ملايين من النساء والرجال والأطفال في أنحاء العالم مرغمون على الحياة كعبيد
مسقط: بالرغم من أن ظاهرة الاتجار بالبشر قد ألغيت عام 1800، إلا أن موضوع هذه التجارة يعد اليوم من المواضيع الحيوية الهامة التي يتم تداولها في المنتديات الدولية ومن خلال اللجان المعنية بهذه القضية في الأمم المتحدة، نتيجة للممارسات الجديدة التي ظهرت على الساحة الدولية وبوسائل وأساليب مختلفة.
وأثير هذا الموضوع ضمن عدد من المواضيع الأخرى في القمة الأخيرة لقادة حلف الأطلسي التي استضافتها مدينة اسطنبول التركية في نهاية شهر يونيو الماضي. فقد أعلن قادة القمة عن سياسة عدم تساهل قوات الحلف مع جميع جوانب هذه التجارة وأشكال الاستعباد بتاتا، مع أن هذه التجارة نتجت في الأساس بفعل الدول الاستعمارية التي يمثلونها هؤلاء القادة، وتسلط القوى الكبرى على الشعوب الضعيفة ومواردهم الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تفشي الفقر والأمية والجهل والمرض في العديد من الدول الآسيوية والإفريقية خلال العقود الماضية، ومازالت تعاني منها بعض الدول حتى الآن.
لقد أصبحت هذه الظاهرة أي الاتجار بالإنسان, أو تجارة العبيد, في بؤرة الاهتمام العالمي في الفترة الأخيرة.
وإن أول ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع هذا المصطلح هو بيع وشراء الإنسان, ونقله من دولة لأخرى. فهناك الملايين من النساء والرجال والأطفال في أنحاء مختلفة من العالم مرغمون علي الحياة كعبيد. فهم يباعون كأنهم سلع ويرغمون على العمل الشاق بمقابل أجر ضئيل وفي بعض الأحيان بدون مقابل, وتحت رحمة من يستخدمونهم.
إن العبودية مازالت مستمرة حتى يومنا هذا بالرغم من أنها محرمة في معظم الدول التي تمارسها بناء على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 ووفقا لإعلان حقوق الطفل الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1959 الذي ينص على حق الطفل في الحياة في مناخ من الحرية والكرامة, إلى جانب حقه في الحصول على قدر كاف من الغذاء والمأوي واللهو والتعليم, والحق في تلافي صور القسوة والاستغلال بحمله على العمل بما يؤذي صحته أو تعليمه أو يعرقل نموه الجسدي أو العقلي, أو الاتجار به بأية صورة.
فعملية الاتجار بالأطفال تتم الآن في سرية وبعيدا عن عيون القانون. والعبودية في صورتها الحديثة تأخذ شكل القهر الجسماني والنفسي لمن يقع فريسة لها, فهو يباع ويشتري كأنه سلعة, فيصبح أسيرا للقيود على حريته. وأقصى أشكال الاستعباد هي تلك التي تفرض على الأطفال الذين تتم المتاجرة بهم تحت وعود تشغيلهم وإتاحة فرص حياة أفضل لهم عن العيش مع ذويهم وبما يضمن لهم عملا آمنا وأجرا مغريا. فإذا بهؤلاء الأطفال يجدون أنفسهم وقد وقعوا ضحية للغش والخداع.
ويعتقد صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) بأن عدد هؤلاء الأطفال الذين يباعون في سوق العبيد سنويا يصل إلى نحو 1.2 مليون طفل. ويأتي معظم هؤلاء الأطفال الضحايا من عائلات غير متعلمة, وتعاني فقرا شديدا وتفككا أسريا ويتحول الطفل فيها إلى عائل للأسرة بدلا من أن يكون محل رعاية أبوية. وتكون أجور هؤلاء الأطفال ضئيلة إذا ما قورنت بأجور الكبار في السن, كما أنهم لا يجرأون على المطالبة بزيادتها ويغصبون على العمل في أسوأ الظروف ولا يمكنهم الاعتراض عليها. ومن هنا تكون السيطرة عليهم أفضل, والطلب على تشغيلهم أكثر.
وتشير إحصائيات منظمة العمل الدولية إلى أن هناك 246 مليون طفل يعملون ما بين سن 5 سنوات و17 سنة، وأن 179 مليون طفل يعملون في أسوأ ظروف عمل، وأن111 مليون طفل تحت سن الخامسة عشرة يعملون أعمالا خطيرة ويجب إيقافهم على الفور عن أداء هذا النوع من العمل، وأن 8.4 مليون طفل يعملون كعبيد وفي أعمال مشينة وفي الصراعات المسلحة والدعارة. وقد أعلنت منظمة العمل الدولية أن الاتجار بالإنسان أصبحت اليوم تنافس التجارة غير المشروعة للسلاح والمخدرات, حيث أن عائدها يصل إلى نحو7 مليارات من الدولارات سنويا.
وتسرد عدد من التقارير الدولية السنوية موضوع المتاجرة بالبشر والقصص المؤلمة عن معاناة الأطفال والأحداث من جراء الرق المعاصر خلال السنوات الأخيرة، بالرغم من قيام الكثير من الدول بالتوقيع على البنود والقوانين التي تمنع تفشي هذه الظاهرة في المستقبل. ويرى التقرير السنوي الأخير الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية أنه لا يوجد هناك بلد محصّن ضد تجارة البشر، حيث يجري كل عام التداول بما بين 600 ألف و800 ألف رجل وامرأة وطفل عبر الحدود الدولية في تجارة آخذة في الاتساع. وهذا الرقم لا يشمل عدد المتاجر بهم محليا، أي داخل حدود البلدان. ويجري أجبار الضحايا على تعاطي الدعارة والعمل في أماكن عمل مرهق وفي المزارع، وكخدم في المنازل، وكجنود أطفال وفي العديد من حالات الاستعباد القسري. وتقدر الحكومة الأميركية أن أكثر من نصف ضحايا هذه التجارة الدولية يسخرون لغايات الاستغلال الجنسي.
كما يشير التقرير أن الاتجار بالضحايا يجرى داخل بعض البلدان المهتمة بهذه القضية، مشيرا إلى أن هذه التجارة تدفعها عناصر إجرامية، وصعوبات اقتصادية، وحكومات فاسدة، واضطراب سياسي، وكوارث طبيعية، ونزاعات مسلحة، وتلبي طلبا عالميا على عمالة رخيصة ومعرضة للأخطار. كما أن الأرباح التي تجنى من هذه التجارة تمول في توسيع منظمات الإجرام الدولية وتكرس الفساد الحكومي، وتقوض سيادة القانون. وتقدر الأمم المتحدة أن الأرباح التي تجنى من تجارة البشر تحتل المرتبة الثالثة في مصادر دخل الجريمة المنظمة، وذلك بعد تجارتي المخدرات والسلاح. أما تجارة البشر المعاصرة فهي تشكل خطرا متعدد الجوانب لجميع الأمم. فبالإضافة إلى البؤس الذي تسببه الإساءة لحقوق هؤلاء الناس يتعرض منهم الكثير لأمراض معدية بسبب ظروف العيش الرديئة أو النشاط الجنسي القسري.
ويعرّف "بروتوكول الأمم المتحدة تجارة البشر بما يلي: "تجنيد ونقل وإيواء واستقبال أشخاص، عنوة أو باستخدام أشكال أخرى من الإكراه، والاختطاف، والخداع، أو سوء استخدام السلطة أو استغلال مواطن ضعف، أو تلقي أو دفع مبالغ مالية أو تقديم مزايا لتحقيق موافقة شخص أو السيطرة عليه لغرض الاستغلال". ويأخذ الاستغلال شكل الاستغلال الجنسي أو الخدمات أو العمالة القسرية، أو الاستعباد أو الممارسات الشبيهة بالاستعباد، والنخاسة أو إزالة أعضاء من جسد الإنسان لغرض بيعها. ويدفع ضحايا تجارة البشر ثمنا باهظا, كالأذى الجسماني والنفسي، بما في ذلك الأمراض، وإقصاء الضحايا عن عائلاتهم ومجتمعاتهم. وكثيرا ما يفقد ضحايا التجارة فرصا حاسمة للنمو المعنوي والاجتماعي والأخلاقي. وفي أحيان كثيرة يكون الاستغلال تدريجيا إذ قد يستغل طفل يتاجر به لأغراض العمالة من قبل طرف آخر.
وتدخل ضمن هذه الجهود أيضا محاربة تجارة الجنس السياحي مع صدور بعض القوانين في دول العالم حيث يجري في كل عام بيع وشراء البشر أو يرغمون على الانتقال عبر الحدود الدولية، ومن بينهم مئات من الفتيات اليافعات اللاتي يقعن ضحايا لتجارة الجنس. وهذه التجارة بالبشر تولد مليارات الدولارات في كل عام يسخر جزء كبير منها لتمويل الجريمة المنظمة.
كما أن هذه التجارة تغذي أرباح العصابات العاملة في الأنشطة الإجرامية أخرى. واستنادا إلى الأمم المتحدة تولد هذه التجارة 9.5 مليار دولار في العام، وتشكل إحدى المشاريع الأكثر ربحية والمتصلة اتصالا وثيقا بتبييض الأموال وتجارة المخدرات وتزوير الوثائق وتهريب البشر. كما ثبتت صلات مدعومة بالوثائق بينها وبين الإرهاب. وحيث تزدهر الجريمة المنظمة تصبح الحكومات وسيادة القانون ضعيفة.
كما أن لتجارة البشر اثر سلبي على أسواق العمل، إذ تسهم في خسارة لا عودة عنها في الموارد البشرية. ومن بعض هذه الآثار الأجور المنخفضة وتقليص عدد الأفراد المتاحين لرعاية المسنين، وبروز جيل من الأشخاص قليل الثقافة. كما تسهم هذه الآثار في فقدان الإنتاجية في المستقبل وتحصيل الأجور. فعلى سبيل المثال فإن إرغام أطفال على العمل ما بين 10 و18 ساعة في اليوم في سن مبكرة يحرمهم من الوصول إلى التعليم ويكرس حلقة الفقر والأمية التي تحد من التنمية الوطنية.
وتؤكد أبحاث علمية لا يستهان بها قامت بها جهات أكاديمية ومنظمات غير حكومية وجود صلة مباشرة بين الدعارة وتجارة البشر. وفي الحقيقة، فان الدعارة ونشاطات متصلة بها تسهم في تجارة البشر من خلال تشكيلها واجهة يتستر وراءها مروجو الاستغلال الجنسي. ويشير تقرير وزارة الخارجية الأميركية أن نسبة 70 % من الأشخاص المتاجر بهم في كل عام، وقوامهم ما بين 600 ألف و800 ألف إنسان هي من النساء، كما أن نسبة 50 % منهم هي من الأطفال، وغالبية أولئك النساء والفتيات تقع ضحية للاستغلال الجنسي. كما يشير التقرير أن ضحايا هذه التجارة كثيرا ما يتحملون ظروفا قاسية تؤدي إلى تلقيهم إصابات نفسية وجسدية وجنسية. فالعدوى التي تنتقل جنسيا ومرض الإيدز كثيرا ما تسبباهما الدعارة القسرية.
فالاتجار بالبشر أصبح اليوم يوصف على أنه نوع من "الإرهاب الشخصي"، ذلك أنه يتم إغواء ثم إيقاع الأشخاص الضعفاء المعرضين له في الشرك ويُسلبون حياتهم، وهم في غالبيتهم من النساء والأطفال، في حين يبقى المحتالون، في الكثير من الأحيان، أحراراً ليعيشوا في المجتمع، ويجنوا الفوائد الاقتصادية من البؤس البشري الذي ألحقوه بضحاياهم.
عموما يستهدف تجار البشر الأطفال والفتيات من الضعفاء الذين يقعون فريسة لهم. ويعمد التجار إلى استخدام الحيل والإكراه لكسب ثقة ضحاياهم. وفي كثير من الأحيان تشكل هذه الحيل وعودا بالزواج أو التوظيف أو الفرص التربوية أو حياة أفضل. وهؤلاء الضحايا يقعون فريسة العصابات نتيجة العديد من العوامل مثل الفقر وجاذبية مستويات العيش الأعلى في أماكن وبسبب انعدام فرص العمل، والجريمة المنظمة، والعنف الذي يمارس ضد النساء والأطفال، والتمييز ضد النساء، والفساد الإداري، والاضطراب السياسي، والنزاعات المسلحة، والتقاليد الثقافية مثل الرق التقليدي.
وعلى جانب الطلب، فان العوامل التي تدفع تجارة البشر هي صناعة الجنس، والطلب المتزايد على العمالة القابلة للاستغلال. كما أن نشر الصور الإباحية والسياحة الجنسية أصبحا صناعتين عالميتين، تسهلهما تكنولوجيات مثل شبكة الإنترنت. وما يدفع لتجارة البشر الطلب العالمي على عمالة غير مشروعة ورخيصة الأجور ومعرضة للخطر. فمثلا فان أكبر طلب في بلدان شرقي آسيا المزدهرة هو على الخدم المنزلي الذين يقعون فرسية للاستغلال والاستعباد القسري.كما أن هناك طلبا متزايدا على النساء كزوجات وخليلات.
لقد وقفت العديد من الدول الأفريقية في المؤتمرات الدولية وخاصة في مؤتمر ديربان المنعقد في شهر سبتمبر من عام 2001 في وجه الدول الاستعمارية السابقة عن تجارة العبيد التي مارستها تلك الدول في العقود السابقة، وطالبت منها الاعتذار عن أخطائها بسبب الأساليب التي اتبعتها في المتاجرة بالبشر من الأطفال والنساء والعمال لخدمة مصالحهم، والعنصرية التي مارسوها ضدهم، وعن صور هيمنة البيض خلال الحكم الاستعماري، إلا أن الدول الأوروبية نأت بنفسها عن كل ما يمكن أن يثير مطالبات بتعويضات عن سنوات العبودية في التعبير عن خشيتها من أن يطلق تقديم اعتذار كامل موجة من قضايا التعويضات المكلفة، كما رفضت أوروبا أيضا ربط المساعدات النقدية بأخطاء الماضي.
وترى المنظمات الدولية أن الحكومات التي تتساهل حيال هذه التجارة إنما تتساهل حيال شكل من أشكال الاستعباد. وقد ظهرت هذه المشكلة في أميركا التي تعمل على وقفها، حيث تجرم القوانين الأميركية أي شخص يدخل الولايات المتحدة، أو أي شخص يسافر إلى الخارج، لأغراض التعاطي بالجنس مع الأطفال.
إن مكافحة ومنع الاتجار بالبشر يتطلب "نهجاً متعدد الجوانب"، حيث تتطلب هذه القضية الإنسانية والأخلاقية بذل جهود المجتمعات المحلية والدولية لإعادة تأهيل الضحايا وكيفية دمجهم في المجتمع، وهذه كلها أمور ضرورية لمعالجة مشكلة "الرق الحديث" كما يصفها بعض المسؤولين في العالم. ويتطلب الحيلولة دون وقوع ضحايا جديدة حملات تثقيفية مناوئة للاتجار بالبشر، وبرامج لمنع السياحة الجنسية، وبدائل اقتصادية للمجموعات المعرضة للخطر.
وما لم تصدر تشريعات رادعة تشمل كافة أشكال المتاجرة بالبشر وتجعل العقوبة المفروضة عليها تتناسب مع خطورة الجريمة نفسها, فسوف تظل هناك ثغرات يستطيع هؤلاء المجرمون النفاذ منها هربا من العقاب على هذه التجارة الغير آدمية. وحين يحدث ذلك, يمكن أن يكون هناك أمل في التقدم في طريق القضاء على هذه الصورة البشعة للعبودية في العصر الحديث, والتي تعتبر دليلا حيا على فشل العالم في حماية الأطفال. فمكافحة هذا الأمر يعتبر نوعا من الكفاح في سبيل الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وحكم القانون وجميع معتقدات المجتمع المدني كما يصفه البعض، الأمر يتطلب إنزال أشد عقوبة ضد أولئك الذين يخلقون هؤلاء الضحايا ويجنون الأرباح من معاناتهم.
التعليقات