سيبدأ مفعولها الفيروسي بالوصول
صندوق النقد: الدول الصناعية المتقدمة ستدخل حالة من الكساد

طلال سلامة من روما: في مطلع شهر سبتمبر(أيلول) الماضي جرى تعيين البروفيسور quot;أوليفييه بلانشارquot; (Olivier Blanchard) رئيساً للقسم الاقتصادي في صندوق النقد الدولي. وكان البروفيسور بلانشار يعلم جيداً أن مهمته متعبة للغاية. فأزمة القروض العقارية الأميركية ساهمت في تلغيم صلابة الأسواق المالية. بالفعل، وعلى مسافة أسبوعين فقط من تعيينه رئيساً للقسم الاقتصادي في صندوق النقد الدولي انهار مصرف quot;ليمان بروذرزquot; مما حول هذه الأزمة الى حالة ذعر عامة. ولد البروفيسور بلانشار في فرنسا، عام 1948، وقاد سيرة مهنية عريقة في معهد quot;ماساشوستس انستيتيوت أوف تكنولوجيquot;. من هناك وجد البروفيسور نفسه داخل إعصار هز الأسواق العالمية. في مطلع شهر أكتوبر(تشرين الأول) الماضي، وأثناء الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي بواشنطن، عرض البروفيسور توقعات اقتصادية سوداوية ستسبب في الدول الصناعية المتقدمة حالة من الكساد القاتمة، سيبدأ مفعولها الفيروسي الوصول في عام 2009. بعد اختتام هذا الاجتماع السنوي، وجد صندوق النقد الدولي نفسه غارقاً مباشرة في عمليات مالية لدعم بعض الدول، كما أيسلندا وأوكرانيا. مع ذلك، يؤمن البروفيسور بلانشار بأن عمليات التأميم والمساعدات الحكومية كانت ذات فائدة عندما بلغت الأزمة المالية أوجها. اليوم، ينبغي على هذه الدول التراجع عن هذه العمليات الوقائية. واليكم نص حوار المقابلة الهاتفية التي أجراها معه طلال سلامة، مراسل صحيفة quot;ايلافquot; الإلكترونية من روما:

هل تعتقدون أن أسوأ ما جلبته الأزمة المالية معها قد ولى؟
على الأرجح نعم! لقد احتجنا الى وقت طويل لكن الدول نجحت، في النهاية، في اللجوء الى المضادات الصحيحة لمواجهتها. قد تكون هندسة هذه الإجراءات، التي تبناها الجزء الأكبر من الدول المتطورة، غير مثالي، إذ ينبغي العمل على تفصيلها، لكنني متفائل شخصياً لأن دول العالم جهدت لتحقيق درع واق فعال. أنا أتوقع أن يمر العالم بأيام صعبة، في العام القادم، بيد أنني آمل أن يتحسن الوضع تدريجياً. بالطبع، فان ذلك لن يحصل بين ليلة وضحاها لكننا سنرى انتعاش التداولات ثانية في السوق بين المصرفية أي أن المصارف ستعود الى تقديم القروض، الواحدة الى الأخرى.

اضطرت وزارة الخزينة الأميركية الى تغيير خططها لتدخل بالتالي في رؤوس أموال المصارف بدلاً من شراء تلك الأسهم quot;السامةquot; من هذه المصارف. لم حصل هذا التغيير؟
كان من الضروري تنفيذ نوعين من هذا التداخل الحكومي. قبل كل شيء، فانه من الضروري فهم القيمة التي ينبغي إعطاؤها الى هذه الأسهم السامة الموجود داخل موازنات العديد من المصارف. كما ينبغي تقويم الأسهم الجديدة التي عليها أن تحل محل هذه الأسهم المصرفية السامة. لكن كل ذلك قد يكون غير كاف. فالمصارف قد تكون خالية من رأس المال الذي يخولها العمل. بما أن القطاع الخاص لم يبد نية في التدخل لضمان صناديق الأموال الجديدة والطازجة كان من الضروري على حكومة واشنطن التداخل ثانية لتقديم هذا الضمان. ان عملية التداخل هذه، ذات رأسين، كانت حيوية في الولايات المتحدة الأميركية وخارجها.

هل ترون خطراً متعلقاً بظواهر التأميم؟
نعم! نحن نتجه الى فترة حيث سيتم تأميم العديد من المصارف، جزئياً، على الأقل، وهذا خطر بحد ذاته. نحن نعلم أن هيمنة الحكومات على المصارف قد يحض الأخيرة على اتخاذ قرارات خاطئة. أنا أعتقد أنه من الضروري دراسة استراتيجية فورية للخروج من آلية التأميم نحو إعادة خصخصة واسعة النطاق وبأسرع ما يمكن.

هل تخشون من مراقبة سياسية على القروض؟
في الماضي، كان سلوك المصارف العامة سيئاً. كما أنها خضعت لضغوط كبيرة لمساعدة قائمة معينة من الشركات. لا ينبغي علينا تبني نظام مالي مُراقب من جانب الحكومات إنما علينا اختيار نظام خاص له قواعد منظمة بدقة.

دخلت المؤسسات الليبية في رؤوس أموال مصرف quot;يونيكريديتquot; الإيطالي. ما هي نظرتكم حول تدخل الصناديق السيادية؟
ثمة مخاطر معروفة جيداً. ان مثل هذه المؤسسات لديها قوة مالية ضخمة، والعديد من المصارف محتاجة الى رؤوس أموال طازجة، في الوقت الحاضر. لذلك، فان تدخل الصناديق السيادية أكثر من طبيعي. تكمن المشكلة حول كيفية تنظيم هذه الصناديق بصورة غير سياسية. نحن توصلنا، في صندوق النقد الدولي، الى التعريف عن أسس quot;سانتياغوquot; وهي مجموعة من قواعد السلوك الصحيح التي من شأنها، في حال تم التقيد بها حرفياً، تفادي إثارة قضايا حساسة حول هذه الصناديق.

يزداد الطلب على المساعدات العامة من القطاع الاقتصادي. ما هو تعليقكم؟
ان حكومات الدول وجدت نفسها مجبورة على التدخل. اليوم، نسمع كثيراً كلمة (bail-out) الإنكليزية إشارة الى أن الحكومات تعرض المال العام كهدية على المصارف. لكن الواقع مختلف. فالأموال العامة جرى استثمارها لشراء أصول وأسهم من هذه المصارف. مع مرور الوقت، قد يجلب هذا الإنفاق الحكومي معه مردوداً جيداً على الدول. فكل شيء الآن، من أسهم وأصول وغيرها، يتم شرائه بأسعار متدنية. في صناعة السيارات، على سبيل المثال، ليس هناك ما يحث الحكومات على شراء الأسهم من المنتجين. فخطر الأزمة الشاملة، المشتقة من قطاع العربات، غير وارد.

ثمة طلبات مساعدات مالية ضخمة متأتية من منتجي العربات بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية. ما سيحصل لهذه الطلبات؟
استلمت الحكومات هذه الطلبات بيد أن ذلك لا يعني أنها توشك على تلبيتها! لو تم الموافقة على طلب منتج سيارات واحد فان الجميع عندئذ سيقف في طابور لا نهاية لها للمطالبة بالمال. على الحكومات المقاومة الى أقصى حد الى جانب تقويم كل طلب على حدا، بانتباه. في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً يمكن للحكومة كبديل مساعدة الأشخاص الذين لا يستطيعون دفع أقساط قروضهم العقارية والمعرضين لخطر مصادرة منازلهم. ان إبقاء هؤلاء الأشخاص في منازلهم وابعادهم عن الطرد له منافع تنعكس إيجاباً على المحرك الاقتصادي عموماً. أنا أتحدث عن حالة مساعدات استثنائية فردية. أما مساعدة الشركات الواقعة في مشاكل فليس له منافع عامة.

يتحدث صندوق النقد الدولي عن تفشي الحمائية(أي مذهب حماية الإنتاج الوطني عن طريق فرض رسوم جمركية عالية على السلع المستوردة) كعامل من عوامل الخطر على النمو الاقتصادي. ما هو تعليقكم؟
نحن نعلم منذ ثلاثينات القرن الماضي أن الكساد الاقتصادي يجلب معه حروباً تجارية. أنا لا أعتقد أن هذه الحروب ستكون على نطاق واسع. بالطبع، فإننا سنرى ظواهر الحمائية والعديد سيقولون ان الرأسمالية نظام فاشل. نحن نستطيع الخروج من الأزمة المالية فقط بواسطة إجراء الإصلاحات الضرورية في القواعد السوقية من دون إغلاق الحدود على التبادلات التجارية أو إعطاء القروض بصورة عمياء لأي كان.

سياسياً من غير السهل رفض الموافقة على طلبات المساعدة؟
في حال سجل عام 2009 النمو المتوقع، القريب من صفر، فان اقتصاديات الدول المتقدمة لن تعيش أوقات هنيئة. في حال اتجهت الأزمة المالية الى الأسوأ فان الضغوط على الحكومات ستتفاقم. أنا آمل أن تنجح الحكومات في مقاومتها.

يتوقع صندوق النقد الدولي انتعاشاً اقتصادياً اعتباراً من نهاية العام القادم. هل هناك خطر دخول هذه التوقعات في منعطف درامي، الى الأسوأ؟
بعد التدخل لمساعدة المصارف ثمة خطر متعلق بفقدان الثقة. فالأناس مذعورين. هاهم المستهلكين ينفقون أقل في حين توقفت الشركات عن الاستثمار. لذلك فان حالة الكساد قد تكون أعمق مما توقعناه لها، في شهر أكتوبر(تشرين الأول) الماضي. في حال أخفقنا في إعادة الثقة الى قلوب المستهلكين والشركات، فان الانتعاش الاقتصادي يمكن ألا يحصل في نهاية عام 2009!

ان توقعات صندوق النقد الدولي حول النمو الاقتصادي بإيطاليا سوداء اللون. لماذا؟
ان المسار الاقتصادي بإيطاليا ضعيف منذ سنوات. ويعود السبب في ذلك الى مشاكل تركيبية من حيث التنافسية والإنتاجية.

يطلب رئيس الوزراء البريطاني quot;غوردون براونquot; القيام بإصلاحات جذرية في الهندسة المالية العالمية. ما هو الهدف؟
علينا إعادة النظر في العلاقات بين المؤسسات والحكومات. نحن لا نبحث عن شبيه لما حققه quot;بريتون وودزquot;، من نظام تداولات ثابتة، بعد الحرب العالمية الثانية، إنما عما هو مختلف تماماً.

ماذا يحتاج العالم إليه اليوم؟
علينا الجلوس حول طاولة واحدة لمناقشة ما حصل وكيفية تفادي عبور أزمة مالية أخرى الى جانب رسم خريطة الإجراءات التي ينبغي على كل دولة تبنيها داخلياً ودولياً.

ماذا حصل في آلية الرقابة؟
أصيبت آلية الرقابة بخلل من جراء تشابك مجموعة من الآليات التنظيمية السيئة داخلها. في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، فان الشركات، كما (Fannie Mae) و(Freddie Mac)، التي قدمت ضمانات على القروض العقارية لم تخضع لقوانين تنظيمية سليمة أبداً. هكذا، أقدمت هذه الشركات على تنفيذ خطوات quot;جنونيةquot;، كان من واجب السلطات متابعتها وإسكاتها منذ الولادة. علاوة على ذلك، فان جزء من النظام المالي، كما المصارف وشركات التأمين، لم يكن خاضعاً لآلية تنظيم متماسكة. ونحن لم نفعل شيئاً لمعالجة هذا العجز التنظيمي.

إذن هل من اللازم تشديد القيود؟
لا أعتقد أن هناك حاجة لاعطاء تعليمات، الى كل مصرف أم مؤسسة أم شركة على حدا، حول ما هو صح وما هو غلط. لتفادي هذه القيود المشددة، ارتكبت بعض المصارف أخطاء حمقاء كما تأسيس أدوات مالية، خارج موازناتها، أين تم إخفاء مخاطر هائلة. الى جانب استهداف التهرب من دفع الضرائب، على الحكومات مكافحة التهرب من تطبيق القوانين التنظيمية.

تتناقش الدول حول طبيعة النفوذ الذي يجب على صندوق النقد الدولي التمتع به. أي نفوذ يساعدكم اليوم في تخطي العقبات؟
يطلب رئيس الوزراء البريطاني تأسيس سلطة قادرة على التحذير حول المخاطر العالمية. وهذه مهمتنا أساساً. فنحن نراقب بصورة مستمرة جميع الدول ونتدخل لابلاغها عن المخاطر المحدقة بأنظمتها المالية والاقتصادية. يمكننا محاول جعل هذا التدخل مرئياً أكثر فضلاً عن تحذير الدول حول المخاطر الداخلية والعالمية الشاملة، في الوقت ذاته.

هل تحتاجون الى أدوات أخرى؟
لقد علمتنا هذه الأزمة أهمية التنسيق للحصول على نظام مالي متناغم ومتكامل. ان صندوق النقد الدولي لا يريد تنظيم العالم، فهذه ليست مهمته. كل ما نستطيع المساهمة به مساعدة السلطات على تأسيس أنظمة مراقبة فعالة وتفادي القوانين المتناقضة.