المال نعمة هل نحسن التعامل معها؟!


د. عبد الرحمن سليمان الطريري


علاقة الإنسان بالمال علاقة وثيقة منذ أن وجد على هذه الأرض، وذلك أن المال يمثل عصب الحياة ومصدر معين على الوفاء باحتياجات ومتطلبات الأفراد والمجتمعات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العلاقة بين الإنسان والمال في قوله quot;ويحبون المال حبا جماquot;، كما أشار إلى قيمته المعنوية كما ورد في الآية الكريمة quot;المال والبنون زينة الحياة الدنياquot;. ومع إدراك حقيقة هذه العلاقة لا بد من التأكيد أن قيمة المال مهما علت لا يمكن أن تجعل منه أو من جمعه هدفا، بل هو وسيلة تحقق من خلالها بعض الغايات والأهداف الأخرى. ويأتي الحث على جمعه والسعي في ذلك لتحقيق الأهداف والغايات التي من أجلها خلق الإنسان. واستنهاضا لهمم الناس في السعي والعمل يؤكد القرآن أن الأرض بما فيها من كنوز وخيرات مسخرة للإنسان كي يستثمرها ويستفيد منها quot;هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشورquot;، وهذا السعي ليس مقصورا على مرحلة عمرية أو فترة زمنية معينة، بل هو متاح ومشجع عليه حتى يرث الله الأرض ومَن عليها quot;لو كان في يد أحدكم فسيلة وجاءت القيامة فليغرسهاquot;.


إن معادلة جمع المال والحصول عليه وإنفاقه معادلة دقيقة تتطلب اتزانا ومراعاة كثير من الأمور، إذ لا مكان للمال الحرام سواء كان مالا مسروقا أو مال رشوة وغيرها، كما أنه لا مسوغ من جمع المال وتكديسه وعدم إنفاقه واستخدامه استخداما مناسبا في الإنفاق على الذات quot;والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماquot;، وإذا كان جمع المال ليس هدفا بحد ذاته كما سبق الإشارة، لذا جاء التأكيد أن جمعه دون الاستفادة منه قد يتحول إلى وبال quot;والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليمquot;، ونظرا لأن المال ما وجد إلا لمصلحة الأفراد والمجتمعات بغرض إنفاقه الإنفاق المناسب والملائم دون تقتير أو إسراف وتبذير، لذا جاء الحث على هذا التوازن quot;وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفينquot; وقوله quot;يا أيها الذين آمنوا خذوا زينتكم عند كل مسجدquot;.


وإذا كانت للمال آثار تتضح على الفرد في ملبسه ومشربه ومسكنه ومركبه، فإن له آثارا على المجتمع في نموه وتطوره وتوافر الخدمات فيه والبنية التحتية من طرق وكهرباء وماء واتصالات ومدارس ومستشفيات وغيرها، وبمقارنة بسيطة نجد أن الدول الشحيحة في مواردها تفتقد الكثير من الاحتياجات الحياتية، وذلك بسبب عدم توافر المال الكافي لإيجاد هذه الخدمات، كما توجد أيضا دول أخرى ذات موارد ضخمة لكنها في الوقت ذاته متراجعة في شأن الخدمات والبنية التحتية، وهذا في غالب الأحيان يعود إلى سوء الإدارة، مما يترتب عليه إنفاق للمال في غير مواضعه الصحيحة، وهذا الوضع ينطبق على الأفراد، فكم من فرد ملك مالا وفيرا لكنه فقده في لحظة عين بسبب الإسراف والبذخ ولم ينعكس أثر المال على حياة الفرد بالشكل الطبيعي والمعقول. وقد يشكل المال نقطة تحول في حياة الناس، إذ قد ينقلهم من وضع سيئ إلى وضع أفضل في تعليمهم وفي الخدمات الصحية التي يحصلون عليها، وفي شؤون حياتهم كافة. ولو تمعنا في آثار المال في العلاقة بين الأفراد وبين الأمم لتبين أنه قد يكون سببا في علاقة حميمة وقوية، خاصة إذا استخدم في أهم وجوه الإنفاق الحسن، الإنفاق في سبيل الله.


كما أن للمال أثرا واضحا في تقوية العلاقات الاجتماعية وزيادة الصلة بين الناس إذا نحن أحسنا استخدامه وتوظيفه، إذ إن الإنفاق على الآخرين والصدقات والهدايا يزيد من التواصل والمحبة quot;تهادوا تحابواquot;، كما يمكن أن يكون سببا في الفرقة والشحناء والنزاعات إذا نحن جعلنا من المال هدفا في الحياة، وكم من القصص التي يتداولها الناس فيما بينهم في هذا الشأن.


وتجدر الإشارة إلى حديث الفقراء مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءوا إليه يشكون من أن أهل الأموال يصلون كما يصلون ويصومون كما يصومون، لكن الأغنياء يتصدقون والفقراء لا يتصدقون، وفي هذا ميزة إضافية يتمتع بها الأغنياء على الفقراء، مما يعطيهم فرصا أكثر للأجر والمثوبة. وقد ورد في أكثر من حديث وآية أهمية المال وقيمته على الصعيد الفردي والاجتماعي quot;اليد العليا خير من اليد السفلىquot;، فالغني الذي يبذل في سبيل الخير وينفق على الفقراء ويقيم المشاريع الخيرية يطول فضله شرائح كثيرة من أبناء المجتمع وينتفعون بماله، فالطالب يدرس في المدرسة التي أقامها المحسن، والمريض يتعالج في المستشفى، والجائع يشبع، والعريان يكتسي، والمشرد يجد ملاذا يلجأ إليه ومسكنا يفد إليه.


ووجوه الإنفاق الحسن كثيرة، بدءا من الإنفاق على النفس والولد وأعمال البر والخير، والتي لا حدود لها كبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وعلاج المرضى وبناء الدور للفقراء والمساكين وتزويج الفقراء وغيرها، إلا أن أفضل أوجه الإنفاق ما كان على النفس والأهل quot;ولا تغلل يدك إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراquot;، quot;إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراquot;، وبعد الإنفاق على النفس والأهل يكون الإنفاق على الفقراء والمساكين زكاة وصدقة quot;ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيراquot;، quot;وفي كل كبد رطبة صدقةquot;، quot;دخلت امرأة النار في هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرضquot;. وهذا تأكيد أن الحيوان داخل ضمن مجموعة من ينفق عليهم الإنسان ويبرهم في عطفه ومساعدته. أما آثاره في العلاقات بين الأمم والمجتمعات فيكفي ما نقرأه ونشاهده من حروب طاحنة نتجت بفعل الهوس الذي يسببه المال لدول كي تغزو وتحارب دولا أخرى، وما الاستعمار إلا صورة معبرة وبشكل واضح جلي لإغراء المال والثروات، مما يترتب عليه إغناء لمجتمع وإفقار لمجتمع آخر، حيث تسرق ثرواته وتنهب بفعل القوة والجبروت الذي لا حدود له. أما إغراؤه للأفراد فيكفي أن نعلم حجم الجرائم التي يرتكبها بعض الأفراد كالسرقة والسطو والاتجار بالمحرمات، بفعل إغراء المال.


وإذا كان سياق الحديث فيما سبق يتناول علاقة الفرد بالمال، إلا أن الأمم ممثلة في الحكومات علاقتها أقوى وأوثق، خاصة أن الحكومات تمتلك الثروات وبيدها آليات ضخمة وقوية لجمعه وإنفاقه، لذا تلزم الإشارة إلى الواجب الحتمي على هذه الحكومات التي يستوجب تعاملها مع المال بحكمة ودراية دون إسراف وتبذير في أعمال وأنشطة ليس لها مردود على الصعيد التنموي، وبالأخص في مجال التعليم، الصحة، والخدمات من ماء، كهرباء، طرق، واتصالات تزيد من قوة ومناعة المجتمع في وجه الأطماع الخارجية وتحميه في الداخل من شر الانقسامات والتشرذم والفرقة. فهل يا ترى نحاسب أنفسنا أفرادا ومجتمعات في تعاملنا مع المال ونعرف من أين نحصل عليه وكيف ننفقه بغرض المحافظة على الثروات التي أنعم الله بها علينا موظفين في ذلك مبدأ الأولويات في الإنفاق، ولأهمية المال وقيمته جاء النهي صريحا عن عدم إعطاء السفهاء الأموال والثروات حتى لا يسيئوا استخدامها quot;ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكمquot;، فكم من أسرة كان مصيرها الفقر بسبب سوء تصرف أفرادها بالمال الذي منحهم الله، وكم من مجتمع يعاني أبناؤه الفقر والبؤس بسبب سوء إدارة المال والثروات.