيرات...

أنت قاس مع النساء في كتبك...أليس كذلك؟

لست قاسيا مع الصغيرات في السن. وعندما كنت شابا، كانت الفتيات في سن السادسة عشرة هنّ اللاتي يثرنني. أما التي قاربت سن العشرين أن تعدتها، فإنها تكون عجوزا بالنسبة لي...

أما الرجال في كتبك فيرتبطون بعلاقات صداقة قوية في ما بينهم...

الصداقة القوية التي تربط بينهم تعود إلى أنهم يفكرون بنفس الطريقة. أنا لا أصادق سوى من يشبهونني، وهم هامشيون كما يصفونهم.

لا أطيق الحياة

مع ذلك نحن نجد في كتابك" طموح في الصحراء" أن شحات الذي يخرج من السجن لا يطيق الحياة من دون ان يعثر من جديد على صديقه القديم سمانتار، ويقول:" أن أكون حرا طليقا وأن لا يكون برفقتي صديق سنوات الشباب، والشاهد على كل المغامرات والاحداث ، فإن هذا لا يعني سوى أن أكون محروما من ملذات الحرية ومتعها"...

لأنهما ولدا على هذه الصورة... وهم ينتمون إلى نفس العرق ولا يرغبان في أن يفترقا. وأنا مع أصدقائي أكون على هذا المثال أيضا. لكن أغلب أصدقائي رحلوا عن الدنيا. نحن لا نشيخ من دون عقاب ونحن نرى الأحب إلى قلوبنا يمضون من دون رجعة. وأنا عاشرت دائما أناسا لهم نظرة خاصة للحياة، وهم لا يَغترّون بما تتناقله الصحف لأنهم قادرون أن يقرؤوا بين السطور. وإذن هم سعداء. وأنا كنت دوما سعيدا. ولا أملك سوى بطاقة التعريف التي هي أيضا بطاقة اقامتي هنا في فرنسا. وهي البطاقة الوحيدة التي أحتفظ بها في جيبي، وليس لي غيرها، لا بطاقة بنكية ولا دفتر شيكات. الحياة رائعة شرط أن نتخلص من كل ما يمنعنا من أن نكون سعداء. لكن للأسف هناك أشخاص يبكون في التلفزيون لأنهم ربحوا5000 فرنكا. أنا لا أمارس أية لعبة. وعندما أكون على الساحل اللازوردي، أذهب إلى الكازينو مثل كل الناس لكني أدفع إذ لا يمكنني أن أربح إن لم أدفع مبلغا ما. وأنا أفعل ذلك لكي أتسلى وليس لكي أربح. وعلى أية حال، أنا لا أملك ثروة لكي أخسرها. أما تلك الألعاب التي يقبل عليها الناس من دون أن يدفعوا، فهي مُخجلة وعار على الإنسانية.

عندما تذهب إلى القاهرة، هل تلتقي دائما بمن استوحيت منهم شخصيات كتبك؟

لا ...لأن جميعهم توفوا... بالإضافة إلى ذلك، عندما أذهب الآن إلى القاهرة فإني أنزل في فندق "الميريديان" الواقع وسط النيل... وعندما أستيقظ في الساعة الثامنة صباحا، أنظر إلى القاهرة، وإلى مصر كلها. ثم أني مدعوّ دوما من قبل أقارب بالخصوص. فإن رفضت ذلك فإن تصرفي يُفسر كما لو أنه تعال وتكبر. وأنا ألتقي هناك بشبان فرنسيين اختاروا العيش هناك بعد أن كتبوا عن أعمالي. أحدهم أستاذ في المعهد الفرنسي كان قد كتب أطروحة دكتوراه عن أعمالي ، وآخر رسام يعمل في جريدة مصرية... وكان قد أعدّ رسوما انطلاقا من "شحاذون ومتكبرون".

كيف التقيت بتلك الشخصيات الفقيرة في كتبك؟

كانوا أصدقاء...رسامون، وكتّاب، وممثلون.

ليسوا شحاذين

وإذًا هم ليسوا شحاذين فعلا...

لا لم يكونوا كذلك...كانت لهم أعمال ونشاطات غير مألوفة. أما في الحياة فلم يكونوا يتمتعون بالاستقرار رغم أنهم مثقفون ومتعلمون.

أليس هناك تطور في كتبك: في :"المنسيون من الله" ، أنت تحرض على التمرد، وفيما بعد تصبح الثورات والانتفاضات "انقلابات تهريج"...

في مجموعتي القصصية الأولى، كل الشخصيات تعاني من الفقر، وهي في أغلبها من الطبقة الكادحة، سائقو عربات خيول، أو عمال تنظيف. بالنسبة لهم ليس هناك خيار آخر سوى التمرد، وهم لا ينظرون إلى العالم إلاّ من هذه الزاوية. في كتبي اللاحقة، اكتشفت شخصياتي الدجل والكذب الذين يتخبط فيهما العالم. الشكل الوحيد للتمرد هي السخرية. وذلك كان موضوع كتابي:" العنف والسخرية". كل أفكاري وضعتها في هذا الكتاب. هل يمكنكم أن تستمعوا إلى وزير ما من دون أن تنفجروا بالضحك؟

هل تشعر أنك كاتب ملتزم؟

لا أبدا... وأنا لم أنتسب في حياتي إلى أيّ حزب لسبب واحد وهو أني لو فعلت ذلك لطردت في الحين لأني لا أحتمل الاختلاط بالناس...أنا أكره الناس. وعندما أذهب إلى حديقة "اللكسمبورغ"، أحاول أن أجلس في مكان لا يجاورني فيه أحد. لذلك أسارع بإبعاد الكراسي القريبة مني.

ما هي أهم خصائص مصر؟

ما تختص به مصر هي السخرية والدعابة والظرافة. في كل يوم يبتكر المصريون طرفة ما مستوحاة من الأحداث الفورية التي يعيشونها. وكل طفل تلتقي به في الشارع يمكنه أن يروي لك حكاية طريفة ورائعة. كان لي صديق يصغرني سنا دَرَسَ هنا في باريس. وفي عهد عبد الناصر أمضى ست سنوات في السجن، ثم أصبح وزيرا للتخطيط. ذات يوم، كان في مكتبه ، وإذا بالبواب يعلمه أن هناك شخصا ينتظره منذ الصباح. ولم يكن ذلك الشخص سوى حارسه في السجن. وذلك الحارس فقد عمله، وجاء إلى صديقي راغبا في العثور على عمل، فلم يبخل عليه صديقي بذلك... فقد كان الحارس يقوم بعمله، لذا ليس من حقه أن يلومه أو يقسو عليه. أظن أن المصريين شعب مُسالم...