<سامراء عاصمة العالم>، هكذا يوحي المعرض الذي يقيمه متحف "بيرغامون" Pergamon البرليني في المانيا، باسم " سامراء مركز العالم" فالحاضرة العباسية التى تأسست عام 221 هـ./ 836 م، ظلت لحوالي نصف قرن عاصمة لذلك العالم الفسيح الذي دعي بـ "الخلافة الاسلامية". انه معرض يعيد عرض مقتنيات التنقيبات التى اجراها العلماء الالمان في سامراء مابين 1911 -1913، كأول تنقيب على مستوى مهني واحترافي لاثار مدينة اسلامية في العراق؛ تلك المدينة التى كانت نجاحاتها العمرانية، ما هي إلا واحدة من ضمن اضافات العمارة الاسلامية وتنويع مساهماتها في اثراء الفكر التخطيطي العالمي ومنجزه الحضاري.


معرض سامراء مركز العالم، لوحة زخرفية من قصر بلكوارا في سامراء (854 -859 م.)

شغلت سامراء، أساساً، الجانب الشرقي، من نهر دجلة (الضفة اليسرى منه)، وهي المنطقة العالية عن مستوى حوض النهر ، هو الذي مثل الشريان المهم والاساسي في بنية التخطيط، والذي يخترق المدينة من الشمال الى الجنوب. ويمتد طول مخططها الحضري ما بين القصر الجعفري في الشمال وحتى حصن القادسية المثمن في الجنوب نحو 41.5 كم، وبعرض يتراوح مابين 4 – 6 كم. كما تحيط بالموقع المختار انهر عديدة. وينقل عن اليعقوبي، الذي قدم اوسع المعلومات عن بناء سامراء، من ان المعتصم هو الذي اختار موقع المدينة، واشترى الارض من اصحاب الدير المسيحي الذي كان مشيدا فيها، ثم "احضر المهندسين فقال اختاروا أصلح هذة المواضع، فاختاروا عدة مواضع للقصر " (اليعقوبي ، البلدان، ص. 258، وانظر صالح العلي، سامراء، ص. 86). وذكر الأزدي ".. بان المعتصم عندما خرج الى سامراء وقرر بناءها ، ضربت له المضارب والقباب ، وضرب الناس الخيام والأخبية وعلُّوْ ا في البناء". وعلى الرغم من الخبرة المتوارثة في تخطيط المدن الاسلامية وتمصيرها، والتى كانت معروفة للكثيرين وخصوصا تجارب تخطيط الكوفة، وقبلها البصرة، ثم الفسطاط والقيروان، وبعد ذلك واسط وبغداد على وجه الخصوص، فان مخططي سامراء اتجهوا باتجاه خاص، اتجاه لم يكن متعارفا وشائعا في تخطيط تلك المدن الاسلامية. ومن هنا، فرادة التجربة السامرائية واهميتها كحدث عمراني لافت ورائد في آن.


معرض سامراء مركز العالم، طراز الزخارف السامرائية الثلاثة

فتخطيط سامراء خلافاً للمدن "الممصرة" الاسلامية، لم يراع تلك المتطلبات التى افضت الى اختيار مواقع المدن الاسلامية السابقة. وتذكر المصادر الاسلامية بان اختيار موقع الكوفة على سبيل المثال، كان بتوصية من الخليفة عمر بن الخطاب، فقد افضت تعليماته لتؤدي دورا حاسما في ذلك الاختيار، وهو الذي ينسب اليه، كما يقول الطبري، هذا القول "ان العرب بمنزلة الابل لا يصلحها إلا ما يصلح الابل"، ما انعكس على اختيار موقعها لتكون فاصلا بين الصحراء والنهر . في حين ان وجود الخيل والفرسان المكثف في سامراء قد استعيض بهما عن مفردة <الابل >، وبالتالي جاء تخطيط المدينة مراعيا لهذا النوع من الوجود الحيوي لسكنة المدينة. فليس من ثمة ريب بان غالبية سكان سامراء كانوا من الجند، ولهذا كانت المدينة الجديدة تدعى احياناً "بالعسكر"، دلالة على نوعية السكان وتواجدهم في مواقع تلك المدينة. لكن ذلك التواجد الكثيف من الجنود فيها، وإن سيأثر تاثيرا كبيرا على بنية التخطيط، ألا انه لم يجعل من سامراء (او سُـرَّ مَنْ رَأَى، كما يحلو للمعتصم تسميتها) لتكون "حامية عسكرية"، بل انها تأسست لتكون "مدينة" بكل ما يعنيه هذا النوع من المفهوم الاستيطاني. ووفقاً للادبيات العربية الاسلامية، فان كلمة "تمصير"، كما يستعملها "ياقوت" تعني "تخطيط المدن" (معجم البلدان ج. 4 ص. 491). وكلمة "مصر" ذاتها هي من اصل يمني. ومفهوم "المصر"، كما يقول ابن منظور في لسان العرب ينطبق بداية على مركز ذي اتجاه عسكري حدودي، لكنه يعني أيضاً وبصورة لا تقل قيمة، إقامة دائمة للسكن قابلة للتطور إلى مدينة"، واستنادا الى البلاذري، في فتوح البلدان، فهو يصف ما يطرأ من تحول من الحامية الى المدينة، حيث يصير لها جامع. (هشام جعيط، الكوفة، ص. 74). في حين ان هذة الكلمة "مصر" لدى ابن خلدون تعني "الحاضرة"، حيث استخدم العالم الموسوعي الكلمة دون تمييز مع كلمة مدينة. وأياً يكن معنى "التمدن" والتمصير" في أدبيات المصادر الاسلامية، فاننا إِزاء واقعة لحدث عمراني، أُعتبر ليس فقط هاماً في الممارسة التخطيطية الاسلامية، وإنما كان حدثاً مجدداً ورائدا، أضاف الكثير الى ذخيرة الممارسة التخطيطية الاسلامية، وبالتالي ساهم في تنويع التجربة التخطيطية العالمية.


معرض سامراء مركز العالم، لوحة زخرفية من قصر بلكوارا في سامراء (854 -859 م.)

بالطبع ان ولع المعتصم "بالعمارة" الذي يذكره المسعودي عندما يقول "كان المعتصم يحب العمارة ويقول إن فيها اموراً محمودة فأولها عمران الأرض التى يجبى بها، وعليها يزكو الخراج وتكثر الأموال وتعيش البهائم وترخص الاسعار ويكثر الكسب ويتسع المعاش" (مروج الذهب، 3/ 461)؛ هو في واقع الامر، حالة ضرورية ووجيهة في تفسير تلك السرعة ونبيان دورها في مهام تأسيس المدينة وإتاحة الفرص لها لان تنشأ سريعا وعاجلاً، بيد ان امورا اخرى اضافية، يتعين لها ان تتواجد لجهة تحقيق الرغبة بالسرعة بشكل سلس ومريح. ومن ضمن تلك الامور يمكن ان تكون قضايا تنظيمية وادارية واخرى تتعلق بالخبرات المهنية وثالثة باالاستحقاقات المالية وتوفرها، بالاضافة الى كثرة تواجد المواد الانشائية وتسهيل عملية صنعها ونقلها، فضلا على حضور المهندسين والمخطيين والعمال المهرة، والاهم اصطفاء اساليب تخطيطية وقرارات تصميمية خاصة تتيح تنفيذ تلك المنشآت والمباني بالسرعة المطلوبة. ولقد كانت جميع تلك الاشتراطات وغيرها من الامور حاضرة بقوة اثناء مرحلة التأسيس: فرغبة الخليفة في ان يرى عاصمته الجديدة مكتملة باسرع وقت ممكن، تؤكده استشهادات المؤرخين البلدانيين الذين تعاطوا مع اشكالية التأسيس والتى دونوها في مؤلفاتهم وكتبهم. كما ان الخليفة امر بان تفتح ابواب بيت المال واسعاً للصرف من أجل تأمين متطلبات البناء وبالسرعة المطلوبة، كما سعى الى احضار المهندسين والمخطيين وكل من له دراية في البناء والهندسة الى موقع التأسيس. وعن هذا الامر، يذكر اليعقوبي " ..وأقدَم المعتصم من كل بلد من يعمل عملاً من الأعمال، أو يعالج مهنة من مهن العمارة، والزرع ، والنخل، والغرس..وحمل من مصر من يعمل القراطيس وغيرها، وحمل من البصرة من يعمل الزجاج والخزف والحصر، وحمل من الكوفة من يعمل الأدهان، ومن سائر البلدان من أهل كل مهنة وصناعة " (اليعقوبي، البلدان، ص. 264). كما انه في مكان آخر يذكر حول دعوة الخليفة للعمال من اطراف الدولة الواسعة للعمل في سامراء، فيقول ".. كتب في إشخاص الفَعَلَة والبنّائين واهل المِهَن من الحدّادين والنجَارين وسائر الصناعات وفي حمل الساج وسائر سواحل الشام وفي حمل عملة الرخام وفرش الرخام فأقيمت باللاذقية وغيرها دور صناعة الرخام" (اليعقوبي، البلدان، ص. 258). اما المسعودي فيذكر بان للمعتصم "..أحّضر له الفعلة والصنّاع وأهل المهن من سائر الأمصار" (مروج الذهب، ج.4، ص. 54). ونستنتج من كل هذة الاقوال، بان المعتصم اهتم اهتماما كبيرا لناحية وجود المهندسين والمخططين الاكفاء وكذلك العمال المهرة لتأمين الحصول على مستو عال من المباني ذات طابع مهني رصين ومتجدد وكذلك ضمان انجاز وتشييد سريعين لتلك المباني.


معرض سامراء مركز العالم، صورة تعود الى عام 1912 لزخرفة جدران قصر بلكوارا في سامراء

ولكي تكون العملية الادارية والتنظيمية للبناء وقضاياه على درجة عالية من الضبط والتنفيذ مع مرعاة دقة نوعية المنتج البنائي والاشراف عليه فقد اوكل الخليفة المعتصم قواده العسكريين للقيام بهذة المهمات.وعن هذة الناحية يشير اليعقوبي "... وصير الى كل رجل من اصحابه بناء قصر، فصير الى "خاقان عرطوج ابي الفتح بن خاقان بناء الجوسق الخاقاني، والى عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالعمري، والى ابي الوزير بناء القصر المعروف بالوزيري.." (اليعقوبي، مصدر سابق ، ص. 258). معلوم ان الخليفة لم يقصر في توجهاته لقادته العسكريين على تنفيذ تلك المباني حصراً ولوحدها فقط، وإنما شمل التكليف الاشراف والتنفيذ على مجمل "القطائع" السكنية الخاصة بالقادة وبجندهم. تجدر الاشارة، بان تكليف "العسكريين" الاشراف على البناء وادارتهم له في سامراء، لم تكن هي الواقعة الاولى عالمياً في هذا المجال. نعرف ان هذا التقليد الاداري كان شائعا ومنتشرا في أقاليم عديدة من الدولة الرومانية القديمة وفي عمائر مدنها المهمة، بحيث يمكننا القول، من ان ظهور عدد كبير من المنشآت "المدنية" (كالمدرجات الفسيحة وانوع اخرى خاصة من المباني) في المدن المستحدثة وتنفيذها بسرعة فائقة يعزى الى عمل الجنود الجماعي وتحت اشراف وادراة قادتهم العسكريين. لكن علينا ايضاً تبيان حقيقة من ان واقعة <التكليف> السامرائية اياها، وان تصادت مع وقائع الاحداث الرومانيةـ الا ان مسبباتها تبقى مرتهنة ضمن خصوصية مدينة سامراء و"نوعية" سكانها، الذين بغالبيتهم كانوا من العسكر او من يمت اليهم بصلة. بمعنى آخر، قد يكون ثمة "تناظر" ما بين نوعية انظمة التقاليد البنائية الرومانية، وممارسات تنفيذ مباني سامراء، الا ان ذلك يظل مجرد "تماثل" لاحداث واقعة، لكنها غير متصلة وليس من ثمة علاقة بينهما.
لا بد وان نشير الى نوعية اساليب التخطيط في سُـرَّ مَنْ رَأَى ونمط غالبية العمارة المبنية فيها، كمؤشر مهم لتفسير تسريع تنفيذ بناء المدينة وتعجيل تخطيطها. اذ اعتمد ذلك المؤشر بالدرجة الاولى على توظيف الهندسية (وتحديدا "الهندسية الصافية")، كأساس للتخطيط ولاختيار نوعية القرارات التكوينة - الفضائية لمجمل مباني المدينة. فقد اتاحت تلك الهندسية المنتظمة الى تسهيل رسم انماط التخطيط، مثلما اسهمت في تيّسير تنفيذ اشكال عناصر عمارتها؛ وبالتالي انعكس ذلك على اسلوب تنفيذ واكتمال تلك المشاريع بسرعة عالية.
من ضمن معروضات معرض "سامراء مركز العالم"بمتحف <بيرغامون>، ثمة تفصيلات لعناصر زخرفية استخدمت بشكل واسع في عمارة سامراء، تدلل على بلوغ مستوى عال من الجمالية والابداع والترف في المباني السامرائية. ومن ضمن تلك التفاصيل "زخارف الإزارة" داخل الفضاءات الخاصة بالدور والقصور . (وعنصر "الإزارة" Dado، نقصد به الاجزاء السفلية من الجدران وعادة ما تكون مشغولة بمادة انشائية مختلفة واحيانا مزخرفة وبلون مختلف. يترجمها صاحب قاموس المورد بـ : "الدَّاد"). و"إزارة" الفضاءات الداخلية في قصور سامراء ذات "نكهة" ابداعية خاصة، اضفت قيمة جمالية عالية الى "انترير" تلك الفضاءات. ذلك لانها جاءت بمقاسات كبيرة يصل ارتفاعها احياناً الى 90 سم، ودائما كانت مزخرفة، واسلوب "زخرفتها" سامرائية بامتياز؛ وقد عدت من الاضافات التصميمية اللافتة في عمارة سامراء. ووجد الاختصاصيون في تنقيبات سامراء ثلاثة اساليب او طرز وهي الطراز الاول، والثاني والثالث، شاع استخدامها في جدران القصور والدور السامرائية. وقد عًدّ الطراز الثالث (الذي انشر صورة لنموذج له، مع هذا المقال، مأخوذة من "قصر بلكوارا" (854 – 959 م.) الواقع جنوب مدينة سامراء العباسية). وهو الطراز المشغول من خلال الحفر المشطوب او (المائل). والراجح، من ان تنفيذ نماذج هذا الطراز تتم بطريقة الصب في القوالب، كما يذكر ذلك شريف يوسف ".. اي ان العناصر الزخرفية تحفر في نموذج ايجابي من الخشب او الجص، ثم يستخرج من هذا النموذج الايجابي قالب سلبي من الجص او من الطين يحرق بعد ذلك ليكتسب الصلابة المطلوبة لاستعماله، ثم كان القالب السلبي يطلى بمادة دهنية لتمنع التصاق الجص اللين الذي يصب فيه لاستخراج العدد المطلوب من النماذج الايجابية". وبكلمات اخرى، فان انتاج هذا النموذج لذلك الطراز، يتم بصورة متسلسلة وباعداد كثيفة، وبما يعرف من خلال اسلوب Mass Production للحصول على اعداد ضخمة وبوقت سريع جدا. لكن هذة المعلومة المتداولة كثيرا في الاوساط العلمية المهتمة بعمارة واثار سامراء ، تُدَّحض اليوم من قبل منظمي معرض سامراء في متحف بيرغامون، عندما نشروا الى جانب تلك الطرز الثلاثة نصا كتابيا مفاده من ان تلك ".. التقنية المستعملة في الطراز الثالث كانت بمثابة اكتشاف مهم ورائد، واستعمل بشكل واسع في الامبراطورية العباسية في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. بيد ان التكهنات السابقة القائلة من ان الزخرفة الجصية عُملت بواسطة القوالب لجهة تأمين حالة من انتاج متسلسل Mass Production، تقع اليوم قيد الشك!". بعبارة آخرى، ينفي الاختصاصيون الالمان في الوقت الراهن، ما كان يعتبر امرا متداولا وشائعا في الاوساط العلمية. وهو امر يتعين اخذه (في الاقل من طرفنا) من باب التخمينات السجالية، لحين البت النهائي بصدقية طروحات اولئك الاختصاصيين عبر دلائل مقنعة. وتبقى أهمية الزخرفة السامرائية بطرزها الثلاثة، حالة نادرة في النشاط التصميمي التزييني، هي التى اتسمت بخصوصية مميزة، أكسبتها، في الاخير، فرادتها؛ مضفية اهمية خاصة في مجمل ذخيرة الزخرفة الاسلامية. انها بمثابة "ورق الجدران" المعاصر، الذي يعطي جمالية لافتة للفضاءات الداخلية مانحاً اياها قيمة شكلية استثنائية!
وعلى العموم، فثمة متعة لا تضاهي يمكن للمرء ان يشعر بها (هي التى شعرت، شخصياً، بها)، وهو يجوب بين "لُقىً" العناصر التصميمية لعمارة سامراء المبهرة في ذلك المعرض المميز؛ المعرض الموحي بقيمة وأهمية وابداع ما تحقق سابقا في تلك المدينة "الاسطورية" التى عُدّت مركز العالم...وعاصمته ايضاً!