محمد عبد الكريم بكر:

قبل نحو عامين، إثر انهيار سوق الأسهم السعودية, كتبت مقالة في quot;الاقتصادية quot;عن حملة الانتقادات الحادة التي وُجّهت يومئذ ضد مؤسسة النقد العربي السعودي إلى حد تحميلها مسؤولية الانهيار وquot;خراب بيوت الناسquot; كما أسماه البعض. ورأيت في طرح تلك الانتقادات في العلن على النحو الذي جاءت فيه ظاهرة جديدة في السوق تستحق الوقوف عندها. ذلك أننا إلى عهد قريب كنا نفخر بأداء القطاع المصرفي لدينا والإشراف الدقيق الذي تمارسه المؤسسة عليه لما لها من صلاحيات مطلقة على نشاط البنوك في إطار quot;نظام مراقبة البنوك quot;الذي صدر في عام 1966م ولوائحه إلى درجة التدخل في تعيينات الوظائف القيادية وتحديد المتطلبات الواجب توافرها في أعضاء مجالس الإدارة والمديرين التنفيذيين فيها.

لكن يبدو أن المؤسسة, رغم كل أدوات الرقابة المتاحة لها, لم تتنبه لخطورة ماكان يجري في السوق من سياسة إقراض مفتوحة تورطت فيها جميع البنوك تقريباً لتمويل المتاجرة في الأسهم دون ضوابط رادعة أو تحسب لموارد الهلاك. أما بقية القصة فلا يجهلها أحد, إذ وجد الآلاف من المواطنين أنفسهم في مأزق عسير عندما غيرت السوق في شهر شباط (فبراير) لعام 2006م بشكل مفاجئ وجهتها جنوباً بدون توقف ما أيقظ في البنوك حواسها الفطرية بافتراس محافظ المقترضين قبل أن يسبقها إليها آخرون. تلك الخطوة من البنوك وما سبقها من تساهل في عمليات الإقراض شكلت موضوعاً رئيساً للجدل بين المراقبين والمتعاملين في السوق من جانب وبين المؤسسة من جانب آخر, وبينما كانت الأنظار تتابع عدد الضحايا والجرحى الذين سقطوا عقب ذلك الانهيار, فوجئت السوق بتصريح أطلقه أحد كبار المسؤولين في المؤسسة خلاصته أن quot;ما حدث في سوق الأسهم عملية تصحيح!quot;.
ثم توالت بعد ذلك الاشتباكات مع المؤسسة في ساحة الرأي العام, إذ فُتح ملف quot;لجنة تسوية المنازعات المصرفيةquot; والفترات الطويلة التي تستغرقها تلك اللجنة في دراسة القضايا. وكان من بين ما طرح في ذلك السياق المطالبة بتقويم أداء اللجنة من قبل فريق مستقل, إعادة هيكلتها, وإلزام أعضائها وجهازها التنفيذي بمعايير إفصاح حماية لجميع الأطراف. ولا ندري أين وصلت تلك المقترحات وغيرها لتطوير عمل اللجنة أم أن هناك نية لتصفية أعمالها, كما طالب البعض, ونقل مهامها إلى هيئات قضائية أخرى.
كما طُرحت قضية سيطرة أعداد محدودة من الأفراد والعائلات على حصص مؤثرة من رؤوس أموال معظم البنوك السعودية التي تعمل في بيئة تختزل معايير الشفافية إلى حد يجعل من الصعب على المساهمين أو غيرهم معرفة ما يدور في أروقتها أو معرفة الأيدي الخفية في صناعة قراراتها. إذ تمت مطالبة المؤسسة بالتدخل لمعالجة ذلك الوضع لما يشكله من خطورة في المدى الطويل على المجتمع ومؤسساته بتقليص تلك الحصص تدريجياً إلى حد تتراجع فيه خطورتها على القطاع المصرفي مهما توارثتها من أجيال قد تختلف مشاربهم عن أولئك المؤسسين.
ومن القضايا التي طرحت أيضاً في ميدان السياسات النقدية واستغرقت قدرا لا بأس به من الجدل موضوع الفوائض المالية وقنوات استثمارها سواء في الخارج أو في الداخل وما صدر بشأنها من تصريحات متضاربة حول إنشاء صندوق سيادي لإدارة تلك الفوائض.
اليوم تجد مؤسسة النقد نفسها مرة أخرى هدفاً للانتقادات الحادة في وسائل الإعلام لما يراه البعض من مواقف لها بخصوص ملف التضخم وما يندرج تحت ذلك الملف من سياسة نقدية وتعديل سعر صرف الريال. إذ يأخذ المراقبون على تلك المواقف أنها لا تعكس ما يجري فعلاً في السوق ذلك أنه من الصعب الفصل بين الحراك الكبير في أسواق العملات العالمية وبين الارتفاع المتواصل في أسعار السلع المستوردة كما تحاول المؤسسة جاهدة لإقناع الجمهور. إن مواقف المؤسسة من ملف التضخم وسعر الصرف يمكن أن تكتسب مصداقية مقنعة لو أنها قدمت للرأي العام أرقاماً تستند على دراسات بدلاً من ردود الفعل العفوية في المناسبات العامة والمؤتمرات.
ثم هناك ملف القروض الشخصية التي ما فتئت تسجل معدلات زيادة سنوية غير مسبوقة دون أن يقابلها زيادات موازية في المداخيل الحقيقية للأفراد وهو ما ينذر في نهاية المطاف, ولن يكون ذلك بعيداً, بمشكلة اجتماعية مؤلمة. ولعل المخاوف من تلك المشكلة ما دعت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي إلى تبني قرار برفض تحويل رواتب منسوبيها عن طريق البنوك لئلا يقعوا في الفخ الذي أُعد لهم. وعلى الرغم من أن ذلك الموقف للرئاسة يعد, بلا شك, موقفا أخلاقيا سليما، لكن قد لا يكون له سند في النظام. ومن ثم لا بد لمؤسسة النقد أن تتصدى لمعالجة ملف القروض الشخصية وعدم الركون إلى قوى السوق التقليدية من عرض وطلب لعدم تكافؤ الطرفين (البنوك والمقترضين) من حيث المعلومات المتاحة لكل منهما, أو الضمانات التي توفرها الأنظمة لحقوقهما.

إن تراكم الملفات الرئيسة أمام مؤسسة النقد العربي السعودي دون معالجة يزيد الفجوة بينها وبين السوق ما يؤدي إلى تآكل تدريجي للثقة التي بنتها على مدى عقود طويلة وتهميش للجهود الكبيرة التي تضطلع بها. ليس ذلك فحسب بل إن خلخلة الثقة في سلامة منهجية وأداء السلطات النقدية له تداعيات ضارة تدعو للقلق وينبغي التنبه لها.